تفاءلت الأسواق والمستثمرون حول العالم بأن الاقتصاد العالمي تفادى الركود العام الماضي 2023، وأخذت معدلات التضخم في نهايته تتباطأ، مما عزز التوقعات ببدء البنوك المركزية في خفض أسعار الفائدة، وهو ما ينعش أسواق الائتمان والاقتراض، من ثم زيادة الإنفاق الاستثمار والاستهلاكي، بما يعزز فرص النمو الاقتصادي القوي.
لكن هذا التفاؤل ربما يشبه تفاؤل العالم المفرط بالانتعاش القوي في ثاني أكبر اقتصاد في العالم مطلع العام الماضي، حين ألغت الصين كل قيود وباء كورونا، وتخلت عن سياسة “صفر كوفيد” بنهاية 2022، وثمة ثمانية أخطار تواجه الاقتصاد العالمي في عام 2024.
لم يحدث الانتعاش الهائل في الاقتصاد الصيني كما توقع المتفائلون، بل على العكس تباطأ النمو في الصين، وزادت حدة أزمة القطاع العقاري وغيره، لذا يرى بعض “الواقعيين والمتشائمين” من الاقتصاديين والمحللين أن تفاؤل الأسواق الحالي قد يكون مبالغاً فيه، ويفتح ذلك باباً لتقدير الأخطار والتحديات التي يمكن أن تهدد فرص النمو، بل وتزيد من احتمالات الركود الاقتصادي العالمي.
دخل العالم عام 2024 مثقلاً بتوترات جيوسياسية مرشحة للتصعيد، تهدد التجارة العالمية وفرص الإنفاق والاستثمار، ويمكن أن تعيد معدلات التضخم للارتفاع، ومع أن نماذج التوقعات لدى إدارات الحكومات والمؤسسات المالية والاقتصادية لم تعد بذات الصدقية منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فإنها ما زالت السبيل الأمثل لدى الأسواق لوضع خطط المستقبل.
عوامل التشاؤم
وحتى لا توصم تلك المؤسسات وشركات الاستشارات بالخطأ في التقدير، نجد نماذج تحليل متباينة تضع سيناريوهات مختلفة لما سيكون عليه الوضع هذا العام، ذلك كيلا تتكرر أخطاء تقديرات المستثمرين الذين توسعوا في المشتقات المالية.
نشرت وكالة “بلومبيرغ” تقريراً مطولاً عن أخطار وتحديات يواجهها الاقتصاد العالمي هذا العام، يمكن أن تجعل التفاؤل الحالي في غير محله. واستند التقرير إلى نماذج التحليل والتوقعات والتقديرات التي تعتمدها “بلومبيرغ إيكونوميكس” وتوفر مؤشراً استرشادياً للمستثمرين والأسواق والاقتصاديين، سواء في القطاع الخاص أو القطاع الحكومي.
في مقدمة العوامل السلبية تأتي التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط والحرب في غزة في شهرها الرابع، واحتمالات توسع الصراع بما يؤثر في إمدادات النفط واختناق أسواق الطاقة العالمية، ومن شأن ذلك أن يدفع معدلات التضخم إلى الارتفاع مجدداً بعدما أخذت في التباطؤ، من ثم تؤجل البنوك المركزية حول العالم البدء في خفض أسعار الفائدة.
حسب السيناريو الأساس الذي تعتمده “بلومبيرغ إيكونوميكس” يظل الصراع في نطاقه الحالي من الحرب في غزة، والمناوشات مع المجموعات الموالية لإيران في لبنان واليمن، لكن في حال تطور الصراع، بخاصة مع تدخل الولايات المتحدة، وأي اشتباك أوسع بين إيران وإسرائيل، سيتسع الخطر ليطال نحو خمس إمدادات النفط الخام عالمياً، وكذلك خطوط التجارة العالمية.
مع السيناريو الأسوأ، يمكن أن ترتفع أسعار النفط إلى 150 دولاراً للبرميل، مما يعني شطب نسبة واحد في المئة في الأقل من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وارتفاع معدلات التضخم عالمياً بنسبة 1.2 في المئة.
الاحتياط الفيدرالي
حتى من دون السيناريو الأسوأ، فإن استمرار التوتر الحالي في المنطقة لفترة طويلة، بخاصة تهديدات الحوثيين للملاحة التجارية عبر البحر الأحمر، قد يؤدي إلى عودة معدلات التضخم للارتفاع، مع زيادة كلفة الشحن البحري وعرقلة سلاسل الإمداد، وستضاف تلك الكلفة المضاعفة لأسعار السلع والبضائع للمستهلكين.
