أثارت القضية التي رفعتها دولة جنوب افريقيا ضد إسرائيل، بتهمة القيام بالإبادة الجماعية لشعب غزة في محكمة العدل الدولية، العديد من الأسئلة منها، هل يمكن الركون إلى هذه المحكمة في إحقاق الحق؟ هل قراراتها ملزمة؟ وما هي وسائل التنفيذ التي تمتلكها المحكمة؟
في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023 تقدمت دولة جنوب افريقيا بشكوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، الشكوى تتعلق برؤية هذه الدولة للعدوان الإسرائيلي على غزة، وأنه يرقى إلى فعل الإبادة الجماعية، وبما أن كلا من جنوب افريقيا وإسرائيل موقعتان على اتفاقية منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية، فإن إسرائيل بعدوانها هذا تكون قد خالفت الاتفاقية المذكورة، ولعل من حسن الحظ أن إسرائيل كانت أحد الموقعين على هذه الاتفاقية، التي أنتجها الواقع السياسي الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت بعد ثلاث سنوات من الحرب، كنوع من المساندة لليهود، بعد تعرضهم للاضطهاد النازي، لذلك سارعوا في الانضمام إليها على غير العادة.
قد يكون من المبكر جدا التنبؤ بنتائج المحاكمة، وهل سيكون لها أثر عملي، فحظوظ النجاح قد تكون ممكنة، لكنها ليست مبرمجة، ومع ذلك فإن المسار القانوني بحد ذاته يشكل مكسبا للفلسطينيين، خصوصا إذا نجحت جنوب افريقيا في انتزاع قرار تمهيدي، أو أمر احتياطي باتجاه وقف إطلاق النار بعد نهاية المرافعات الشفهية، وتكون هذه المرحلة التمهيدية قد شارفت على الانتهاء قبل الدخول في أساس القضية، لكن العبرة في مجريات هذه المحاكمة تكمن في تنفيذ القرارات الصادرة عنها، سواء الإجراءات التمهيدية، أو لاحقا القرار القضائي النهائي في أساس القضية. فهذه المحكمة ليس لها جهاز تنفيذي ولا تُصدر مذكرات توقيف أو اعتقال، فهي تحاكم الدول مبدئيا ولا تحاكم الأفراد على غرار المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، وقد حاولت دولة جنوب افريقيا أن تتقدم بالشكوى إلى هذه الأخيرة، لكنها لم تفلح، لذلك عادت وحاولت مع محكمة العدل الدولية ونجحت في تفعيل سير الإجراءات.
القول بأن محكمة العدل ليس لديها جهاز تنفيذي يُجبر الدول على تطبيق قراراتها، لا يعني أن قراراتها غير ملزمة، فهي قرارات قضائية من سلطة قضائية دولية عُليا
لا بد من القول بأن محكمة العدل الدولية لديها دوران في القضية المرفوعة أمامها اليوم، الأول دور استشاري، والثاني دور نزاعي، وما تقوم به الآن من إجراءات يتعلق بدورها النزاعي، وعلى الرغم من أنه ليس لديها أدوات تُجبر بها إسرائيل على تطبيق القرارات، لكن المحاكمة مهمة وقد تُتخذ تدابير طارئة في القضية. وهنا يجب الإشارة الى أن هنالك مراحل عديدة في هذه القضية، ونحن الآن في المرحلة الأولى منها. وقرار ما إذا كانت إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية من عدمه، هو أمر ستبت به المحكمة لاحقا، لكن السؤال المستعجل اليوم هو، هل ستحترم إسرائيل الإجراءات الطارئة للمحكمة، في ظل عدم وجود أجهزة تنفيذية تستطيع بها إجبار إسرائيل على احترام قراراتها؟ الجواب هنا يتعلق بالدور النزاعي لهذه المحكمة، فالحُكم عندما يصدر فله طابع إلزامي ونهائي. وإذا احترمت الدول القرار وطبقته فهذا أمر آخر. أيضا من الخطأ الظن بأن المحكمة ليس لها تأثير مادي ومعنوي، خاصة في القضية المرفوعة أمامها الآن، فهذا المسار القضائي هو المدماك الثالث الذي يؤسس لاعتبار أن ما يجري في غزة لا يمكن أن يستمر. أما المدماك الأول فقد كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي دعا إلى هدنة إنسانية فورية في غزة. والمدماك الثاني كان قرار الجمعية العامة الثاني في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023، الذي طالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الى غزة، وقد تجاوز فيه التأييد لفلسطين 150 دولة، واليوم يأتي المدماك الثالث القضائي، وهو تحرُّك محكمة العدل الدولية التي هي أعلى سلطة قضائية دولية. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن القول بأن المحكمة ليس لديها جهاز تنفيذي يُجبر الدول على تطبيق قراراتها، لا يعني أن قراراتها غير ملزمة، فهي قرارات قضائية من سلطة قضائية دولية عُليا، والمحكمة هي جهاز من أجهزة الأمم المتحدة بموجب ميثاق سان فرانسيسكو لعام 1945 وتأسست بموجبه في عام 1946. كما سبق لهذه المحكمة أن نظرت في قضايا من النوع نفسه في 1996، عندما اعتبرت أن ثمة إبادة جماعية قد وقعت في يوغسلافيا السابقة، على الرغم من أنها فشلت في تحديد المسؤولية بسبب نقص الإثباتات.
