أنجزت حكومة العراق بنجاح الانتخابات المحلية (مجالس المحافظات) بعد تعطيل استمرّ لنحو عشر سنوات، وأنهت فراغاً إدارياً في الحكومات المحلية بدأ عام 2019 عندما رضخت حكومة رئيس الحكومة الأسبق عادل عبد المهدي لمطالب متظاهري “حراك تشرين” واتّخذت قراراً بإقالة جميع المحافظين أملاً بتهدئة الشارع.
جرت الانتخابات المحلية العراقية في ظلّ مقاطعة التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، الأمر الذي شكّل تحدّياً واضحاً لجميع القوى السياسية، خاصة قوى وأحزاب وفصائل “الإطار التنسيقي” المتحالفة مع إيران، التي رأت إلى المعركة الانتخابية معركة تحديد أوزان وفرز قواعد بينها وبين التيار الصدري، وفرصة لإثبات قدرتها على تمرير هذا الاستحقاق من دون مشاركة الصدر الذي اعتمد خيار الانسحاب والمقاطعة منذ قرار استقالة نوابه من البرلمان صيف عام 2022.
17 % فقط شاركوا
بناء على إحصاءات رسمية لأصوات المقترعين في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت يوم 10/10/2021 في عهد حكومة مصطفى الكاظمي، فإنّ عدد المقترعين للتيار الصدري ونوابه في كلّ العراق بلغ نحو 850 ألفاً، أي أنّ ما يملكه التيار من مناصرين وقواعد شعبية لا تتعدّى مليون مقترع في أحسن الأحوال في ظلّ احتمال عدم مشاركة البعض منهم في تلك الانتخابات. لكنّ المتعارف عليه في العراق أنّ قواعد التيار الصدري هي الجماعة الأكثر التزاماً بتوجّهات زعيمها ومن الصعب أن تخالف أو تتخلّف عن المشاركة، خاصة أنّ تلك الانتخابات كانت تجري بناء على قانون الدوائر الصغيرة وسمحت للصدر بالحصول على أكثر من 73 مقعداً ووضعته في صدارة المنتصرين والأول في المكوّن الشيعي.
أعلنت المفوضية المستقلّة للانتخابات أنّ عدد المقترعين في الانتخابات المحلية بلغ أكثر قليلاً من 6 ملايين مقترع من أصل 16 مليوناً يحقّ لهم الاقتراع ممّن حصلوا على بطاقة انتخاب جديدة “بايومترية”. في حين أنّ عدد من يحقّ لهم الاقتراع في كلّ العراق يتجاوز عددهم 23 مليون عراقي. وبالتالي فإنّ نسبة المشاركة التي أعلنتها المفوضية البالغة 41 في المئة لم تأخذ بالاعتبار رقم 23 مليوناً بل رقم 16 مليوناً من الحاصلين على بطاقة انتخاب لأنّ النسبة في حال احتساب جميع من يحقّ لهم الاقتراع تصبح في حدود 17 في المئة.
لم تقف مفاجأة الحلبوسي عند حدود بغداد. فالانتصار الكبير الذي حقّقه لم يقتصر على محافظة الأنبار حيث حلّ في المركز الأول، بل استطاع المشاركة أيضاً في مختلف المحافظات السنّية والمختلطة
كشفت هذه الانتخابات أنّ حجم المقاطعة كان واسعاً وكبيراً، وقد وصل إلى نحو 17 مليوناً، أي أنّ المعركة التي خاضتها كلّ القوى والأحزاب والجماعات السياسية من كلّ المكوّنات المذهبية والعرقية، كانت تدور على ساحة 6 ملايين صوت، وفي أحسن الأحوال 7 ملايين إذا ما أضفنا إليهم القاعدة الصدريّة المقاطِعة.
لذا تواجه هذه النتائج، وإن كانت تسمح لهذه القوى بالسيطرة على الحكومات المحلية في المحافظات، تحدّياً أكثر جدّية في إعادة النظر في تراجع شعبيّتها وقواعدها الشعبية نتيجة الأداء السلبي المتراكم على مدى عقدين من الزمن، وأن تستغلّ الفرصة التي وفّرها لها القانون الذي لا يأخذ نسبة المشاركة الشعبية في قانونية وشرعية النتائج لتقديم تجربة مختلفة تقوم على تعزيز الخدمات والتأسيس لتنمية حقيقية في هذه المحافظات بما يضمن تراجع منسوب الفساد الحزبي والشخصي الذي سيطر على المشهد في الماضي على حساب مصالح المواطن.
مفاجأة العامري والخزعلي.. وتراجع المالكي
لا شكّ أنّ هذه الانتخابات شكّلت مفاجآت كثيرة على مستوى النتائج والتمثيل الذي حقّقته القوى والأحزاب داخل المكوّنات العراقية المختلفة الشيعية والسنّية والكردية. فعلى المستوى الشيعي وبعدما كانت كلّ التوقّعات تذهب إلى إمكانية تقدّم “ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، جاءت النتائج لمصلحة تحالف “نبني” بقيادة زعيم تنظيم “بدر”، هادي العامري، المتحالف مع حركة “صادقون”، الجناح السياسي لـ”عصائب أهل الحق”، بقيادة قيس الخزعلي. إلا أنّ هذا التقدّم لتحالف “نبني” لا يلغي قدرة المالكي على البقاء في صدارة القوى الشيعية لأنّه خاض الانتخابات بتحالف مع قوى وأحزاب وجمعيات تدور كلّها في فلك “حزب الدعوة” الذي يتولّى أمانته العامّة. في حين لم يحقّق “تحالف قوى الدولة الوطني” بقيادة عمّار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي خرقاً واضحاً، وبقي في حدود المنافسة بينه وبين القوى المدنية التي لم تقاطع الانتخابات.
