رغم أن إسرائيل لم تنته بعد من حربها في قطاع غزة، إلا أنها، على ما يبدو، بدأت تستعد لحرب جديدة قد تندلع خلال المرحلة القادمة، ربما تكون أكثر تعقيداً واتساعاً من تلك التي ما زالت مستمرة حتى الآن ولم يتضح بعد متى ستنتهي. ومن هنا، يمكن تفسير أسباب تعمد إسرائيل توجيه ضربات نوعية إلى كل من إيران وحزب الله، في سوريا ولبنان.
من دون شك، فإن هناك مَن يمكن أن يرجح أن هذه الضربات النوعية تهدف إلى “ردع” تلك الأطراف ودفعها إلى وضع سقف لانخراطها في الحرب الحالية دعماً لحركة حماس، التي طلبت ذلك بالفعل من طهران والحزب، منذ بداية الحرب، تخفيفاً للضغوط التي فرضتها العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة منذ 7 أكتوبر الماضي بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها “كتائب القسام” – الذراع العسكرية للحركة – في اليوم نفسه.
لكن لا يبدو أن هذا هو الهدف الحقيقي الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه عبر تلك الضربات. فالردع تولت الولايات المتحدة الأمريكية مهمة تحقيقه، عندما أرسلت حاملتى الطائرات “يو. اس. اس. ايزنهاور” و”يو. اس. اس. جيرالد فورد” إلى منطقة شرق المتوسط، بالقرب من مسرح العمليات، وبدأت في رفع مستوى وجودها العسكري “النوعي” بالقرب من حدود إيران، في إطار عملية “تقسيم أدوار” نفذتها بالتنسيق مع إسرائيل، تقوم في إطارها الأخيرة بـ”تصفية حساباتها” مع حماس وتتولى في سياقها الثانية مهمة منع الأطراف الأخرى من توسيع نطاق انخراطهم دعماً لها.
هنا، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه ومفاده: ما هو الهدف الأساسي إذاً من توجيه تلك الضربات النوعية إلى حزب الله وإيران؟
الإجابة ببساطة تكمن في الاستعداد لحرب جديدة مع حزب الله. وربما في هذه اللحظة تتكرر المهمة الأمريكية ذاتها، وهى ردع إيران عن التدخل لدعم الحزب ضد إسرائيل، على غرار ما حدث مع حماس. ويمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة تدفع تل أبيب إلى تبني هذا التوجه في الفترة الحالية، يتمثل أبرزها في التغير الملحوظ في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي.
إذ لم تنحصر التداعيات التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” في الإيقاع بعدد كبير من القتلى والأسرى الإسرائيليين، على نحو كشف خللاً أمنياً فادحاً داخل إسرائيل تتسارع أجهزة الأمن والجيش والحكومة إلى تبادل إلقاء المسئولية بشأنه على عاتق الآخرين، وإنما امتدت لتنتج تأثيرات مباشرة على هذا التفكير الاستراتيجي.
وقد انبرت أقلام وأدبيات كثيرة في إلقاء الضوء على نجاح عملية “طوفان الأقصى” في تقويض نظرية الأمن التي اعتمدت عليها إسرائيل خلال العقود الماضية. لكن يمكن أن يضاف إلى ذلك أن تلك العملية أقنعت إسرائيل بصعوبة التعايش مع خصوم قريبين من حدودها ويطورون قدراتهم العسكرية بشكل مستمر ونوعي. وهنا، فإن حزب الله يبدو حالة ماثلة في هذا السياق.
فرغم كل الضربات العسكرية التي وجهتها تل أبيب إلى الحزب خلال مرحلة ما بعد اندلاع الصراع العسكري في سوريا في مارس 2011، ورغم الخسائر التي تعرض لها الحزب، على المستويين البشري والعسكري، بسبب انخراطه في هذا الصراع، إلا أنه من جهة أخرى استفاد من ذلك في تعزيز خبراته الميدانية ومراكمة قدراته العسكرية عبر الحرس الثوري الإيراني، للدرجة التي تبدو معها إيران مطمئنة ليس فقط إلى أنها قد لا تحتاج إلى تدخل مباشر في حالة اندلاع تلك الحرب المحتملة، وإنما أيضاً إلى أن مهمة الردع الأمريكية لن تكون ذات معنى.
من دون شك، فإن إسرائيل لا تستطيع تجاهل الفارق النوعي في القدرات العسكرية بين حزب الله والفصائل الفلسطينية، فضلاً عن أنها تدرك الأهمية الكبيرة للحزب في التفكير الاستراتيجي الإيراني، والتي تختلف عن المكانة التي تحظى بها حماس. فضلاً عن ذلك، فإن ما حدث في 7 أكتوبر 2023 سيدفعها دوماً إلى عدم إغفال إمكانية “استنساخ التجربة” لكن بصورة قد تكون أكثر فداحة.
وهنا، فإن تل أبيب لا تستطيع الرهان فقط على نجاح الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، لدفع حزب الله إلى نقل مواقعه إلى شمال نهر الليطاني. إذ سيبقى الخطر الأكبر في هذه الحالة كامناً في القدرات العسكرية الكبيرة التي يمتلكها الحزب.
وقد عبّر عن هذه الرؤية بوضوح الكاتب الإسرائيلي عومير دوستري في مقال في صحيفة “يديعوت احرونوت” في 26 فبراير الفائت، بعنوان “من أجل توفير الأمن لمواطنيها، يجب أن تخوض إسرائيل حرباً مع حزب الله”[1].
