وصلت ثورة الذكاء الاصطناعي إلى الكونغرس. لقد عملت القدرات الهائلة في أنظمة الذكاء الاصطناعي على غرار نموذج “تشات جي بي تي” Chat GPT الذي صنعته شركة “أوبن أي آي” OpenAI، على تنبيه المشرعين الذين باتوا قلقين في شأن الكيفية التي ستعمل بها التطورات في هذه التكنولوجيا السريعة التحرك، على إعادة تكوين الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وشهدت الأشهر القليلة الماضية مجموعة من جلسات الاستماع في الكونغرس ومداولات خلف الستار في مبنى الكابيتول، جرت في خضم محاولة صناع القوانين والتشريعات لتحديد الطريقة الفضلى في فرض قيود على تلك التكنولوجيا.
في المقابل، يبدي البعض خشيتهم من أية تشريعات تنظيمية لصناعة الذكاء الاصطناعي ستفرض كلفة في الجغرافيا السياسية. خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، حذر سام آلتمان، المدير التنفيذي لشركة “أوبن أي آي”، من أن “خطر” فرض تشريعات على الذكاء الاصطناعي يتمثل في “إبطاء الصناعة الأميركية في ذلك المجال، بطريقة تؤدي إلى أن الصين أو أي طرف آخر، سيصل إلى تطور أسرع منها”.
في ذلك الشهر نفسه، أصر المستثمر التقني ألكسندر وانغ على أن “وضعية الولايات المتحدة باتت على حافة الخطر، وعلينا التأكد من أننا نتحرك بأقصى سرعة في التكنولوجيا”.
بالفعل، تصح الإشارة إلى أن مجموعة من الأشخاص في الحكومة والقطاع الخاص، منذ فترة طويلة، يتبنون مفهوماً مفاده أن الميل التلقائي للمؤسسة السياسية في واشنطن إلى الإجراءات التقييدية قد يؤذي في مضمار التنافس مع الصين.
وفي عام 2021، زعم إريك شميدت، المدير التنفيذي السابق لشركة “غوغل”، أن “الصين ليست منشغلة بوقف مسار الأشياء [في صناعة الذكاء الاصطناعي]، لمصلحة تشريعات تنظيمية”.
ووفق ذلك الضرب من التفكير، إذا نصبت الولايات المتحدة أسيجة حديدية حول الذكاء الاصطناعي، فقد ينتهي الأمر إلى الإذعان وتسليم قيادة الذكاء الاصطناعي إلى الصين.
واستطراداً، من وجهة الأفكار المجردة، تمتلك تلك المخاوف ما يبرر منطقها، إذ لن يصب في خدمة المصالح الأميركية فرض قيود تشريعية صارمة وقمعية على الصناعة المحلية في الذكاء الاصطناعي، فيما قد تواصل الشركات الصينية ازدهارها منفلتة من كل قيد.
في المقابل، من المستطاع إلقاء نظرة مدققة على تطور الذكاء الاصطناعي في الصين، خصوصاً النماذج اللغوية الكبرى Large Language Models الممثلة للجيل التالي من الأنظمة التي تستند إلى تطبيقات من نوع “تشات جي بي تي”.
وسيظهر ذلك التمعن مدى التضخم المفرط لتلك المخاوف [الأميركية من سرعة تطور التكنولوجيا الذكية في الصين]، إذ تتأخر النماذج اللغوية الكبرى الصينية عن نظيراتها الأميركية، وما زالت معتمدة إلى حد كبير على البحوث والتكنولوجيا الأميركيتين.
أكثر من ذلك، يواجه مطورو الذكاء الاصطناعي الصينيين بالفعل بيئة من تشريعات سياسية واقتصادية وتنظيمية تقييدية صارمة التشدد، تفوق بأشواط كثيرة ما يواجهه نظراؤهم الأميركيون. وحتى لو صحت فكرة أن صوغ تشريعات تنظيمية جديدة قد يبطئ الابتكار في الولايات المتحدة، مع ترجيح أنها قد لا تفعل ذلك، لا تبدو الصين مهيأة للانطلاق بسرعة إلى الأمام.
وكذلك تبني الشركات الأميركية أدوات في الذكاء الاصطناعي وتوظفها في تلك الصناعة، بسرعة لا نظير لها في أي أوقات سابقة. ويصل ذلك إلى حد أن تلك الشركات باتت تسعى بفاعلية إلى طلب التوجيه من مؤسسات الدولة في واشنطن.
