في الأسبوع الأوّل من الشهر الحالي أجرت إيران دورة انتخاباتها البرلمانية الثانية عشرة، منذ ثورة 1979، وكذلك الدورة السادسة لانتخاب مجلس الخبراء – وهي الهيئة المكلفة اسميا باختيار المرشد الأعلى المقبل للجمهوريّة الإسلاميّة – وهو المنصب الذي يمثّل رأس النظام ومرجعيته النهائيّة.
وبينما جاءت النتائج الرسميّة دون مفاجآت تذكر، بحكم منهجية اختيار المرشحين، التي تجعل وصول معارضين حقيقيين للنظام بحكم المستحيل، إلا أن الإعلام الغربي، صحفاً وبرامج إخباريّة تلفزيونية – والناقد أبداً للنوع الإيرانيّ المختلف من الديمقراطيّة – احتفل بما بدا كملمح تحوّل جذري في مزاج الشعب الإيراني ضد نخبته الحاكمة من رجال الدين، وذلك بتردي نسبة مشاركة الناخبين إلى أدنى مستوياتها التاريخيّة، مع تكرار عزوف غالبية الإيرانيين، الذين يحق لهم التصويت عن الإدلاء بأصواتهم للمرة الثانية على التوالي.
التصويت بعدم التصويت
لا يثق الغربيّون عادة في الأرقام الرسميّة المعلنة التي تأتي من طهران، ومع ذلك فقد اعتبر المراقبون أن تراجع نسبة المشاركة إلى حدود 41 في المئة علامة على إحباط واسع النطاق من هيمنة النخبة الحاكمة، وانعكاساً لشكوك عميقة لدى ثلثي الكتلة الناخبة (59 في المئة الذين امتنعوا عن المشاركة) من إمكانية تحقيق تغيير سياسي ذي بال عبر صناديق الاقتراع.
وللحقيقة، فإن هذه الجولة الأخيرة جرت على خلفيّة تحديات عديدة تعيشها إيران بعد 55 عاماً على الثّورة، التي أطاحت بحكم الشاه وأسست للنظام الحالي. فبغير مفصل اختيار مرشد أعلى جديد ليخلف المرشد الحالي، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 84 عاماً، فقد شهدت الجمهوريّة بداية من أيلول/سبتمبر 2022 موجة اضطرابات واسعة دعمها الغرب، واستمرت عدة أشهر، بعدما اندلعت بسبب وفاة الشابة مهسا أميني في ظروف ملتبسة إبان احتجازها لدى الشرطة المكلفة بالسهر على الفضيلة والأخلاق.
وكانت الأجهزة الأمنية وقتها قد قمعت الاحتجاجات بالعنف، لكن حجمها واستمرارها لفترة طويلة نسبياً كشفت عن توسع نطاق التذمر بين الإيرانيين، لا سيما النساء، والأجيال الشابة الجديدة التي ولدت بعد الثورة، وبعد غياب قائدها الإمام آية الله الخميني.
وفوق ذلك كلّه، فإن البلاد ما زالت تعيش أوضاعاً اقتصاديّة مشوهة، بسبب مفاعيل الحصار الدولي الذي تديره الولايات المتحدة، وكذلك توسّع الفجوة في الدخول بين القلّة المتنفذة من رجال الدين ومن يدور في فلكهم من الأثرياء في مقابل الأكثرية من العمال والفلاحين والمهمشين، الأمر الذي يوسّع من نطاق الهوّة بين الشعب والنظام.
ولا بدّ أن الإنفاق المرتفع على برامج التصنيع العسكريّ ودعم الأنظمة والحركات الموالية لها في الإقليم يقلل من قدرة السّلطات على الإيفاء بمتطلبات الإنفاق الدّاخلي على الفئات الأقل حظاً في المجتمع الإيراني.
ولعله من المعلوم أيضاً أن النواة الأساسيّة للنّظام من المحافظين – حاملي الأيديولوجية الإسلاميّة للجمهوريّة – ليست منتظمة في خط واحد، وإنما تتنازعها أجنحة متعددة، يبدو أنّها في صراع مستمر يشتد مع كل تفاقم في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة في الداخل، ومع تصاعد الضغوط الغربيّة في الخارج. وحسب خبراء في الشأن الإيراني استضافتهم الشاشات الغربيّة، فإن مجموع هذه العوامل مع تزايد الأخطار من التهاب النزاعات الإقليمية من قطاع غزّة إلى جنوب لبنان، ومن البحر الأحمر إلى شمال سوريا، وأيضاً قلق الأقليات في الداخل الإيراني، من شأنه أن يخلق ظروفاً مواتية لتعريض استقرار النظام إلى الخطر بصورة غير مسبوقة.
البرلمان الجديد: تقدّم في الهيمنة تراجع في الشرعيّة
الطبعة الإيرانيّة من الممارسة الديمقراطية مقيّدة، وفق قواعد تسمح لنواة النظام الأساسيّة من التحكم عمليّاً بالسلطات الثلاث (إضافة بالطبع إلى السلطة الرابعة أي الصحافة)، وذلك عن طريق استبعاد راغبي الترشح الذي قد يشكّ في ولائهم للنظام عبر مصفاة ما يسمى بـ»هيئة صيانة الدستور».