إذ أشار إلى أن “فكرة نقل حزب الله إلى شمال نهر الليطاني قديمة وساذجة ولا تقدم حلاً طويل الأمد”، مضيفاً أن النجاح في دفع الحزب إلى تبني هذا الخيار لا يحل المشكلة، لأن الحزب سوف يواصل تطوير قدراته العسكرية التي ستحتم على إسرائيل الانخراط معه في معركة بهدف هزيمته عسكرياً وليس ردعه فقط.
انطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير أسباب تعمد إسرائيل “اختبار نوايا” الحزب وردود فعله المتوقعة إزاء تحركاتها العسكرية على الحدود. والهدف الأساسي من ذلك هو استشراف المدى، أو السقف، الذي يمكن أن يصل إليه تعامله مع تلك التحركات، أو بمعنى أدق استعداد الحزب لأى عملية عسكرية برية قد تقوم إسرائيل بشنها في مرحلة لاحقة.
الوكيل المُعتَمَد
وبالطبع، فإن خوض حرب مع حزب الله من أجل هزيمته عسكرياً يكتسب وجاهة خاصة لدى تل أبيب في ظل الأدوار التي يقوم بها. إذ لا تقتصر تلك الأدوار على الانخراط في الحرب السورية، على مدى أكثر من عِقد من أجل دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وإنما تمتد إلى المشاركة في تدريب وتعزيز خبرات المليشيات المسلحة الأخرى في بعض الدول مثل العراق واليمن.
وبالطبع، فإن هذا الدور ليس جديداً، أو خافياً على إسرائيل، لكن الجديد في الأمر هو أنه بات يفرض تأثيرات مباشرة على الأرض بدت جلية في الهجمات التي شنتها المليشيا الحوثية في اليمن منذ 19 نوفمبر الماضي، والتي دفعت بعض الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تشكيل قوى بحرية مثل “حارس الازدهار”، في 18 ديسمبر الماضي، والانخراط في مواجهة عسكرية مع المليشيا ما زالت مستمرة منذ 12 يناير الماضي وحتى الآن.
وهنا، فإن إسرائيل تضع في اعتبارها أن تطوير القدرات العسكرية للمليشيا الحوثية في اليمن، يعود، في قسم منه، إلى الدور الذي قام به حزب الله، إلى جانب الدعم العسكري والاستشاري الذي تقدمه إيران بالطبع. واللافت في هذا السياق، أن هذا الدور الذي يقوم به الحزب تزايد عقب قيام الولايات المتحدة الأمريكية باغتيال القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، في 3 يناير 2020. فرغم أن إيران سارعت إلى تعيين خليفة لسليماني، في اليوم نفسه، وهو اسماعيل قاآني، إلا أنها أدركت فداحة الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته بوضع كل “مفاتيح” العمليات الخارجية للحرس في يد سليماني فقط، بشكل أدى إلى “بعثرتها” باغتياله.
من هنا، يمكن تفسير أسباب تعمدها “إعادة توزيع” تلك المفاتيح بحيث لا تنحصر في يد قاآني وحده، وإنما توضع في أيادٍ متعددة، من بينها أيادي حزب الله، الذي كان له دور أيضاً في توجيه العمليات العسكرية للمليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا.
رأس الأخطبوط وأذرعه
ربما تكون هذه المقاربة الجديدة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” مقدمة لتغيير الاستراتيجية التي اعتمدت عليها إسرائيل في مرحلة ما قبل 7 أكتوبر. فقد كانت إسرائيل تعتمد على مواجهة “رأس الأخطبوط” ممثلاً في إيران. وقد عبّر عن ذلك صراحة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت في حديثه مع مجلة “ذي ايكونوميست”، في 8 يونيو 2022، حيث قال: “إن إسرائيل أصبحت تعتمد على عقيدة جديدة في تعاملها مع إيران، فقد بدأت في تطبيق مبدأ استهداف رأس الأخطبوط بدلاً من المخالب”، مضيفاً: “لقد أنشأنا معادلة جديدة من خلال استهداف المنبع”.
هذه التصريحات التي أدلى بها بينيت أثناء ولايته توحي بأن إسرائيل كانت تعتمد في الأساس على الضربات التي كانت توجهها إلى إيران عبر العمليات الاستخباراتية التي كانت تجري داخل الأخيرة، وركزت على قيادات في الحرس الثوري وبعض العلماء النوويين، فضلاً عن عدد من المفاعلات والمنشآت العسكرية، مثل مفاعل “ناتانز” الذي يمثل “العمود الفقري” للبرنامج النووي الإيراني.
لكن هذه الضربات في النهاية لم تحقق أهدافها لاعتبارين: أولهما، أنها لم تثن إيران عن ممارسة الأدوار نفسها القائمة على تقديم الدعم للمليشيات في الدول المحيطة بإسرائيل، وعن تطوير برنامجها النووي، لدرجة أن كمية اليورانيوم المخصب التي باتت تمتلكها إيران وصلت إلى 27 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي. وثانيهما، أنها لم تمنع ما تصفه إسرائيل بـ”الأذرع” ممثلة في حماس من تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”.
من هنا، فإن إسرائيل تبدو في اتجاهها إلى تغيير المعادلة من محاربة “رأس الأخطبوط” إلى محاربة “أذرعه”، ربما تعويلاً على رهانين: أولهما، أن ذلك قد يكون كفيلاً بمحاصرة إيران داخل حدودها. وثانيهما، أن مهمة محاربة “رأس الأخطبوط” قد توكل إلى طرف آخر يعفي إسرائيل من ما يمكن تسميته بـ”كُلفة المغامرة”. وربما من هنا، تبدو إسرائيل متحفزة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمالات عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الرئاسة.