يترقب العراقيون العام الجديد بقلوب يملأها الأمل في أن تنتهي محنة غزة في وقت يتعرض فيه القطاع لحرب شاملة تهدد بانفجار الوضع في المنطقة كلها.
لم ولن نتخلى عن القضية الفلسطينية، وأكدنا في مناسبات عدة على ضرورة أن يحظى الفلسطينيون بدولتهم وعاصمتها القدس. ومنذ اليوم الأول من اندلاع الحرب في الأراضي الفلسطينية وقفنا مع أهلنا في غزة بتوفير المساعدات الإنسانية والدعم الدبلوماسي والسياسي.
هذه الحرب الظالمة صاحبتها تحديات كبرى للمنطقة برمتها، فخطورة توسيع رقعة الحرب ما زالت قائمة، وقد يشن الكيان الصهيوني حرباً على أكثر من جبهة على دول مجاورة، ولهذا يجب أن تتكاتف الجهود من أجل منع الكيان من استغلال الدعم الدولي وترجمته لحرب شاملة تحرق المنطقة بأسرها.
كما علينا كدول عربية وإسلامية أن نعمل على حشد إجماع إقليمي للحفاظ على الاستقرار والازدهار لدول المنطقة وشعوبها من خلال تعميق الشراكات وترسيخ المصالح المشتركة.
ونحن في العراق، ومنذ اليوم الأول في عمر هذه الحكومة، تبعنا نهج الدبلوماسية المنتجة وأسسنا مبدأ العراق القوي المقتدر في تطوير العلاقات الخارجية مع الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، كي يستعيد العراق دوره الريادي التاريخي والطبيعي في المنطقة والعالم، فهذا هو قدرنا، ولا بد من أن نضطلع بهذا الدور حتى تتحقق التنمية المنشودة التي يتوق لها شعبنا. نحن نبذل جهوداً استثنائية على مستويات عدة للارتقاء بوضع المواطن أمنياً ومعيشياً، وقد بدأ بالفعل يشعر العراقيون بالأمن والاستقرار اللذين افتقدوهما على مدى عقود طويلة.
واتخذنا شعار العراق أولاً في صلب أعمالنا وأفكارنا أثناء اتخاذ القرارات المصيرية والمهمة، فالحكومة هي الممثل الشرعي المنتخب والمسؤول حسب الدستور لرسم سياسة الدولة والدفاع عن مصالح العراق، على رأسها حماية سيادة العراق، فالدولة يجب أن تكون لها اليد العليا. ولن تسمح لأي طرف بزعزعة صورتنا كدولة قادرة على حماية البعثات الدبلوماسية والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة.
خلال العام المنصرم عملنا على تحقيق خمس أولويات في البرنامج الحكومي؛ ممثلة في معالجة الفقر ومواجهة البطالة ومكافحة الفساد المالي والإداري، إضافة لتقديم الخدمات والإصلاح الاقتصادي. وبسرعة سعينا ليرى العراقيون الإنجازات على هذه الأصعدة كي يعلموا أن حكومتهم جادة في الارتقاء بمعيشتهم وحل مشاكلهم من دون إبطاء. وسنستمر على ذلك المسار ونزيده بالشروع في مشاريع البنى التحتية وبرامج التطوير والتأهيل للكوادر الإدارية والبشرية في مؤسسات الدولة، التي لطالما تأخرت لعقود مضت. ولإعادة التنمية إلى مسارها الصحيح، رفعت الحكومة من وتيرة تنفيذ المشاريع الموجودة، وعددها أكثر من 7 آلاف، ناهيك عن تنفيذ مشاريع جديدة تمثل قيمة تنموية وخدمية عليا.
استكملت الحكومة تنفيذ عشرات المشاريع الاستراتيجية والتنموية، في مقدمتها ميناء الفاو ومصفاة كربلاء، ووضعنا حجر الأساس لمشروع السكك الحديدية بين البصرة وشلامجة، الذي سيعزز الربط مع الجارة إيران. ونضع نصب أعيننا المضي قدماً في مشروع طريق التنمية الاستراتيجي الذي سيجعل العراق مركزاً للتجارة العالمية بين شرق العالم وغربه. يضاف إليها مشاريع بشبكة متكاملة من الطرق والجسور الرئيسية لفك الاختناقات وتسهيل السفر والتحرك من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.