ويعني ذلك أن صناع السياسة ممن يفكرون في كيفية تنظيم التكنولوجيا، باتوا في موقع القوة وليس الضعف. إذا استمرت من دون توجيه، سيستمر تضاعف الأخطار المتأتية من نظم الذكاء الاصطناعي الموجودة اليوم، فيما ستنفلت الأخطار الجديدة التي ستنجم عن الأنظمة المستقبلية في ذلك المضمار.
أقصى أشكال الاستثارة
خلال السنوات الثلاث الماضية، سارعت المختبرات الصينية في الذكاء الاصطناعي لاقتفاء خطى الشركات الأميركية والبريطانية، وصنعت نظم في الذكاء الاصطناعي تتشابه مع “تشات جي تي 3” ChatGPT3 الذي صنعته “أوبن أي آي” قبل توصلها إلى “تشات جي تي” الشهير، ومع “بالم” PaLM الذي صنعته شركة “غوغل”، وتطبيق “شينشيلا” Chichilla الذي ابتكره مختبر “ديب مايند” لـ”غوغل” أيضاً. لكن، في حالات كثيرة، غطى ضجيج المبالغات الذي أحاط بالنماذج من الذكاء الاصطناعي الصيني، على حقيقة الأمر فيها.
وأعرب بحاثة الذكاء الاصطناعي الصيني ممن تحدثنا إليهم، عن قناعتهم بأن النماذج اللغوية الكبرى الصينية تتأخر بما يراوح في الأقل بين سنتين وثلاث سنوات عن أقصى نظيراتها تطوراً في الولايات المتحدة، بل ربما أكثر.
أسوأ من ذلك، يستند التقدم الذكاء الاصطناعي في الصين إلى حد كبير، على إعادة إنتاج وتعديل البحوث المنشورة في الخارج. ويشكل ذلك الأمر اعتماداً قد يصعب على الشركات الصينية أن تتسنم دوراً قيادياً في ذلك الحقل. من ثم إذا تباطأ الابتكار خارج الصين فالأرجح أن تتباطأ جهود الصين في صنع نماذج لغوية كبرى، على غرار ما يحصل للمتباري الأقل سرعة في سباق الدراجات الهوائية، حينما يسير في ركاب آخر صفوف المتبارين المتقدمين.
يجتهد علماء الذكاء الاصطناعي في تقريبه من نظيره لدى صانعه البشري
يجتهد علماء الذكاء الاصطناعي في تقريبه من نظيره لدى صانعه البشري (بيكساباي.كوم)
لنضرب مثلاً بنموذج “ووداو 2.0” WuDao 2.0 الذي صنعته “أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي”. فعقب إطلاقه في صيف 2021، انبهرت به مجلة “فوربس” باعتباره مثلاً عن “ذكاء اصطناعي أضخم وأكبر وأقوى”، لأن “ووداو 2.0” تباهى باحتوائه على مؤشرات تفوق “تشات جي بي تي 3” بـ10 أضعاف، مع الإشارة إلى أن أرقام المؤشرات في نموذج للذكاء الاصطناعي تحدد الكيفية التي يدير بواسطتها البيانات. لكن، بطرق عدة، يعتبر ذلك التقييم مضللاً.
ويرجع ذلك إلى أن زيادة عدد المؤشرات بحد ذاتها لا تجعل نموذجاً ما في الذكاء الاصطناعي أفضل من الآخرين، خصوصاً إذا لم تترافق تلك الزيادة مع ارتقاء في قوة الحوسبة وكميات البيانات [تشير قوة الحوسبة Computing Power خصوصاً، إلى مدى قوة وتقدم الرقاقات الإلكترونية التي يحتويها جهاز للذكاء الاصطناعي، بمعنى مدى السرعة في إدارة كميات ضخمة من البيانات ضمن وحدة زمنية محددة].
من ثم في هذه الحالة بالذات، لم تحز المقارنة بين أعداد المؤشرات دلالة موثوقة، خصوصاً مع ملاحظة أن “ووداو 2.0” يعمل بواسطة جمع توقعات من مجموعة نماذج بأكثر من الاعتماد على نموذج لغوي واحد، مما يؤدي إلى تضخيم رقم المؤشرات بصورة مصطنعة.