وقد مكنّت هذه الصيغة تاريخيّاً للمحافظين من إحكام قبضتهم على السلطة التشريعيّة – مجلس الشورى (البرلمان) – إلى جانب السلطة التنفيذية، وكذلك السلطة القضائيّة، التي يعيّن رئيسها المرشد العام، فيما تنطق الصحف باسم الحكومة حصراً، وهو الأمر الذي تكرر بحذافيره في هذه الانتخابات الأخيرة، لا سيّما وأن تعديلات حديثة في القوانين أعطت صلاحيات إضافية لـ»هيئة صيانة الدستور»، بحيث يمكنها استبعاد المرشحين، حتى وإن نجحوا في الانتخابات، وهو ما دفع كثيرين من المحسوبين على التيار الإصلاحي من المحافظين – وهم معتدلون نسبياً – الى الامتناع عن الترشح للانتخابات الأخيرة من حيث المبدأ – وإن قصروا عن الدّعوة لمقاطعتها – على الرّغم من أن الحملة الرسميّة لتشجيع الجمهور على الترشح نجحت في استقطاب عدد قياسي من المرشحين، لكن أغلبيتهم الساحقة كان من شخصيات مغمورة ولا تتمتع بحيثيات أو فرص واقعية للفوز بالمقاعد النيابية.
ومع أن بعض المقاعد في مجلس الشورى لم تحسم بعد لأسباب فنيّة وتنتظر جولة إعادة، إلا أن الصورة بشأن الكتلة الرئيسة من المقاعد المؤكدة (245) لم تسفر فحسب عن توثّق سيطرة المحافظين، بل وكشفت عن نزوع نحو مزيد من التشدد والتصلب الأيديولوجي في توجهات الفائزين، ما يشير إلى انزياح إضافي في نواة النظام نحو اليمين. وفاز متشددون بنصف مقاعد العاصمة طهران – التي تعتبر المقياس الأدق لقراءة التوجهات السياسيّة – لكن النصف الآخر سيتطلب جولة إعادة بسبب أن أيّاً من المرشحين لم يحصل على الحد الأدنى من الأصوات اللازم للفوز بها (20 في المئة).
لا أحد في انتظار «ربيع إيراني» غداً
بالطبع فإن هنالك معارضين إيرانيّين، لا سيّما بين الجاليات الموالية للشاه السابق وبعض السياسيين المتطرفين في الغرب الذين يحلمون – بسبب تراجع حجم مشاركة الناخبين المؤهلين – بتغيير سريع في طهران، على نسق ربيع (ملوّن) آخر كما جرى في أوكرانيا أو تونس أو ليبيا مثلاً. على أن أغلب الخبراء المتخصصين – الذين ظهروا تلفزيونيا على الأقل – بدوا وكأنهم هذه الأيّام أصبحوا أكثر واقعيّة تجاه الأفق الزمني للتغيير على الملعب الإيراني، بعدما تعددت الربيعات الكاذبة وعجزت عن قلب النظام. ولذلك فهم يراهنون اليوم على قوتين متعارضتين سيؤدي تفعيلهما معاً إلى توسيع الفجوة بشكل متزايد بين النظام والأكثريّة الشعبيّة للوصول إلى لحظة ما يحدث عندها التحول النوعيّ. القوّة الأولى هي اضطرار نواة النظام الأساسيّة إلى العمل بشكل حثيث على تعميق هيمنتها على مفاصل السلطة والثروة في البلاد عبر الاستثمار في تعزيز التوافق الأيديولوجي وتعميق السيطرة على أدوات الحكم وتشديد القبضة الأمنية، بينما ستكون تلك التوجهات عند القوة الأخرى، أي المجتمع بفئاته المناهضة للنظام، بمثابة مزيد من الحوافز والمبررات لتكريس معاداتها للنواة المؤدلجة وأجهزتها الرسميّة والسريّة على حد سواء، ما يبدد من شرعيّة تلك النواة في الاستفراد بالحكم.
غالبية الشاشات العربيّة خارج اللّعبة
إن الظروف الموضوعيّة، وبغض النظر عن منطلقاتنا السياسية في التقييم، تؤكد على أهميّة الشأن الإيراني في ما يتعلق بالواقع العربيّ، لا سيّما في منطقة الخليج وشرقي المتوسط. ومع ذلك فإن غالبية الشاشات العربيّة المؤثرة، على تنوع اتجاهاتها، بدت قاصرة عن نقل صورة ما يحدث على الساحة الإيرانية، فيما هي أفردت مثلاً تغطية أوسع لانتخاب جورج غالوي ودخوله مجلس العموم البريطاني في انتخابات فرعية لملء مقعد شاغر في دورة برلمانية لم يتبق منها سوى عدة أشهر فحسب، ولن يكون لها أي تأثير عملي على الأوضاع، لا في بريطانيا ولا خارجها.
ولا شكّ أن هذا التقصير، متعمداً كان أو نتيجة غياب خبراء عرب مطلعين على دواخل إيران، ليس في محصلته من مصلحة المشاهد العربي، الذي سيستمر والحال هذه في استقصاء معلوماته من المصادر الثالثة بأجنداتها المتطرفة مع أو ضد.