في قطاع الغاز، وقعنا عقود جولة التراخيص الخامسة وعقداً مع شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية العملاقة لتنفيذ أربعة مشاريع ضخمة للنفط والغاز والطاقة المتجددة، وأطلقنا جولة التراخيص السادسة وهذا جلّه لسعي حكومتنا لإنهاء ممارسة حرق الغاز البغيضة.
مسار التنمية والريادة حتم علينا إجراء تعديلات جوهرية للإصلاح الداخلي عبر تجاوز حلقات الروتين الإداري وخلق بيئة استثمارية متقدمة؛ للمستثمرين للعرب والأجانب، وتأسيس صندوق العراق للتنمية الذي يهدف لتكوين بيئة استثمارية متكاملة. ولكي تكتمل الصورة وضعنا أجندة قوية لتعزيز مشاركة القطاع الخاص في المشاريع الكبرى.
وواجهنا جائحة الفساد التي ظلت تبث سمومها في العراق طيلة العقود الماضية، وقطعنا شوطاً كبيراً في تعقب مرتكبي هذه الجرائم التي لا تقل خطورة عن الإرهاب، واسترداد الأموال المنهوبة.
واتخذنا العديد من الإجراءات للسيطرة على الارتفاع غير الواقعي لسعر صرف الدولار أمام الدينار من خلال تنويع الاحتياطات من العملات الأجنبية لزيادة حجم تجارتنا الدولية مع الدول الصديقة والشقيقة.
ووفينا بعهدنا بإجراء انتخابات مجالس المحافظات التي تعطل إجراؤها منذ عام 2013 وانتخابات مجلس محافظة في كركوك التي لم تجر منذ 2005، هذه المدينة التي تُعد عراقاً مصغراً بمكوناتها المتعددة وحساسية وضعها السياسي الداخلي، وهذا يُعد إنجازاً مهماً لهذه الحكومة بإعادة ركن دستوري مهم لمبدأ اللامركزية. وهيأنا كل المتطلبات الأمنية والمالية واللوجستية لإنجاح الانتخابات.
وبالفعل شهدنا يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي عملية تصويت سلسة مع نجاح خطتنا الأمنية من دون فرض حظر التجوال أو قطع الطرق أو غلق المطارات. مجالس المحافظات ركن أساس في النظام الديمقراطي القائم على اللامركزية ومفصل تحتاجه الحكومات المحلية التي تمثل الذراع التنفيذية الثانية في الدولة بعد الوزارات. كما نعتزم في العام الجديد إجراء أول تعداد للسكان في العراق للمرة الأولى منذ عام 1997، إيماناً بأن بناء قاعدة بيانات قوية هو الأساس لخطط حكومية دقيقة وناجحة.
أمام التحدي الكبير في التغير المناخي ومواجهة الجفاف الذي يهدد العراق، صغنا استراتيجية مناخية تمتد إلى 2030 وتشمل الحد من انبعاث الغازات لتقليل الضرر البيئي وتحفيز المزارعين الذين يستخدمون تقنيات ري حديثة، واستخدام الطاقات المتجددة. وكان للعراق حضور لافت ومهم في مؤتمر المناخ «كوب 28» في دبي.
المهمة منذ أن أقسمنا على حملها لم تكن سهلة والتحديات كانت ولا تزال تتطلب دأباً وجَلَداً وهمة وقبلها جميعاً إيماناً لا ريب فيه برفعة العراق واستحقاقه ليكون دولة رائدة مزدهرة على مستوى الشرق الأوسط والعالم.
الشعب ينتظر بشغف أجراس العام الجديد وبنفس الهمة والعزيمة سنواصل مسيرة التنمية والسلام والريادة التي بدأناها، وسيظل العراق دوماً سداً منيعاً أمام من يرغبون في تعطيل هذه المسيرة. وكل عام والعراقيون وأهل غزة والأمة العربية والعالم بخير.
محمد شياع السوداني
الشرق الأوسط