حرب غزة وخيارات آية الله “والتر ميتي”

حرب غزة وخيارات آية الله “والتر ميتي”

تعد متلازمة “والتر ميتي” نوعاً من المرض النفسي، ويعيش بسببها الإنسان في عالم مواز مليء بالأوهام ويتخيل المريض نفسه بطلاً في القصص والأحداث المختلفة.

جميعنا نعرف أن نظام الخميني في طهران ومنذ البداية كان مصاباً بمتلازمة والتر ميتي. وكان مؤسس النظام آية الله خميني يتصور أن انتصاراته التي حصل عليها على سبيل صدفة غير متوقعة، وأدت لوصوله إلى السلطة في إيران مقدمة لتأسيس إمبراطورية عالمية يتولى أهل البيت فيها قيادة مصير العالم.

على أساس هذا المرض طرح النظام شعار “طريق القدس يمر بكربلاء” وجر إيران إلى حرب استمرت ثماني سنوات مع العراق، حرب لا طائل منها إلا التكاليف. وكان آية الله “والتر ميتي” يتصور أنه من خلال احتلال السفارة الأميركية سيتمكن من إرغام “الشيطان الأكبر” للخضوع أمامه، لكن النتيجة كانت على عكس ما تصور، وتسبب بضياع مليارات الدولارات من ثروات إيران وتدمير القوة البحرية للحرس الثوري وأكثر من مليار من الخسائر الناجمة عن هجوم الأميركيين على المنشآت النفطية وعقوبات تستمر حتى الوقت الحالي.

ورأى الإمام والتر ميتي نفسه في قامة نبي الإسلام عندما وجه رسالة إلى كسرى الملك الساساني لدعوته إلى الإسلام، وفي هذا الزمان لم يكن كسرى إلا ميخائيل غورباتشوف الذي وجه إليه الخميني رسالة من 17 صفحة دعاه فيها إلى ترك الشيوعية والانضمام إلى الإسلام من نوعه الشيعي الإثني عشري والولائي.

وكان خليفة الخميني، علي خامنئي ورث هذه المتلازمة منه. إنه يتصور نفسه “قائد العالم الإسلامي” وتروج حاشيته إلى مثل هذه الأوهام بطرق مختلفة. القائد المعظم تغمره الفرحة عندما يزوره فلاديمير بوتين بطائرته الخاصة، لكن لم ينتبه أن بوتين يزور طهران لخلع عمامته وتثبيت سلطته على بحر قزوين والسيطرة على الأسواق النفطية الإيرانية وبيع أسلحة عفي عليها الزمن على إيران بأسعار مضاعفة وأن يحقق مشروع الدخول إلى الشرق الأوسط وغرب آسيا وجنوبها من بوابة إيران.

يتصور خامنئي أن اعتبار إيران مفتاحاً يعد كلاماً فيه مدح للبلاد، لكنه لم ينتبه أن المفتاح ليس لديه إرادة، بل إنه وسيلة بيد من يملكه.

تفسير أداء بوتين على أساس متلازمة والتر ميتي تجعل آية الله يتبنى الصمت عندما تنتهك روسيا السيادة الوطنية الإيرانية على أراضيها.

يمكن القول إن السير في الأوهام وجه ضربات كبيرة لإيران ويعرض البلاد إلى أخطار متعددة، لكن الأحداث التي وقعت خلال الأسابيع الماضية تثير المخاوف من أن يقدم آية الله والتر ميلي إلى مقامرة كبيرة لا يمكن تقدير عواقبها.
ميول خامنئي لمثل هذه الخيارات الخطرة انعكس في المنصات الإعلامية الحكومية وتلك التي يملكها الحرس الثوري، بعد هجمات السابع من أكتوبر حاول المرشد وزملاؤه عدم الدخول في الحرب على رغم إعلان دعمهم لـ”حماس”.

كانوا يتصورون أن تنتهي حرب غزة بعد أيام عدة بتعادل سلبي لكلا الطرفين مثلما حدث سابقاً في الحربين اللتين شنتهما إسرائيل على قطاع غزة، لكن لم يمض وقت طويل حتى أدرك النظام أن إسرائيل لا تقتنع بالتعادل السلبي وإنها تقبل أي أخطار من أجل تحقيق انتصار كامل، وبعد تغيير الأسلوب التقليدي الإسرائيلي اضطر المرشد إلى المحاولة لنجدة “حماس”.

