الدبلوماسية هي لغة المصالح، ومع تغير أشكال وأنواع المصالح الدولية أصبحت مصطلحات الدبلوماسية تضم أصنافاً لم تكن معروفة في طبيعة العلاقات الدولية، لتحل محل أخرى تقليدية، بخاصة في عام 2023 الذي أوشك على الانتهاء محملاً بأحداث جسام، بين استمرار الحرب في أوكرانيا وتواصل التنافس الأميركي الصيني، انتهاء إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي يبدو أنها ستفرض نفسها أيضاً على أحداث العام المقبل.
وخلال العام الماضي ظهرت ملامح أنواع جديدة من الدبلوماسية فرضتها التطورات التكنولوجية أحياناً، والتطورات الجيوسياسية في أحيان أخرى.
الموصلات الرقمية
حرب التكنولوجيا المستعرة بين الولايات المتحدة وملاحقتها الصين استمرت في عام 2023، فبعدما فرضت واشنطن في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 قيوداً مشددة على تصدير الشرائح ومعدات تصنيع الرقائق والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأميركية إلى الصين، ردت بكين في يوليو (تموز) الماضي بإجراءات مضادة لتقييد تصدير منتجات مشتقة من معدني “الجاليوم” و”الجرمانيوم” اللذين لا غنى عنهما، لإنتاج أشباه الموصلات المستخدمة في الاتصالات والمركبات الكهربائية.
وفي أغسطس (آب) وسعت الولايات المتحدة الأميركية القيود على صادرات الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى خارج الصين لتشمل مناطق أخرى، بما في ذلك بعض بلدان الشرق الأوسط، إذ وجهت شركة نيفيديا، أحد عمالقة التكنولوجيا الأميركية، إلى ضرورة الحصول على تصريح عند تصديرها الرقائق الإلكترونية إلى بلدان معينة، وهو ما يعزوه مراقبون إلى خوف واشنطن من انتقال التكنولوجيا الأميركية إلى بكين عبر دول وسيطة، وذلك في ظل سعي واشنطن إلى الحد من الاستثمارات في التطوير الصيني للذكاء الاصطناعي، والرقائق الإلكترونية العسكرية وأجهزة الحواسيب، بهدف إبقاء الهيمنة التكنولوجية الأميركية على العالم.
غير بعيد من التنافس الصيني – الأميركي تلعب تايوان بورقة ضغط حاسمة لاقتصادات كثيرة، هي خبرتها في مجال الرقائق الإلكترونية التي توصف بنفط العصر الحديث، إذ تستحوذ تايبيه على إنتاج نحو 90 في المئة من الرقائق الإلكترونية المتطورة. وتعمل الجزيرة الصغيرة المنشقة عن الصين على استغلال ذلك التفوق الصناعي في اكتساب الأهمية السياسية، إذ ربط وزير الخارجية التايواني جوزيف وو في يونيو (حزيران) الماضي بين الموافقة على استثمارات بمجال الرقائق الإلكترونية في القارة الأوروبية، وتعزيز العلاقات الأوروبية مع الجزيرة.
الذكاء الاصطناعي
مثلما أصبح مصطلح الذكاء الاصطناعي معروفاً في معظم المجالات خلال الأعوام الأخيرة، دخلت الدبلوماسية قائمة القطاعات التي يلعب فيها الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً على رغم عراقة الأساليب التي تتبعها أحد أقدم المهن في العالم، وتنبأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل سنوات بأن من يسيطر على الذكاء الاصطناعي سيسيطر على العالم.
وفي مارس (آذار) الماضي ذكر تقرير لمجلة “فورين بوليسي” أن الذكاء الاصطناعي يساعد الدبلوماسيين خلال عملية المفاوضات، سواء بعملية الترجمة أو الحصول على المعلومات، كما سيساعد في إعداد المفاوضين قبل الجلوس لطاولة النقاش، فضلاً عن توفير أدوات الذكاء الاصطناعي استشارات ودعم للمفاوضين، وتحديد سيناريوهات لأفضل نتائج المفاوضات، وتجنيب الدبلوماسي الوقوع في أخطاء نتيجة نقص المعلومات أو خطأ التقدير.
889881-1191336853.jpg
دخلت الدبلوماسية قائمة القطاعات التي يلعب فيها الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً (غيتي)
وأشار التقرير إلى أنه خلال المفاوضات النووية الإيرانية التي أفضت إلى اتفاق 2015، طور فريق من وزارة الطاقة الأميركية نسخة طبق الأصل من موقع نووي إيراني، بهدف اختبار كل تبديل للتخصيب النووي الإيراني وتطويره.
وذكرت المجلة أن الذكاء الاصطناعي يخدم وكالات الاستخبارات في مجال مواجهة التجسس وتأمين الاتصالات والتسريبات.
