كُتب الكثير حول دخول القوات التابعة لحزب العمال الكردستاني تحت اسم واجهات كردية سورية مع بدايات الثورة السورية، وهي القوات التي كانت قد تشكلت وتدربت بداية في المعسكرات التي خصصها نظام حافظ الأسد للحزب المذكور في سوريا ولبنان منذ أوائل ثمانينات القرن المنصرم.
ورغم وجود أحزاب كردية أقدم من هذا الحزب، كانت قد تشكلت في مختلف أنحاء كردستان، ومنها الحزب الديمقراطي الكردستاني-إيران 1945، والحزب الديمقراطي الكردستاني-العراق 1946، والحزب الديمقراطي الكردي في سوريا 1957، والحزب الديمقراطي الكردستاني-تركيا 1965؛ إلى جانب أحزاب أخرى ظهرت نتيجة الخلافات والانقسامات التي كانت ضمن الأحزاب المذكورة؛ رغم وجود هذه الأحزاب، تمكّن حزب العمال الكردستاني بفعل قواعد التنظيم الصارمة التي استلهمها من الأحزاب الشيوعية، خاصة الحزب الشيوعي السوفيتي في مرحلته الستالينية، وبفعل الدعم المخابراتي الذي حصل عليه من أجهزة دول المنطقة، من الحفاظ على وحدته، واستطاع التخلص من المتبرمين والمخالفين ضمن صفوفه بمختلف الأساليب، بما في ذلك الاغتيال. كما مارس التهديد والتغييب والقتل بحق أعضاء الأحزاب الأخرى في كردستان تركيا. وحينما انتقل إلى سوريا استمر في هذا الأسلوب، واستفاد من الامكانيات التي حصل عليها من نظام حافظ الأسد، ومن خبرة وتوجيهات الأجهزة الأمنية السورية والإيرانية.
وبعد إخراج أوجلان من سوريا، تمّ التوصل إلى اتفاقية أضنة مع تركيا عام 1998، التي اُرغم حافظ الأسد عل توقيعها بعد التهديد التركي باجتياح الأراضي السورية؛ وربما كان هناك دور أمريكي في هذا الموضوع، وذلك في أجواء ترتيب الأوضاع العراق، والاستعداد في ذلك الحين لمرحلة ما بعد صدام حسين.
ومع دخول قوات هذا الحزب تحت يافطة الواجهات السورية (حزب الاتحاد الديمقراطي، قوات حماية الشعب…الخ)، تصرف في المناطق الكردية السورية كسلطة أمر واقع، وذلك بناء على التوافقات والتفاهمات التي تمت بينه وبين الأجهزة الأمنية في سلطة بشار الأسد، وبتوسط من بعض كرد العراق؛ فتحكّم بالنفط، وفرض التجنيد الإجباري، وأدخل تعديلات مزاجية في التعليم تحت شعار التعليم بالكردية؛ ومارس العنف بحق المعارضين، واستخدم أسلوب ترويع الناس عبر الصدمات العنيفة لإلزامهم بالصمت؛ فارتكب جملة مجازر في عدد من المدن والبلدات؛ كما مارس الاغتيالات والتغييب، ولاحق النشطاء الكرد الذين كانوا قد تفاعلوا مع الثورة، وانضموا إليها منذ أيامها الأولى.
وليثبت نفسه، ويحصل على قسط من الشرعية السياسية، دخل في حوارات عقيمة مع الأحزاب الكردية السورية، ودخل في هيئة التنسيق، حتى أن رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لـ “ب. ك. ك” كان نائباً لرئيس هيئة التنسيق، وتوصل مع الأحزاب الكردية وهيئة التنسيق إلى اتفاقيات شكلية لم تنفذ، بل لم تكن لدية أي نية لتنفيذها أصلاً.