لقد أظهر اليوم الأول من هذه المحاكمة بشكل جلي، أن دولة جنوب افريقيا قد نجحت في تقديم أدلتها ضد إسرائيل في 84 صفحة، وقد تحدث فريقها القانوني بالتفصيل عن ما قامت به إسرائيل، مُعززا بالوثائق والأدلة المكتوبة والمرئية والمسموعة، وقالوا صراحة بأن إسرائيل استطاعت أن تفلت من أي عقاب ومن كل القوانين الدولية على مدى 75 عاما.. كما جرى التركيز على الجانب القانوني وتعريف مصطلح الإبادة الجماعية، الذي هو من أكثر المصطلحات صعوبة في مثل هذه القضايا. وإذا كانت إسرائيل لم تأبه من قبل بالاتهامات الموجهة إليها أثناء عملياتها العسكرية في القطاع، أو أي مكان آخر، فإن الشكوى ضدها هذه المرة شيء مختلف تماما، لذلك بدأت تتخذ حزمة من الإجراءات أغلبها كان على الصعيد الدبلوماسي، حيث تم الكشف عن برقيات أرسلتها وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى ممثلياتها في الدول التي لديها علاقات دبلوماسية معهم، تطالب بالتحرك على ساسة تلك البلدان وحثهم للوقوف إلى جانبها في هذه القضية، وأن يدينوا الإجراء الذي تقدمت به جنوب افريقيا، فصورة إسرائيل في العالم كمُضطهَدة وليست مُضطهِدة مهمة جدا لها، وتعتمد عليها إلى حد كبير في استدرار المساعدات العسكرية والمواقف السياسية لها من الغرب. ومع ذلك يبدو أن الإسرائيليين يُراهنون على عدم صدور عقوبات عليهم، وأن ما سيصدر عن المحكمة سيكون، ربما مجرد إدانة في حال نجاح القضية، حيث أن أقصى ما في هذه الاتفاقية هو أن المادة الثالثة من نصوصها تُحيل المتهم إلى محاكم الدولة التي ثبت ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضدها، أو إلى محكمة أخرى يتفق عليها الطرفان المتخاصمان، وبذلك سيكون قرارها هو أقرب للرأي الاستشاري منه إلى قرار حكم، أيضا هنالك مُراهنة إسرائيلية على أن المحكمة، يمكن أن تعتبر أن دولة جنوب افريقيا ليس لها صفة ولا مصلحة في الادعاء وتقديم الشكوى ضد إسرائيل فترد القضية، وحتى في مسألة الإجراءات التمهيدية، التي قد تطلب فيها المحكمة من إسرائيل انسحاب جيشها من بعض المناطق، أو وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، فإن إسرائيل مطمئنة إلى هذا الأمر. لأنه في حالة عدم تنفيذ ذلك فإن المحكمة ستحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي لتطبيقه بالقوة تحت البند السابع. وفي مجلس الأمن يوجد الفيتو الأمريكي والبريطاني والفرنسي الذي سينقذها.