دبلوماسية الغاز
مع تنامي بروز أهمية الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة، صار أحد محركات العلاقات بين الدول في السنوات الأخيرة، وتضاعفت تلك الأهمية مع اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي أثر في تدفق الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية.
وفي منطقة شرق البحر المتوسط التي رأت بلدانها في الغاز مجالاً للتقارب الاقتصادي ومن ثم السياسي، أظهرت تركيا على مدار العام المنقضي محاولات لشق صف منتدى شرق المتوسط، المنظمة التي استبعدت من عضويتها، إذ نجحت أنقرة أخيراً في تطبيع علاقاتها مع مصر بعد 10 سنوات من التوتر، وكان ملف الغاز أحد أبرز الأسباب التي دفعت تركيا لتلك الخطوة.
وبحسب تقرير للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية فإن تركيا أدركت أن التهدئة الثنائية هي المسار الوحيد لاختراق شبكة التعاون الإقليمية المؤلفة من مصر واليونان وقبرص، وكسر الاصطفاف السياسي ضدها في منتدى غاز شرق المتوسط، وكانت تركيا في صدارة مستوردي الغاز المصري خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2023.
كذلك لعبت “دبلوماسية الغاز” دوراً مؤثراً في تهدئة العلاقات بين تركيا وإسرائيل منذ العام الماضي وحتى نشوب الحرب الحالية في قطاع غزة، فخلال الزيارات المتبادلة بين البلدين كرر أردوغان في مناسبات عدة اهتمامه بالتعاون الثنائي في مجال الغاز.
كما كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية عن مناقشات لمد خط أنابيب بحري من حقول الغاز الإسرائيلية إلى تركيا، تمهيداً للتصدير إلى جنوب أوروبا، وهو ما كان سيشكل بديلاً عن خط “إيست ميد”، الذي كان يفترض أن يمتد بين إسرائيل واليونان مروراً بقبرص، لكن أنقرة أعلنت وقف تلك الخطط بعد اندلاع حرب غزة.
دولة أخرى عززت من أهميتها وعلاقاتها بفضل دبلوماسية الغاز، هي الجزائر التي نظرت إليها دول أوروبا بديلاً للغاز الروسي الذي كان يسد سابقاً 40 في المئة من احتياجاتها، استخدمت الجزائر ذلك الاحتياج ووسعت من شبكة عملائها الأوروبيين، انطلاقاً من إيطاليا التي أبرمت معها صفقات ضخمة للاستكشاف والتصدير، ثم سلوفينيا التي حصلت على صفقة لتزويدها بـ300 مليون متر مكعب سنوياً، والمجر التي طلبت مزيداً من إمدادات الغاز الجزائري.
دبلوماسية القمح
للعام الثاني على التوالي لعبت الحاصلات الزراعية بخاصة القمح دوراً كبيراً على الساحة الدبلوماسية الدولية، ارتباطاً بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، باعتبار البلدين كانا بين أكبر الموردين للقمح والذرة وحبوب أخرى.
وبعد فترة من الاستقرار النسبي في أسعار وتدفق القمح بفضل اتفاق الحبوب التي وقعت عليها موسكو وكييف برعاية تركيا والأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2022، عاد الاضطراب لسوق الحبوب بعد انقضاء مدة الاتفاق في يوليو الماضي، من دون توافق أطرافها على التمديد، بسبب إصرار الرئيس الروسي على أنها لم تحقق أهدافها.
وأعقب ذلك إعلان بوتين خلال قمة روسيا أفريقيا تقديم شحنات قمح مجانية إلى ست دول أفريقية، واستعداد موسكو لتعويض كل الكميات التي كان يمكن لأوكرانيا تصديرها، في مؤشر على إصرار موسكو على كسب مزيد من النفوذ داخل القارة السمراء، وسط حال الاستقطاب التي تواجهها منذ مطلع العام الماضي على وقع غزوها أوكرانيا.
الباحث في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في واشنطن الخبير الاقتصادي جوزف غلوبر نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية قوله إنه منذ بدء الحرب الأوكرانية التزمت دول عدة مستوردة في أفريقيا “الحياد” في الهيئات الدولية، حتى لا تثير استياء موسكو.
وفي المقابل أثارت تجارة الحبوب الأوكرانية خلافات داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما تمسكت خمس دول هي بولندا والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا بمنع دخول أو عبور شحنات الحاصلات الزراعية الأوكرانية الحاصلة على إعفاء جمركي، بداعي حماية منتجاتها المحلية، وهو ما اعترضت عليه كييف، فتدخلت المفوضية الأوروبية لرفع القيود التي فرضتها الدول الخمس، إلا أن بولندا تعهدت بتمديد حظر واردات الحبوب الأوكرانية أحادياً بغض النظر عن قرار الاتحاد الأوروبي.