وأعلن عن تشكيل الإدارة الذاتية عام 2014 من طرف واحد، وبدأ يبحث عن ممثلين لمختلف المكونات المجتمعية السورية في المنطقة، ووجد ضالته في بعض من كانوا، وعلى الأغلب ما زالوا، على علاقة وثيقة مع الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة بشار، وهي الأجهزة التي ما زالت موجودة في المناطق التي من المفروض أنها خاضعة لـ “لإدارة”؛ كما يتواجد في المناطق ذاتها الإيرانيون والروس الذين يقومون بتجنيد الناس، ويراقبون الأوضاع رغم العلاقات العسكرية الأمنية بين “قسد” الواجهة السورية العسكرية لحزب العمال الكردستاني والتحالف الغربي بقيادة الأمريكان. وهو التحالف الذي تشكّل لمحاربة داعش، مع الإشارة هنا إلى عدم اعتراف الأمريكان والتحالف الغربي عموماً بالإدارة الذاتية المعنية هنا.
وفي أجواء انشغال العالم والسوريين بالحرب الإسرائيلية على غزة التي همّشت حتى الحرب الروسية على أوكرانيا، طرح هذا الحزب مشروعه الخاص المسمى بـ “العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا”، وهو مشروع يفتقر إلى أبسط قواعد المشروعية من ألفه إلى يائه كما يُقال.
فالعقد الاجتماعي الذي يعتبر بمثابة الدستور الذي يحدد شكل الدولة ونظامها السياسي، وطريقة إدارتها، وكيفية حل الخلافات بين مؤسساتها وأجهزتها، يتم التوصل إليه بعد نقاشات معمقة بين ممثلي المكونات المجتمعية والنخب وأصحاب الاختصاصات من مواطني البلد أنفسهم. ولا يمكن التوصل إليه عبر أساليب الفرض (تهديدات أو اغراءات) من قبل قوة خارجية هيمنت بقوة السلاح، وتحاول، وبمعزل عن إرادة السوريين، أن تشرعن نفسها من خلال التحكم بالتفاصيل المجتمعية والسياسية، وبناء أجندات لا علاقة لها بتوجهات السوريين وتطلعاتهم.
وبغض النظر عن افتقار الجهة التي أصدرت المشروع لأي مشروعية سيادية، أو أهلية قانونية لإصداره؛ وبعيداً عن اللغة الركيكة التي كُتب بها، إلى جانب الحشو؛ واستخدام العبارات الشعبوية وتكرارها بصورة مملة؛ إذ تتكرر كلمة ديمقراطي والديمقراطية، على سبيل المثال، 21 مرة في الصفحة الأولى، و23 مرة في الصفحة الثانية؛ هذا إلى جانب التكرار اللافت لكلمتي البيئة والمرأة، فإنه يخيّل للمرء بأن البيئة قد تحولت إلى عقيدة أيديولوجية جديدة للحزب المذكور؛ أو أنها قد أصبحت سمة من السمات الأساسية المطلوبة لتحديد هوية الشعوب والأنظمة السياسية.
والأمر ذاته بالنسبة إلى موضوع المرأة، مع أهمية الإشارة هنا إلى معرفة جميع المتابعين لهذا الملف لحقيقة أن من يقرر في حزب العمال هم مجموعة من الرجال المسنين في جبال قنديل، وهي مجموعة تذكرنا بمجموعة بول بوت التي أثارت الرعب وأرهبت الكمبوديين نتيجة التصفيات الكبرى التي مارستها ضدهم تحت شعارات ثورية رومانسية كبرى، وتسبب في مقتل نحو 3 ملايين من عدد سكان كمبوديا الذي كان يبلغ في ذلك الحين (1976-1979) نحو 8 ملايين.
من جانب آخر، يتبنى مشروع العقد الاجتماعي “القسدي” فكرة “الكونفدرالية الديمقراطية” التي من المفروض أنها تتحدث عن اتحاد بين دولتين مستقلتين، ويخلط بين النظام الفدرالي والكونفدرالي، ويعطي لحزب العمال عبر واجهاته “حق” اتخاذ قرار الحرب والسلم، وإقامة العلاقات الدبلوماسية، وانتهاج السياسة النقدية المستقلة الخاصة بها. ويعبّر أصحاب المشروع في الوقت ذاته عن استعدادهم لتعديل مشروعهم في حال التوصل إلى توافقات سورية عامة، فهم يتصرفون من موقعهم كقوة خارجية لها ولاءات خارجية، وكأنهم قوة سورية، لها الحق في التدخل في شتى الجوانب، كما أنهم يستخدمون عبارات تثير الكثير من التساؤلات حول مصطلح “شعوب مناطق الإدارة الذاتية”، وهو مصطلح يذكّرنا بمصطلحات الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي الميدان الاقتصادي، ينتقد المشروع المعني هنا الرأسمالية الاستهلاكية؛ بينما يرتبط مروجوه، في واقع الحال، بأوثق العلاقات العسكرية والأمنية مع القوات الأمريكية على الأرض السورية.