في البداية لم يتعد الدعم حد إطلاق الشعارات والتلويح بالأيدي، كما أن “حزب الله” اختار أن يغمد سيفه في الغلاف.

وفي المرحلة الثانية انتبه خامنئي، وهو له كتاب يتحدث فيه عن تدمير إسرائيل أنه لا يمكن أن يحتفظ بلقب قائد “جبهة المقاومة” إذا ما اكتفى بالجلوس أمام الحفرة فقط.

لذلك أمر “حزب الله” بإطلاق هجمات محدودة لاستهداف أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل. أما الخطوة الثانية فكانت تفعيل “قوى المقاومة”، أي عملاء النظام الإيراني في العراق ضد إسرائيل والقواعد الأميركية، لكن لم تكن أي من الخطوتين في العراق تحظى بقبول أنصار “حماس” وفلسطين، وارتفعت أصوات تنتقد أداء المرشد حيال حرب غزة، إذ كتبت صحيفة باكستانية: “في طهران يتحدثون كثيراً ويعملون قليلاً”.

أما الخطوة الأخرى للمرشد فكانت تفعيل ميليشيات الحوثي في اليمن، في البداية كتبت صحيفة “كيهان” التي تعكس آراء خامنئي عن إغلاق جميع المضايق التي يشرف عليها المسلمون منها مضيق هرمز ومضيق مالاكا وباب المندب وقناة السويس، لكن غرفة العمليات التابعة لآية الله والتر ميلي انتبهت أن إغلاق مضيق هرمز ومالاكا سيجلب أضراراً للنظام نفسه ولأكبر داعميه أي الصين أكثر منها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون.

كما أن إغلاق قناة السويس يتطلب وجود قوة تحارب بالنيابة عن إيران في المنطقة. لا توجد مثل هذه القوة في الوقت الحاضر، لذلك اكتفت إيران بأن يطلق حلفاؤهم الحوثيون صواريخ ومسيرات في البحر الأحمر، لكن الألعاب النارية العابرة هذه لا تكفي لتبرير جبن النظام. فالعالم الإسلامي يطرح هذا السؤال: لماذا لا تخوض هذه القوة الإقليمية الكبيرة الحرب لإنقاذ غزة؟

من المؤكد أن خامنئي وزملاءه لا يعيرون أية قيمة لأرواح وأموال الشعب في غزة. إنهم يعتبرون “حماس” فرعاً فلسطينياً للإخوان المسلمين أو منافساً للفرقة الخمينية، على رغم هذه التطورات لا يمكن أن يجلس “القائد المعظم” أمام الحفرة ويحرك مسبحته فقط.

إذاً ما العمل؟ قد رد المفكرون المنتمون إلى الفرقة الخمينية خلال الأيام الماضية على هذا السؤال، فقال مراقب من الحرس الثوري في مقالة نشرت يوم الخميس الماضي: “هل تشن إيران هجوماً صاروخياً بشكل مباشر ضد المراكز العسكرية الإسرائيلية؟ هل تستهدف المسيرات الإيرانية الكيان الصهيوني بشكل مباشر؟ هل سيحرق ميناء حيفاء؟ هل تستهدف إيران المرافق الحيوية في الكيان الغاصب للقدس بواسطة قواعدها في سوريا؟ هل تنفجر منصات استخراج الغاز الصهيونية في البحر المتوسط وكذلك مستودعات الأمونياك”؟

طرح مثل هذه الأسئلة يكشف عن أن النظام الإيراني لديه برامج محتملة لهذه الأمور، ما تبقى هو القرار بالضغط على الزناد.

وأشار عنصر آخر من الحرس الثوري إلى احتمال استخدام إسرائيل للأسلحة النووية ضد إيران، ويطرح نتيجة غريبة قائلاً إن “السلاح النووي الباكستاني يعد رادعاً لحماية المسجد الأقصى أمام الحرب الطائفية الأميركية والبريطانية”، يكشف هذا عن أن آية الله والتر ميلي يتخيل أنه يملك الأسلحة النووية الباكستانية.

من خلال متابعة تصريحات وكتابات حاشية خامنئي، نرى صورة قاتمة، فآية الله خامنئي أمام خيارين: إما الجلوس أمام الحفرة وفقدان ما تبقى من مكانة سياسية أو القفز داخل الحفرة وقبول خطر تكسير العظام.