أكثر من ذلك، أسهم طرح البحاثة للأسئلة على “ووداو 2.0” بصورة معينة، في تدعيم أدائه خلال تجارب معينة، فظهر أكثر قوة من حقيقة الأمر فيه.
على نحو مماثل، أثار نموذج “إرنيه بوت” Ernie Bot الذي صنعته شركة محرك البحث الصين “بايدو”، Baidu خيبة مماثلة، إذ روج باعتبار إجابة الصين عن ظهور “تشات جي بي تي”، إلا أن تطويره جاء، بوضوح وعلى غرار ما حصل مع “ووداو 2.0″، بتحفيز من الضغط للحفاظ على التساوي مع ابتكار أميركي يشكل اختراقاً علمياً عالي المستوى، إذ فشل روبوت الدردشة الصيني المذكور آنفاً، في تحقيق الأماني المعقودة عليه. ولم يتضمن حدث إطلاقه من قبل “بايدو” سوى أمثلة سجلت سلفاً عن إدائه، وتلك علامة حاسمة على أنه روبوت دردشة غير قادر ترجيحاً على التعامل مع الحوارات التفاعلية المباشرة.
وجاءت المراجعات التي قدمها مستخدموه ممن منحوا آنذاك الحق في الوصول إليه والتحاور معه، لتعطيه تقييماً متوسطاً في أفضل الأحوال، مع ملاحظة أنه تعثر في أداء مهام بسيطة كالرياضيات الأساسية والترجمة.
في سياق متصل، تصارع المطورون للذكاء الاصطناعي في الصين مع الضغوط التي طلبت منهم الحفاظ على ملاحقة مستوى نظرائهم في الولايات المتحدة.
في أغسطس (آب) 2021، تعاون ما يزيد على 100 باحث من “جامعة ستانفورد”، لإنجاز ورقة بحثية رئيسة تتناول ما سمي “نماذج التأسيس” Foundation Models، التي تشكل صنفاً من أنظمة الذكاء الاصطناعي يشمل النماذج اللغوية الكبيرة.
بعد سبعة أشهر، نشرت “أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي” ورقة مماثلة تتضمن مراجعة واسعة للمعلومات الموجودة بالفعل عن ذلك الموضوع نفسه، مع عدد مشابه تقريباً من البحاثين.
في المقابل، عقب أسابيع قليلة، اكتشف باحث يعمل في “غوغل” أن أجزاء كبيرة من تلك الورقة الصينية تشكل نسخاً غير مشروع لمحتويات مجموعة من الأوراق العالمية. وذهبت بعض وسائل الإعلام الناطقة بالصينية إلى تخمين مفاده أن ذلك حدث سبب مشاركة طلاب حديثي التخرج في كتابة تلك الورقة، مع مواجهتهم ضغوطاً قصوى دفعتهم إلى إنجاز ما طلب منهم في الوقت الوجيز الذي حدد لهم.
يجب على الأميركيين ألا يطاردوا بشبح صعود صيني وشيك في تطوير النماذج اللغوية الكبرى، إذ تجهد الفرق الصينية للذكاء الاصطناعي كي تلاحق بالكاد مستوى التسارع الخاطف في ظهور بحوث ومنتجات جديدة في بلدان أخرى. في ما يتعلق بالنماذج اللغوية الكبرى، تبتعد الصين خلف منافسيها العالميين الذين تلاحق ركبهم، بسنوات، وليس أشهراً.
الرياح المعاكسة والعوائق
يضاف إلى ما سبق أن صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين تعوقها القوى والضغوط التي تأتي من خارجها، مما يؤدي أيضاً إلى إبطاء سرعة الابتكار. وبسبب الحاجات الهائلة في الحوسبة التي تطلبها النماذج اللغوية الكبرى، يؤثر التنافس الدولي في أشباه الموصلات، بصورة حتمية، على بحوث الذكاء الاصطناعي وتطويره. لا تستطيع الصناعة الصينية في أشباه الموصلات سوى إنتاج رقاقات متأخرة أجيالاً عن الأجيال الحديثة الفائقة التقدم، مما يجبر مختبرات صينية عدة على الاعتماد على أفضل ما يتوافر من الرقاقات الأكثر جدة التي تطورها الشركات الأميركية.
في تحليل أجريناه أخيراً عن النماذج اللغوية الكبرى الصينية، وجدنا أن 17 نموذجاً منها يستعمل رقاقات أنتجتها شركة “نفيديا” NIVIDIA المستقرة في كاليفورنيا. في المقابل، لم نعثر إلا على ثلاثة نماذج مصنوعة برقاقات صينية.
