عندما ينظر الماليون إلى الوجهة الغربية من خارطة المنطقة يجدون هناك المغرب الذي يؤمن بأنهم قادرون على حلحلة مشاكلهم، وليسوا بحاجة إلى تدويل وضعيتهم. الماليون أثبتوا قدرتهم على جعل المصالح العليا لمالي فوق كل الاعتبارات، اعتراف مغربي نابع من ثقل العلاقات التاريخية والتجارية والإنسانية مع مالي يدفع في الاتجاه الصحيح، اتجاه يصحح أخطاء الفرقاء في مالي الذين اطمأنوا في السابق إلى مبادرات لم يكن هدفها الحقيقي سوى تقويض الاستقرار الداخلي والعمل على تفكيك المكونات التي تؤسس للمجتمع المالي بما يخدم أجندات التدخل في البلاد.
اليوم، تعيد باماكو ترتيب أولوياتها في السياسة الخارجية بالمنطقة، ظهر هذا مع تصعيدها ضد تدخلات الجزائر في شؤونها بعد استقبال النظام الجزائري لأطراف مالية معارضة، ومن بعدها مع مجموعة سيداو بانسحابها رفقة بوركينا فاسو والنيجر. ومقابل هذا التصعيد رحبت مالي كما باقي دول الساحل الأخرى بالمبادرة الملكية القاضية بتمكين دول الساحل والصحراء من الانفتاح على الواجهة الأطلسية.
عاصمي غويتا، رئيس الفترة الانتقالية بمالي، كان واضحا بتعيينه سفيرا جديدا لبلده بالرباط فافري كامارا، وتأكيده أن الشراكة مع المملكة المغربية قوية ومستمرة، بموازاة ضرورة العمل على التسوية السلمية للأزمة المالية وفق خطة حوار داخلي، بعدما أعلن رسميا إنهاء العمل باتفاق الجزائر للسلام الموقع عام 2015، واتهام الحكومة الجزائرية بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، بعد استقبال الرئيس عبدالمجيد تبون الإمام محمود ديكو، المعروف بانتقاده الشديد للجيش، إضافة إلى عدد من قادة الحركات المسلحة في شمال مالي.
مقاربة المغرب التي جمعت بين الأمني والتنموي والفكري والاقتصادي، كانت أقرب إلى الواقع، وهذا ما تنبهت له قيادة مالي
تصعيد مالي ضد الجزائر وقبلها فرنسا كان نتيجة سياسة الجزائر الخارجية القائمة على التدخل في شؤون مالي. لم تستوعب الجزائر التطورات التي تحدث في المنطقة والعالم، ولم تعترف بأن دولة مثل مالي قادرة على القفز عبر حقول الألغام التي نصبتها الجزائر بشكل خاص، كي تبقى باماكو رهينة بيد نظام يحتاج إلى الكثير من الابتكار في علاقاته الخارجية، ويحتاج أكثر من ذلك إلى التواضع وفهم الإشكاليات الحقيقية التي تواجه المنطقة. وهذا بالفعل ما أكدته الحكومة المالية عندما طالبت من الجزائر بالحد من التصور الخاطئ الذي يعتبر مالي حديقة خلفية، وسعيها للإبقاء على نظام عقوبات الأمم المتحدة بشأن مالي، ومحاولة فرض فصل خاص بمالي في الوثيقة الختامية لقمة حركة عدم الانحياز في كمبالا بأوغندا دون موافقة السلطات المالية. أي أن عدم الرشد السياسي كان حاضرا بقوة في تحركات الجزائر للحد من طموحات الحكومة المالية الجديدة، ما جعل هذه الأخيرة تنتفض بقوة ضد صاحب القرار الجزائري ومن يناصره في مساعيه.
تواجد السفير الجديد بالرباط هدفه تعزيز العلاقات الديناميكية بين البلدين، استنادا إلى تراكمات تاريخية وسياسية ودينية وإنسانية وأكثر من ستين اتفاقية تعاون موقعة بينهما، خصوصا بعد أن أصبحت مالي عضوا في مبادرة الأطلسي الملكية، التي تهدف إلى ولوج دول الساحل الأفريقي إلى المحيط، وهي فرصة أمام هذه البلدان لتجاوز الوضع الاقتصادي الصعب جراء استمرار تردي الوضع الأمني والاجتماعي، وتنامي مخاطر التنظيمات الانفصالية.