كما يتحدث المشروع عن الاشتراكية التي لم تعد موجودة كنظام لا في الشرق ولا في الغرب.
هذا في حين أن مسائل حرية النقد، والتعبير عن الرأي، واستخدام الإعلام من قبل الأفراد والأحزاب والمنظمات المختلفة تعد من المحظورات في الممارسات الفعلية لحزب العمال الكردستاني وواجهاته؛ لذلك يأتي موضوع الدعوة إلى احترامها في العقد “القسدي” في سياق الدعاية والاستهلاك المحلي. أما مسألة المصادقة على المشروع التي تمت ضمن الدوائر الخاصة بالحزب المذكور فقد كانت كافية من وجهة نظر الحزب المعني لتطبيقه، واعتباره بمثابة دستور أمر واقع يطبق على المناطق الخاضعة لنفوذه.
ومن الواضح أن هذا الحزب يستغل الدعم الدولي الإقليمي الذي يحصل عليه مقابل تأدية المهام المكلف بها؛ كما انه يستغل واقع انشغال الأحزاب الكردية السوري بخلافاتها وصراعاتها وانشقاقاتها، إلى جانب ترهّلها وضعفها وبعدها عن الناس، أو بكلام أدق: ابتعاد الناس عنها بعد أن اصيبوا بخيبة أمل جرّاء مراهنتهم عليها.
واللافت في المشروع المذكور أنه يتحدث عن جميع الموضوعات، اعتباراً من البيئة والمرأة، مروراً بالآثار وحريات التعبير وأوضاع المسنين والطفولة وذوي الاحتياجات الخاصة والصحة والتعليم وغير ذلك، ولكن الكلام شيء والواقع شيء آخر. فعلى أرض الواقع يمارس الحزب المذكور سياسات وتوجيهات حزب العمال عبر كوادر الأخير القادمين من قنديل، ويتحكّمون بكل مفاصل الإدارة بعيداً عن مراقبة الصحافة الضعيفة أصلاً في “مناطق الإدارة”. ويبقى للمسؤولين الشكليين، الذين تم تعيينهم من قبل حزب العمال للتعمية، فسحة الجلوس في المكاتب، وتكرار التصريحات الملقنة التي تستخدم للتضليل والدعاية، بينما الوقائع تؤكد أن من يمتلك الصلاحيات، ويتحكّم بالقرارات هم كوادر قنديل، وهي قرارات تتخذ بالتنسيق مع سلطة آل الأسد وراعيها الإيراني.
ومن الأمور التي تستوقف في المشروع أن المسائل المهمة معلقة، وهي تنتظر وفق ما هو وارد في المشروع نفسه سن قوانين خاصة تحدد كيفية التطبيق؛ وهذه الآلية تذكّرنا بالدساتير المؤقتة التي اعتمدتها الانقلابات العسكرية في منطقتنا، خاصة في سوريا خلال حكم البعث، وهي الدساتير التي أصبحت مع الوقت دائمة، شأنها في ذلك شأن أحكام الطوارئ التي لم تُستمد من دساتير مكتوبة بإرادة المواطنين الأحرار، ومصادق عليها عبر انتخابات شفافة، وتحت إشراف المنظمات الدولية المعنية.
أما حديث “الإدارة” عن الانتخابات الخاصة بها، أو “الاجراءات الديمقراطية” التي تتشدق بها فهي أشبه بالانتخابات “الديمقراطية” التي كان نظام حافظ الأسد يتبجح بها، وهي الانتخابات التي كانت نتيجتها التسعينية (99.99%) لصالح النظام معروفة سلفاً قبل إجرائها.