سيضع ذلك البنوك المركزية الكبرى، وفي مقدمها “الاحتياط الفيدرالي” (البنك المركزي الأميركي) في موقف حرج، فالأسواق تتوقع البدء في خفض أسعار الفائدة قريباً، لكن مسؤولي السياسة النقدية يخشون التيسير النقدي المبكر، واحتمالات رد الفعل بارتفاع صاروخي للتضخم مما يضطرهم إلى اتخاذ قرارات أكثر إيلاماً تضر بالنمو الاقتصادي، وحدث ذلك في السبعينيات حين قرر رئيس “الفيدرالي” وقتها آرثر بيرنز التعجيل بخفض أسعار الفائدة، مما أدى إلى عودة ارتفاع معدلات التضخم بقوة، واضطر خلفه بول فولكر إلى رفع أسعار الفائدة أكثر لكبح جماح عودة التضخم للارتفاع.
لا يواجه “الاحتياط الفيدرالي” هذا العام 2024 احتمالات التصعيد في الشرق الأوسط فحسب، بل هناك أيضاً عامل داخلي يتعلق بأن يؤدي التيسير النقدي المبكر إلى تضخم ناجم عن غليان أسواق الأسهم والسندات والأوراق المالية، بخاصة أن العائد على سندات الخزانة الأميركية بدأ في الخفض بالفعل، مما يعني زيادة في سعر السندات.
مع الشهر الأول من هذا العام، تراجع العائد على سندات الخزانة الأميركية بنسبة واحد في المئة تقريباً عن أعلى مستوى له في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبحسب نموذج “بلومبيرغ إيكونوميكس” فإن خفض العائد على سندات الخزانة بنسبة واحد في المئة يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم بنسبة نصف نقطة مئوية في الأشهر الـ12 التالية، ومن شأن ذلك أن يبقي معدلات التضخم فوق نسبة ثلاثة في المئة، أي أعلى من المستهدف من قبل الاحتياط الفيدرالي عند نسبة اثنين في المئة.
وضع أوروبا الأسوأ
يظل وضع اقتصادات دول منطقة اليورو وبريطانيا أسوأ من الاقتصاد الأميركي، الأكبر في العالم، والأكثر مرونة، هكذا كان الوضع العام الماضي، وهكذا أيضاً هذا العام 2024، ويقدر المحللون أن دورة التشديد النقدي غير المسبوقة من قبل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا (المركزي البريطاني) تعني بحسب غالب نماذج التوقعات احتمالاً واحداً هو الركود العميق.
بحسب نموذج التحليل والتوقع من “بلومبيرغ إيكونوميكس” فإن ذلك كان يفترض أن يؤدي إلى انكماش اقتصاد دول منطقة اليورو بنسبة 2.5- في المئة، وانكماش اقتصاد بريطانيا بنسبة 4.7- في المئة، إلا أن البيانات والأرقام الفعلية الآن لا تشير إلى ركود، إنما تباطؤ شديد فحسب، ومع أن نموذج التحليل والتوقع قد يكون مخطئاً، كما حدث خلال أزمة وباء كورونا ومع تبعات الحرب في أوكرانيا، إلا أن هناك احتمالاً آخر، وهو أن الآثار الكاملة للتشديد النقدي تظهر بعد فترة أطول.
المرجح أكثر في ضوء البيانات الحالية أن أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، الاقتصاد الألماني، سيشهد انكماشاً هذا العام 2024، ومما يضيف لأخطار تباطؤ اقتصاد ألمانيا ما يحدث في الصين، فتباطؤ النمو في الصين يعني تباطؤاً في ألمانيا التي تعد الصين أكبر أسواق صادراتها إلى آسيا، وأيضاً يعد التحسن في الاقتصاد الصيني ضاراً للاقتصاد الألماني، فعلى سبيل المثال نمو قطاع السيارات الكهربائية الصيني يعني تراجعاً في قطاع السيارات الألماني.
تباطؤ الاقتصاد الصيني
مع تبخر التفاؤل بانتعاش قوي ما بعد أزمة وباء كورونا العام الماضي، يشهد ثاني أكبر اقتصاد في العالم هذا العام ومعدلات النمو انخفاضاً، ولم تفلح برامج التحفيز الحكومي المتواضعة في وقف منحى تراجع نمو الاقتصاد الصيني حتى الآن، بخاصة في قطاع العقارات المتدهور.