جاء النموذج اللغوي الصيني الكبير “بانغو – ألفا” PanGu-α الذي أطلقتة شركة “هواوي” في عام 2012 بين تلك الاستثناءات الثلاثة 2021. ودرب باستعمال رقاقة “آسسند” التي تنتجها تلك الشركة نفسه. وتبين لنا أن النموذج طور مع تزويده بقوة حوسبة تقل عما تتطلبه معايير الممارسات المثلى الموصى بها في ذلك المضمار. على رغم أنه بات مسموحاً بصورة شرعية أن تحصل مجموعات البحث الصينية على الرقاقات الأميركية الأكثر تقدماً عبر استئجار معدات إلكترونية من مقدمي خدمات حوسبة السحاب على غرار “مايكروسوفت” و”أمازون”، يجب على بكين أن تتملكها الخشية من أن الخطابات المكثفة في مزاعمها والقيود المحيطة بأشباه الموصلات، قد تعمل على عرقلة شركاتها وباحيثها في مجال الذكاء الاصطناعي.
ضمن إطار أوسع، إن التشاؤم الذي يحيط بمجمل مآل التطور الاقتصادي والتكنولوجي للصين، قد يعوق جهود بكين المحلية في الذكاء الاصطناعي. وضمن استجابتها حيال موجة من التدقيق التشريعي والتباطؤ الاقتصادي الملحوظ في البلاد، اختارت شركات صاعدة صينية عدة أن ترسي عملياتها خارج تلك البلاد كي تبيع منتجاتها إلى السوق الدولية بدلاً من أن يقتصر البيع بصورة أساسية على السوق الصينية. وحصل ذلك الاتجاه على قوة دفع بسبب تصاعد الرغبة بين المستثمرين الصينيين في كسب وصول أكثر سهولة إلى الاستثمار الأجنبي، والنجاة أيضاً من بيئة التشدد التشريعي الصيني الصارم. وفي المقابل، تستمر تلك الشركات في معاناة القيود المفروضة على الشركات الصينية في الولايات المتحدة.
بين روبوت الرقابة الخفية و”الأخ الكبير”
تؤدي القيود الصينية التشريعية الثقيلة على حرية التعبير إلى فرض تحد متفرد على تطوير النماذج اللغوية الكبرى وتشغيلها، إذ تعمل تلك النماذج مستندة إلى حرية التحرك بمعنى أن تتبع ما يطلبه المستخدمون منها أن تصنع من النصوص حول أي موضوع وفي أي أسلوب.
ومن الواضح أنه أمر لا ينسجم مع قوانين الرقابة الصينية المتشددة. وفي حديث شخصي أجراه (كسياو) أحد كتاب هذا المقال، أسر أحد المديرين التنفيذين بأن النماذج اللغوية الكبرى في الصين غير مسموح لها حتى إن تعد من الواحد إلى الـ10، لأن ذلك يتضمن إيراد رقمي 8 و9 متجاورين، ما قد يشير إلى حساسية الدولة حيال رقم 89 وأي نقاش عن احتجاجات “ميدان تيانانمين” في 1989.
أفق مفتوح واشكالي للاندماج بين أجساد الذكاء الاصطناعي وأجسام الجنس البشري
أفق مفتوح وإشكالي للاندماج بين أجساد الذكاء الاصطناعي وأجسام الجنس البشري (بيكساباي.كوم)
ولأن معدات العمل في دواخل النماذج اللغوية الكبرى غير مفهومة بصورة وافية، حتى بالنسبة إلى صناعها، تعتبر الطرق المستعملة في رسم حدود لما تستطيع تلك النماذج قوله وما يجب أن تحجم عنه، أشبه بمطرقة ثقيلة وليس مبضع جراح.
ويعني ذلك أن الشركات تواجه ضرورة إجراء مفاضلة قاسية بين الفائدة من إجابات الذكاء الاصطناعي وبين كيفية العمل على تجنيبها الخوض في مواضيع غير مرغوب فيها. وفي الأمكنة كلها، ما زال مقدمو خدمات النماذج اللغوية الكبرى يتكهنون في شأن كيفية إجراء تلك المفاضلة، لكن التداعيات الشديدة الكامنة في إمكانية حصول خطوة خاطئة، تدفع الشركات الصينية إلى اختيار مقاربات شديدة التحفظ، إذ تمنع منتجات شائعة الاستخدام على غرار نظام “كزايو إيس” XiaIce [نموذج الذكاء الاصطناعي المستند إلى الحوسبة العاطفية] الذي تنتجه “مايكروسوفت”، من مناقشة مواضيع حساسة سياسياً على غرار احتجاجات “ميدان تيانانمين” والزعيم الصيني شي جينبينغ.