إذا عرفنا أن البيئة المحيطة بمالي يتداخل فيها ما هو قبلي وما هو حدودي وعدم استقرار سياسي، وكذلك أزمة الطوارق المستعصية والمتشعبة في أكثر من دولة في المنطقة مثل ليبيا والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو، فهذا أدعى إلى البحث عن شريك موثوق يملك رؤية لإنتاج حلول غير تقليدية للتعاطي مع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤدية إلى ما تعيشه مالي بشكل خاص، ولن تجد غير المملكة المغربية شريكا يحرص على عدم عزلها عن بيئتها وهويتها وتاريخها وما تملكه من ثروات.
حتى مع افتراضنا أن الديمقراطية يمكن أن تكون المدخل للتعامل مع هذا النوع من الأزمات المعقدة، مثل التطرف الديني والعرقي والخلافات الحدودية، فديمقراطية مالي الفتية منذ عام 2002 لم تشكل الأساس الصلب من أجل مواجهة تحديات كبيرة كالتي تمر بها الآن، وبالتالي فالحاجة ملحة إلى رؤية شاملة للتعامل مع هذه التحديات ومساعدة مالي على بسط سيطرتها ونفوذها على حدودها للحد من تدخلات لا تخدم سيادتها، وهنا أيضا تحضر الرؤية الإستراتيجية للمغرب التي يمكنها تغطية محاور مهمة تتمثل في محاربة التصحر والأمن الغذائي والبنيات التحتية الاجتماعية والتربوية ومحاربة الجريمة العابرة للحدود.
تصعيد مالي ضد الجزائر وقبلها فرنسا كان نتيجة سياسة الجزائر الخارجية القائمة على التدخل في شؤون مالي. لم تستوعب الجزائر التطورات التي تحدث في المنطقة والعالم
المغرب ملتزم بإرساء أطر وسياقات نهوض مالي وأمنها للمساهمة في استقرار المنطقة وعدم انزلاقها إلى حروب أهلية تستفيد منها الجماعات المتطرفة، لأن التعامل الأمني المباشر وغير المباشر مع هذه المعضلة ثبت فشله الذريع، فتصاعد العنف والتطرف على المستويات كلها يستدعي من الدول الكبرى والإقليمية معالجة الأسباب التي أدت إلى ترعرع هذه التنظيمات وليس القضاء الأمني عليها، لكن الجزائر لا تريد الميل نحو هذا الخيار، عكس المغرب الذي قدم نفسه دائما وسيطا موثوقا للعمل على حل أزمة مالي واحتضان لقاءات المصالحة بين الفرقاء فيها.
كانت مقاربة المغرب التي جمعت بين الأمني والتنموي والفكري والاقتصادي، أقرب إلى الواقع، وهذا ما تنبهت له قيادة مالي التي اقتنعت بوجوب التوقف عن الأسلوب التقليدي في مقاربة القضية كضرورة، وذلك باستغلال الدعم الدولي بشكل حذر يخدم الهدف الإستراتيجي في التقويض الفكري والاقتصادي لكل مسعى تطرفي، ومحاولة تقييم الأولويات على أساس حسابات الاحتواء على المدى البعيد وبما يخدم السلم والأمن في المنطقة ككل، ولهذا نرجح عودة الفرقاء الماليين إلى طاولة التوافق برعاية مغربية، وكل الشروط متوفرة لذلك.
لقد حسمت مالي أمرها بعد حضور وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بمالي إلى مراكش، في 23 ديسمبر الماضي، لمناقشة الأسس التي ستقوم عليها مبادرة الأطلسي التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس، والذي قال عنها إنها تمثل عاملا هاما قادرا على تقديم رد اقتصادي وجيوسياسي للانشغالات المرتبطة بالسلام والأمن، لتدشين مرحلة أخرى من العلاقات. واختيار مراكش لم يكن اعتباطيا، بل هي عاصمة الجنوب المغربي ولما لها من رمزية تاريخية تعيدنا إلى العلاقات الضاربة في التاريخ بين مالي وغرب أفريقيا مع السلالات التي حكمت منذ المرابطين والسعديين وصولا إلى دولة العلويين، ومنها شدد وزير خارجية مالي على أهمية احترام “الخيارات الإستراتيجية لمالي وشركائها”، أي أن هذا البلد سئم من تدخلات دول عديدة في شؤونه وعلى استعداد لتقديم الرباط وسيطا موثوقا في حل أزمته السياسية.
العرب