يقدر السيناريو الأساس في التقرير أن الحكومة الصينية ستواصل دعم النشاط الاقتصادي، في الأقل بما يمنع انهيار معدلات النمو، من ثم يتوقع أن يكون متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين للعام الحالي عند نسبة 4.5 في المئة، ومع أنها نسبة نمو أقل من العام الماضي 2023، فإنها تظل معقولة وليست كارثية. لكن تظل الأخطار والتحديات قوية، بخاصة إذا ترددت بكين في طرح برامج التحفيز، فيمكن أن يتراجع النمو إلى نسبة ثلاثة في المئة، بل يمكن أن يشهد الاقتصاد انكماشاً (نمواً سلبياً) إذا تفاقمت أزمة القطاع العقاري، وتحولت إلى أزمة قطاع مالي، كما حدث في اليابان عام 1989، وما حدث في الولايات المتحدة عام 2008.
الحرب في أوكرانيا ومستقبل تايوان
مع فشل الهجوم المضاد من قبل كييف يحذر داعمو أوكرانيا الغربيون من احتمالات هزيمة واضحة تعطي روسيا ميزة كبيرة في المعارك، ومع أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو استمرار الوضع الحالي، فإن التجارب التاريخية تشير إلى أن طول أمد الصراع يعني عدم تحقيق أي نصر حاسم.
من شأن هزيمة أوكرانيا، بمعنى تحقيق موسكو أهدافها من الحرب، أن يجعل من الصعب على أميركا أن تقنع أياً من حلفائها بأنها حليف قوي يعتمد عليه، كما أن ذلك قد يؤدي إلى اندلاع صراعات أعنف في أماكن أخرى من العالم، إذ إن ضعف قوة الردع الأميركية ستشجع قوى كثيرة على أن تسعى إلى تحقيق أهدافها، وخلق حقائق جديدة على الأرض، وكل ذلك سيكون له تبعات على الاقتصاد العالمي يصعب تقديرها.
هناك تغير آخر يمكن أن يكون له تأثير اقتصادي واسع النطاق هو نتائج انتخابات تايوان في وقت سابق من هذا الشهر الأول من العام الحالي، ولا شك أن فوز لاي تشينغ-تي بالرئاسة الذي منح الحزب التقدمي الديمقراطي فترة رئاسية ثالثة يقلق الصين، على رغم أن رد فعل بكين حتى الآن لم يكن عنيفاً، ففوز نائب الرئيس بالرئاسة جاء بفارق ضئيل جداً، مما يجعل الصين ترى أن قدرة إدارته على التصرف مقيدة، بخاصة أن الرئيس الجديد معروف بمواقفه الانفصالية المتشددة.
مع ذلك تظل الاحتمالات واردة للتصعيد، على رغم تقديرات استمرار السياسة الحالية في ما يتعلق بوضع مضيق تايوان، ومع ضعف ثقة الصين في الرئيس التايواني المنتخب يمكن أن تشهد الأشهر المقبلة توتراً أكبر ستكون له آثاره الكبيرة، ليس على المنطقة فقط وإنما على الاقتصاد العالمي ككل، بخاصة أن تايوان تعد مركز إنتاج الرقائق وأشباه الموصلات في العالم، واحتمال عرقلة التجارة عبر مضيق تايوان يمكن أن يهدد قطاعات كثيرة في الاقتصاد العالمي إذا تأثرت سلاسل إمداد الرقائق وأشباه الموصلات.
الانتخابات الأميركية
يبقى العامل الأهم الذي يمكن أن يؤثر في الاقتصاد العالمي هو الانتخابات الرئاسية الأميركية قرب نهاية هذا العام، ليست فقط النتيجة بعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، التي ستجري على الأرجح بين الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترمب، بل حتى في السباق نحو الانتخابات في النصف الثاني من العام الحالي، فالأسواق غالباً ما تحسب توقعاتها مبكراً على أساس احتمال من سيفوز، وتتصرف على هذا الأساس.
في حال تقدير فوز ترمب، فإن العالم سيبدأ التصرف على أساس تصريحاته التي وعد فيها بفرض رسوم بنسبة 10 في المئة على كل الواردات الأميركية، وبالطبع هناك احتمال أن يرد شركاء أميركا التجاريون بإجراءات انتقامية تكفل شطب نسبة 0.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بحسب تقديرات تقرير “بلومبيرغ”، وستتصاعد التوترات التجارية بين واشنطن وشركائها في أوروبا ومنافسيها في آسيا، مما يعني مزيداً من تراجع التجارة العالمية.
بالطبع ليست كل تلك العوامل واردة بالقدر نفسه، وهناك احتمال أن يظل السيناريو الأساس في التحليل والتوقع سائداً خلال العام الحالي، من ثم سيشهد العالم تباطؤاً في النمو الاقتصادي وليس ركوداً عميقاً أو انهياراً كاملاً للنمو.