وزعم بعض من تحدثنا إليهم أن نظام “كزايو أيس” تراجعت قدراته الوظيفية مع مرور الوقت، ربما تكون “مايكروسوفت” قد أضافت إليه بعض القيود. وعلى غرار ذلك، وجد بعض الصحافيين أن روبوت الدردشة “إرنيه بوت” الذي صنعه محرك البحث “بايدو”، يعطي أجوبة معلبة عن الأسئلة المتعلقة بالرئيس شي، ويرفض الإجابة عن مواضيع أخرى حساسة سياسياً.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار المدى الواسع للرقابة على الآراء والمواضيع في الصين، إذ تمتد من صحة الاقتصاد الصيني إلى تطور الحرب في أوكرانيا إلى تعريف مصطلح “ديمقراطية”. من ثم يضطر المطورون الصينيون إلى العمل بضراوة كي لا تتخطى روبوتات الدردشة الخطوط الحمراء من جهة، وتوخي استمرار قدراتها في تقديم إجابات عن معظم الأسئلة بطريقة طبيعية وفاعلة.
إضافة إلى تلك القيود السياسية على حرية التعبير، تتعرض شركات الذكاء الاصطناعي الصينية إلى ضغط قوانين النظام التشريعي الفائقة التفصيل والتطلب في مجال الذكاء الاصطناعي. وضعت إحدى مجموعات تلك القونين في يناير (كانون الثاني) 2023، وتنطبق على مقدمي خدمات الإنترنت ممن يقدمون خدمات تتضمن استخدام ذكاء اصطناعي توليدي، بما في ذلك النماذج اللغوية الكبرى. وفي أبريل (نيسان) الماضي، نشرت مسودة قابلة للتقييم، عن ضرورة فرض متطلبات إضافية بغية تطبيقها على البحوث وممارسات التطوير ومنتجات الذكاء الاصطناعي.
استمراراً، هنالك بعض القوانين المباشرة الطابع على غرار فرض ضرورة التعامل مع البيانات الأساسية وفق البيانات الأوسع نطاقاً التي تصدر عن نظام حوكمة الذكاء الاصطناعي في الصين. وتحمل تشريعات أخرى طابعاً أكثر إجهاداً ودقة. ومثلاً، تجبر التشريعات التي صدرت في يناير 2023، مقدمي الخدمات الرقمية [التي تتضمن الاستناد إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي] على “التصدي للإشاعات” عبر استخدام محتوى تصنعه منتجاتهم. من ثم يعني ذلك أن شركات مقدمي ذلك النوع من الخدمات قد يستهدفون إذا أنتجت أدواتهم في الذكاء الاصطناعي معلومات أو آراء تعارض خط الحزب الشيوعي الصيني.
وتمضي مسودة تشريعات أبريل إلى أبعد من ذلك، إذ تجبر مطوري النماذج اللغوية الكبرى على تأكيد الحقيقة والدقة في ما تنتجه برامجهم في الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى، وبالدرجة الأولى، المواد المستخدمة في تدريب تلك البرامج. وقد يتسبب ذلك الشرط بصداع للعاملين في مضمار يعتمد على مخازن ضخمة من البيانات التي حصل عليها من الإنترنت. إذا صيغت من منطلق الحرص، يجب ألا تأتي التشريعات بما يعوق الابتكار. لكن، حتى الآن، تبدو مقاربة الحزب الشيوعي الصيني في التنظيم التشريعي للنماذج اللغوية الكبرى وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ثقيلة الوطأة وقد يتبين لاحقاً أنها تعوق البحاثة والشركات الصينية.
الخوف من حيوان خرافي
على رغم الصعوبات التي تواجهها حاضراً، قد يستطيع تطور الذكاء الاصطناعي الصيني أن يدور الزوايا ويرسي مساراً يوصله إلى تحقيق نجاحات وابتكارات قياسية. في المقابل، يملك الأميركيون تاريخاً في مبالغتهم بتقدير مدى اقتدار منافسيهم.