من المتوقّع أن تنعكس هذه النتائج المتقاربة بين القوى الشيعية سلباً على آليّات تشكيل مجالس المحافظات، بحيث قد تفرض تحالفات فيما بينها في بعض المحافظات، وتعطيل في البعض الآخر نتيجة تعقيد أيّ تحالف قد يحاولون تشكيله.
أعلنت المفوضية المستقلّة للانتخابات أنّ عدد المقترعين في الانتخابات المحلية بلغ أكثر قليلاً من 6 ملايين مقترع من أصل 16 مليوناً يحقّ لهم الاقتراع
الحلبوسي أوّلاً في بغداد
المفاجأة الصادمة لقوى “الإطار التنسيقي” جاءت من النتائج التي حقّقها حزب “تقدّم” بقيادة رئيس البرلمان المقال محمد الحلبوسي. إذ استطاع خرق السائد على مدى السنوات الماضية وحقّق المركز الأول في انتخابات العاصمة بغداد وفرض نفسه شريكاً منافساً قادراً على التحكّم بعملية تسمية المحافظ ورئاسة مجلس المحافظة.
لم تقف مفاجأة الحلبوسي عند حدود بغداد. فالانتصار الكبير الذي حقّقه لم يقتصر على محافظة الأنبار حيث حلّ في المركز الأول، بل استطاع المشاركة أيضاً في مختلف المحافظات السنّية والمختلطة في البصرة وديالى ونينوى، في رسالة واضحة إلى كلّ الذين وراء قرار المحكمة الاتحادية العليا بإنهاء عضويّته في البرلمان وإخراجه من رئاسة السلطة التشريعية، خاصة “الخزعلي”، بأنّ من الصعب إنهاء حياته السياسية وإخراجه من المعادلة التي عاد إليها بقوة من خلال الانتخابات المحلّية.
أمّا على الصعيد الكردي، فإنّ النتائج التي أسفرت عنها محافظة كركوك من تراجع تمثيل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بقيادة مسعود بارزاني الذي حلّ ثانياً بعد “حزب الاتحاد الوطني” بقيادة بافل طالباني، قد تدفع القيادة البارزانية لإعادة حساباتها والبحث عن أسباب هذا التراجع، خاصة في ظلّ الأزمات التي يعاني منها الإقليم على المستوى الاقتصادي والمطالب الشعبية والاعتراضات التي بدأت تطلّ برأسها على خلفيّة رفض الفساد الذي تُتّهم القيادة البارزانية بممارسته في الإقليم، ولأنّ الإقليم سيكون على موعد في الأشهر المقبلة مع انتخابات برلمانية قد تحمل تغييراً في حجم التمثيل لهذا الحزب وتؤدّي إلى تراجع قبضته على حكومة الإقليم.
إيران وأميركا… والسوداني
لا شكّ أن تلاقي الرضا الأميركي والإيراني على هذه الانتخابات ونتائجها، سببه أنّها تصبّ في إطار جهود الطرفين لتعزيز الاستقرار واستمرار العملية السياسية وتوسيع قدرة الحكومة على الإمساك بالقرار الاقتصادي والإنمائي، بما هو مصلحة الأحزاب الداعمة لهذه الحكومة. في المقابل ستكون حكومة محمد شياع السوادني وهذه الأحزاب والقوى على حدّ سواء في مواجهة التزاماتها الإقليمية والدولية التي تُعتبر الشرط الأساس لاستمرار المظلّة الأميركية والإيرانية لها.
إقرأ أيضاً: الصدر يقاطع الانتخابات ويتراجع عن تعطيلها (3/3)
من ناحية، فإنّ حكومة السوداني بعد استكمالها لآليّاتها القانونية والمؤسّساتية وإعادة تفعيل عمل الحكومات المحلية (مجالس المحافظات) من المفترض أن تضع المطالب الأميركية ضمن أولوياتها، سواء ما يتعلّق بوقف الهجمات التي تقوم بها بعض الميليشيات والفصائل ضدّ القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا، أو وضع آلية واضحة للحدّ من نفوذ هذه الفصائل داخل القرار الرسمي للدولة العراقية، خاصة أنّ حكومة السوداني سبق أن التزمت أمام الإدارة الأميركية بالتصدّي لهذه الأعمال وذهبت بعيداً في موقفها عندما وصفت هذه العمليات بـ”الاعتداءات الإرهابية”.
من ناحية أخرى، سيكون الفاعل الإيراني الذي سارع سفيره في العراق محمد آل صادق إلى الترحيب بنتائج هذه الانتخابات، واعتبارها انتصاراً سيسهم في تعزيز استقرار العراق وازدهاره، ملزماً بالحفاظ على التوازن في المصالح بينه وبين الأميركي الذي أسهم في تكريس حلفائه في قوى “الإطار التنسيقي” داخل العملية السياسية والحفاظ على نفوذهم في الدولة ومؤسّساتها، وبالتالي حسم خياراته على الساحة العراقية والدفع باتجاه واضح لتعزيز بناء الدولة العراقية وسيادتها على قرارها السياسي والاقتصادي ومصالحها الوطنية.