من أجل إرساء بيئة تشجّع على التعاون والتنمية، على الولايات المتحدة والصين السعي إلى الحصول على دعم الدول المجاورة والمنظمات الإقليمية، وإلّا فسيظل التنافس الإقليمي والجيوسياسي في الشرق الأوسط عائقا في وجه التقدّم.
واشنطن – اكتسبت فكرة تحويل الحدود إلى صلات وصل بين الدول والقارات زخما في السنوات الأخيرة، إذ أُطلقت مشاريع عدّة تهدف إلى إنشاء ممرّات اقتصادية تربط بين آسيا وأوروبا، أبرزها مبادرة الحزام والطريق الصينية والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
ويرى عبدالله باعبود وهو زميل أول غير مقيم في مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط في تقرير نشره المركز أن على الرغم من أن المشروعين يرميان إلى إنشاء شبكات اقتصادية متكاملة تتجاوز الحدود الوطنية، من غير المرجّح أن يُغيّرا حقيقة التنافس الجيوسياسي.
وفي الواقع، قد يُسهمان حتى في مفاقمة التشنّجات بين الدول، بسبب التنافس بين الولايات المتحدة والصين، والتوزيع غير المتكافئ للمكاسب بين الجهات المُشاركة في المشروعين، وسياساتهما القائمة على إدماج بعض الدول وإقصاء بعضها الآخر.
وترزح منطقة الشرق الأوسط، حيث يُفترَض أن تعبر ممرّات المشروعَين، تحت وطأة النزاعات على الحدود البرية والبحرية، والتي غالبا ما تتأجّج خلال فترات انعدام الاستقرار الإقليمي، وهذه مشكلة من المستبعد أن تحلّها الممرّات الاقتصادية.
تشكّل مبادرة الحزام والطريق والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا تطوّرَين حديثين، على الرغم من أن المشروع الأول يسبق الثاني بعشر سنوات. فمبادرة الحزام والطريق، التي تُسمّى أيضا مبادرة طريق الحرير الجديد، عبارة عن مشروع عالمي لإنشاء شبكة واسعة من البنية التحتية المترابطة أطلقه الرئيس الصيني شي جينبينغ في العام 2013، أما الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا فهو الأحدث في سلسلة من المشاريع التي تقودها الولايات المتحدة وتهدف إلى دمج الشركاء في الشرق الأوسط وجنوب آسيا ضمن تكتّل جغرافي اقتصادي واحد.
ويقدّم هذان المشروعان رؤيتين متنافستين للتنمية العالمية تعبّران عن المشهد الجيوسياسي المتغيّر في القرن الحادي والعشرين، وتهدفان إلى تحسين الروابط بين الدول والقارات.
وبهدف تعزيز موقع الصين باعتبارها دولة رائدة عالميًا في تطوير البنية التحتية ودفع عجلة التعاون الاقتصادي، توسّعت مبادرة الحزام والطريق لتشمل دولا في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوقيانوسيا وأميركا اللاتينية.
واستثمرت الصين أكثر من تريليون دولار في اقتصادات البلدان المنخرطة في هذه المبادرة، وأنفقت الجزء الأكبر من هذه الأموال على البنية التحتية التقليدية الخاصة بالنقل والمواصلات. وبحلول أواخر العام 2023، أصبحت مبادرة الحزام والطريق تضمّ 155 دولة.
وساعد في هذا المسعى واقع أن الصين أصبحت في العام 2016 أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الأوسط، إذ بلغت قيمة استثماراتها الجديدة في المنطقة 29.7 مليار دولار، مقارنةً مع استثمارات الولايات المتحدة البالغة 7 مليارات دولار.
على الرغم من مساعي إنشاء شبكات اقتصادية متكاملة في الشرق الأوسط، من غير المرجح أن تتغير حقيقة التنافس الجيوسياسي
وتُنفّذ الصين مشاريع تطوير الموانئ والبنية التحتية في المنطقة بشكل أساسي في مصر وإيران وإسرائيل وسلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. كذلك، وقّعت مصر، ودول مجلس التعاون الخليجي، وإسرائيل (على الرغم من الضغوط الدبلوماسية الأميركية التي واجهتها لإعادة النظر في هذه الخطوة).
وأما الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، فهو مشروع شراكة ضخم لتطوير البنية التحتية الاقتصادية. لقد وقّعت السعودية والاتحاد الأوروبي والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة مذكرة تفاهم كشفت عن الخطوط العريضة الأساسية لشبكة النقل التي تتراوح من الشحن بالسفن وصولا إلى السكك الحديدية، والتي ستشكّل تكملة لطرق النقل البحري والبرّي القائمة.
ويتألّف المشروع، الذي يهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، من ممرّين مُنفصلين: الأول هو الممر الشرقي الذي يربط الهند بالخليج، والثاني هو الممر الشمالي الذي يصل الخليج والشرق الأوسط بأوروبا. وتشمل البنية التحتية الماديّة للمشروع خطوط سكك حديدية تربط الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل بأوروبا، فضلًا عن مدّ خطوط لنقل الكهرباء وكابلات لنقل البيانات من أجل تعزيز الاتصال الرقمي، وأنابيب لتصدير الهيدروجين النظيف بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
وتهدف المساعي الأميركية لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا جزئيا إلى التصدّي لمبادرة الحزام والطريق التي أتاحت للصين توسيع امتدادها الاقتصادي والجيوسياسي، ولاسيما في مناطق لطالما تمتّعت فيها الولايات المتحدة بنفوذ كبير.