أثناء “الحرب الباردة” [فترة الصراع بين الدول الغربية والاتحاد السوفياتي السابق]، أدت التقييمات المضخمة عن قدرات السوفيات إلى وضع اندفع فيه المسؤولون الأميركيون إلى وضع سياسات مبنية على افتراض وجود “فجوة في القاذفات” و”فجوة الصواريخ” [تتعلق الفجوتان بامتلاك الجيش السوفياتي أعداداً أكبر من الطائرات القاذفة الاستراتيجية والصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، مع ما يحمله ذلك من تهديد لحلف الأطلسي خصوصاً في أوروبا]. وتبين لاحقاً أن الفجوتين كلتيهما مبالغ فيهما.
ثمة شيء مماثل موجود في إحساس لا مبرر له بالقلق الذي يجب ألا يحسم مسار وضع تشريعات تنظم الذكاء الاصطناعي في أميركا. وفي النهاية، فيما قاومت شركات التواصل الاجتماعي الرقمي مسألة التشريعات التنظيمية، عمدت شركات الذكاء الاصطناعي بالفعل إلى المطالبة به.
وقبل خمس سنوات، حذر مؤسس “فيسبوك”، مارك زوكربيرغ، الكونغرس من تقسيم شركته في التواصل الاجتماعي، معتبراً أن ذلك لن يقود لسوى تقوية المنافسين الصينيين. وعلى العكس من ذلك، ينشط قادة صناعة الذكاء الاصطناعي بفاعلية في طلب إيجاد تشريعات تنظيمية.
قبل كل شيء، تمثل التشريعات المجال الذي تتهدد الولايات المتحدة خطورة التأخر عن الصين فيه، إذ تستند التشريعات الحديثة التي أصدرتها الصين لتنظيم الذكاء الاصطناعي التوليدي عندها، إلى مجموعة ضخمة من القوانين، إضافة إلى نظام من حوكمة البيانات. في مسار متصل، يسير الاتحاد الأوروبي حثيثاً لإقرار قوانين جديدة تتعلق بالذكاء الاصطناعي، عبر “قانون الذكاء الاصطناعي”، الذي يضع تصنيفاً لمستويات الخطورة، ويضع متطلبات إضافية على النماذج اللغوية الكبرى. حتى الآن، لم تعمل الولايات المتحدة على بذل جهود مماثلة، لكن حتى في هذا المضمار، يقف صناع السياسة الأميركيون في موقف أفضل مما افترضوه غالباً، إذ وضعت الحكومة الفيدرالية بالفعل مجموعة من الأطر في التعامل مع أخطار الذكاء الاصطناعي والأذى الناجم عنه.
ويشمل ذلك مشروع قانون متطور قدمه البيت الأبيض عن “وثيقة حقوق الذكاء الاصطناعي”، و”إطار التعامل مع أخطار الذكاء الاصطناعي” الصادر عن “المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا”. تقدم تلك الوثائق توجيهات عميقة عن كيفية التعامل مع مجموعة متشابكة من الأخطار والأضرار، وكذلك المنافع، في تلك التكنولوجيا المعدة للغايات واسعة وعمومية. ثمة حاجة الآن إلى قوانين تعزز الملامح المحورية لتلك الأطر الآنفة الذكر، بهدف حماية حقوق المواطنين ووضع سياج واقٍ حول التقدم السريع في بحوث الذكاء الاصطناعي التوليدي.
في المقابل، هنالك مجموعة من القضايا التي يجب التفكير فيها، بما في ذلك الأمكنة التي ستستقر فيها السلطات التنظيمية الجديدة، والدور الذي يجب أن تؤديه أطراف ثالثة مراقبة، وكيفية صوغ متطلبات الشفافية، وكيفية توزيع الخسائر حينما تقع الأخطاء. إنها أسئلة شائكة وملحة من شأنها أن تعمل على تشكيل مستقبل التكنولوجيا، من ثم إنها تستحق توجيه جهود جدية لها، إضافة إلى اهتمام كافٍ من صناع السياسة. إذا أدى خيال الحيوان الخرافي عن الاقتدار الصيني في الذكاء الاصطناعي، إلى إصابة صناع السياسة باليأس وأحجموا عن السعي إلى صوغ تشريعات تنظيمية لتلك الصناعة، فسيتسببون في الأذى لمصالح الولايات المتحدة ويهددون ازدهار تلك البلاد.