بعض المحللين في داخل النظام يعارضون المواجهة المباشرة. إنهم يسعون لإقناع آية الله بأن الوضع الحالي في غزة يتطابق مع مصالح إيران بعيدة الأمد. وكتب عضو في الحرس الثوري قائلاً إن “إسرائيل تعرضت إلى ضربات لا يمكن تعويضها”، وكتب كاتب آخر متحدثاً عن “انتهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي”. وتحدث محلل ثالث عن “ارتفاع وتيرة المعارضة للنظام الصهيوني في جميع أنحاء العالم منها أميركا”، وأبرزت وكالة “فارس” للأنباء التابعة للحرس الثوري هرب المواطنين الإسرائيليين من البلاد.

الهدف غير المعلن لجميع هذه التقارير هو أن الأمور تسير على ما يرام بالنسبة إلى النظام الإيراني، وأنه لا حاجة إلى خوض حرب مباشرة ضد “الكيان الغاصب للقدس” وداعميه الأميركيين.

التصريحات المتناقضة الصادرة من الشخصيات المختلفة في طهران تكشف عن مؤشرات للخلافات حول الوضع الحالي في غزة، إذ قال المتحدث باسم الحرس الثوري “هجوم ’حماس‘ ضد إسرائيل كان جزءاً من انتقامنا من استشهاد اللواء قاسم سليماني”. أي إن “حماس” شنت الهجوم بناء على أوامر من طهران، لكن بعد نفي هذه التصريحات من المتحدث باسم “حماس” حاول قائد الحرس الثوري حسين سلامي تعديل تصريحات المتحدث باسمه رمضان شريف. وأشار إلى أن طهران لم يكن لديها أدنى معلومات عن هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول).

لا يمكن أن يجلس خامنئي على كرسيين إلى الأبد، فإنه يواجه في النهاية خيارين وعليه أن يختار أحدهما. الخيار الأول هو الانضمام إلى مشروع منظمة التعاون الإسلامي من أجل إنهاء حرب غزة من خلال طرح خريطة طريق تفضي إلى حل القضية الفلسطينية، يجب التنويه أن منظمة التعاون الإسلامي لم تقبل بأن تنضم إيران إلى اللجنة المعنية بمتابعة تنفيذ هذا المشروع، لأن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لم يملك ترخيصاً من مرشد النظام بقبول وجود إسرائيل حتى كطرف في المفاوضات المعنية بتقرير مصير فلسطين.

لكن وتيرة العمل التي يسير عليها 57 بلداً مسلماً وتحظى بالدعم المعلن من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي تمضي من دون الاكتراث بما يتفوه به آية الله والتر ميتي، هذا المشروع من المحتمل ألا يصل إلى نتيجة في الأمد القريب، لكن بإمكانه أن يملأ الفراغ الدبلوماسي وتسليط الضوء على الجهود المستقبلية لهذا المشروع.

وأما الخيار الثاني أمام المرشد علي خامنئي هو الدخول الفعلي في الحرب، وهذا ليس له أية علاقة بمصالح إيران كوطن، ومن المحتمل أن يجلب خطراً جاداً ضد سيادة البلاد ووجودها.

حتى إذا تحقق الأمل المعلن لآية الله علي خامنئي وهو تدمير إسرائيل وتشكيل بلد عربي جديد باسم فلسطين، فإن النظام الإيراني سيكون من الخاسرين، لأن الإسلاميين التابعين لـ”حماس” والإخوان المسلمين وحليفهم التكتيكي – أي تركيا في عهد رجب طيب أردوغان – لا تعتبر الإسلاميين الخمينيين كمنافس فحسب، بل تعتبرهم عدواً لهم.

مؤسس النظام آية الله روح الله الخميني تسبب في أحداث لا نزال ندفع ثمنها في الوقت الحالي، لكن خليفته يعمل بشكل أكثر حذراً حتى الآن، إنه يعمل على أساس أسلوب ميكي ماوس في أفلام الكرتون الهوليوودية، فهو يتحرش بالقطة ويؤذيها في بعض الأحيان، لكن لم تتمكن من القبض عليه. في الحياة العادية لا توجد تكاليف للكلام العبثي، لكن في عالم الواقع خصوصاً عندما تطرح قضية المصالح الوطنية ومصالح شعب ما خلال أحداث الحرب فإن الكلام العبثي يكون ثمنه باهظاً جداً.