وتُعدّ منطقة الخليج بحكم غناها بموارد الطاقة وموقعها الإستراتيجي بين البحر الأحمر ومضيق هرمز، ساحة تنافس رئيسة بين واشنطن وبكين. ويتيح مشروع الممر الاقتصادي لواشنطن فرصة مهمّة لإرساء ثقل مواز مقابل نفوذ بيكن المتنامي في المنطقة، مع أن السعودية والإمارات قد لا تشاركانها وجهة النظر هذه.
ويُحتمل أن يؤدّي انخراط حلفاء أساسيين للولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبي والهند في مشروع الممر الاقتصادي إلى زيادة التعاون والتنسيق بين هذه البلدان ودول الخليج، ما يسمح لواشنطن بالتصدّي لنفوذ الصين في المنطقة بصورة أكثر فعالية.
ثمّة عوامل عدة تعيق تقدّم مشاريع الممرّات الاقتصادية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. فهذه المشاريع لا تنجح في معالجة القضايا المسبِّبة لانعدام الاستقرار السياسي والتوترات الكامنة في المنطقة، ومن بينها النزاع بين إسرائيل وإيران، وواقع أن الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة أحبطت الجهود الأميركية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وبلدان عربية عدّة، والتنافس السعودي – الإيراني، إضافة إلى عدد من القضايا الحدودية الشائكة بين الدول العربية نفسها.
وتبدي بعض الدول اعتراضا على استبعادها من المشاريع، مثل مصر والعراق وعُمان وتركيا في حالة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو تختار أحيانا أن تسلك مسارها الخاص بصرف النظر عن مشاركتها في مشروع الممر الاقتصادي ومبادرة الحزام والطريق، كما هو الحال مع السعودية والإمارات.
ولذلك سيبقى تنفيذ مشاريع الممرّات الاقتصادية العابرة للقارات مرورا بالشرق الأوسط مهمة صعبة، سواء تعلّق الأمر بمبادرة الحزام والطريق أو بالممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
وفي غضون ذلك، تطرح حرب الظل المستمرة بين إيران وإسرائيل التهديد الأكبر للاستقرار في الشرق الأوسط. فإسرائيل تقصف بشكل دوري المجموعات المسلّحة التابعة لإيران في جميع أرجاء المنطقة.
وعلى الرغم من أن طهران تجنّبت حتى الآن التورّط المباشر في الحرب التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023 بين حماس وإسرائيل، فإن الميليشيات المتحالفة معها نفّذت في غزة ولبنان واليمن هجمات بالصواريخ والطائرات المُسيّرة على إسرائيل.
وتطرح حالة الضبابية بشأن أمن طرق التجارة الرئيسة في المنطقة والتوترات المتزايدة بين إيران وإسرائيل، تحدّيات كبرى قد تعيق آفاق التقدّم في مشاريع الممرّات الاقتصادية.
وتعبّر مشاريع الممرّات الاقتصادية عن عملية إعادة تشكيل للجوانب الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية المكانية للرأسمالية العالمية في عصرنا هذا.
المساعي الأميركية لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا تهدف إلى التصدّي لمبادرة الحزام والطريق التي أتاحت للصين توسيع امتدادها الاقتصادي والجيوسياسي
ويحتلّ الشرق الأوسط موقعا جغرافيا إستراتيجيا مهما في هذه العملية المتواصلة. فالولايات المتحدة والصين تسعيان إلى توسيع نطاق تنافسهما العالمي إلى هذه المنطقة الحيوية، إنما المضطربة والحافلة بالصراعات، وإلى بلورة تصوّر جديد لروابط كانت قائمة في حقبات سابقة اضطلعت خلالها منطقة الشرق الأوسط بدور مركزي.
ومنذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق، تعزّزت أواصر التعاون بين الصين ودول الشرق الأوسط على نحو مطّرد. ويُعدّ مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الناشئ استجابة غربية لمبادرة الحزام والطريق وجزءا من التنافس الأميركي – الصيني على الأسواق والموارد والنفوذ في المنطقة.
وتتقدّم مبادرة الحزام والطريق بوتيرة أسرع بكثير من مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بل تسعى أيضًا إلى تحقيق المصالحة الإقليمية، وخير مثال على ذلك وساطة الصين في التقارب بين إيران والسعودية.
وقد ازدهرت تجارة مصر وإيران والسعودية والإمارات بفضل انضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق، ومُنحَت أيضًا صفة شريكة في الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين، وانضمّت إلى مجموعة بريكس الموسعة حديثا للقوى الناشئة، حيث تتمتّع الصين بنفوذ كبير.
وفيما تحاول دول الشرق الأوسط تعزيز استقلاليتها الإستراتيجية، وتتنافس للاضطلاع بنفوذ إقليمي ودولي كبير، تقدّم مبادرة الحزام والطريق ومشاريع صينية أخرى أُطرًا جذّابة للتعاون.
ومع ذلك، بقدر ما ترغب دول الشرق الأوسط في الاستفادة من نفوذ الصين المتعاظم، من المستبعد أن تنحاز إليها بشكل مباشر، بل يبدو أن بلدان المنطقة تميل إلى توسيع آفاق شراكاتها الدولية وتنويعها، ربما في محاولة منها لتحقيق توازن في علاقاتها بين الصين والولايات المتحدة، وقد تعمد في بعض الأحيان حتى إلى استغلال التنافس القائم بين هاتين القوّتين العالميّتين لخدمة مصالحها.
وتُجري دول الشرق الأوسط، وخصوصا دول الخليج، تقييما عامّا للفوائد التي قد تجنيها والتكاليف التي قد تتكبّدها من علاقاتها مع كلّ من الولايات المتحدة والصين (ولاسيما إذا كانت تثق في نوايا الجانبين) قبل أن تتّخذ أي قرار بشأن المسار الأفضل على المدى الطويل.
العرب