اعتادت الدول الكبرى والأمم العريقة نهج استراتيجية، وهي محاولة خلق حروب لإعادة بناء الذات، وفي هذه الحالة الوطن. ويبدو أن الغرب يتحرك في بعض المناسبات وفق هذه الاستراتيجية، حيث يتم تبادل الأدوار بين دعاة الحرب، ودعاة الحذر دون التركيز على السلام. ويريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإصراره على مواجهة روسيا لعب دور تشرشل في الحرب العالمية الثانية. واستراتيجية العدو الخارجي لتوحيد الصفوف، هي من الاستراتيجيات التي تتبناها مختلف التنظيمات، من الأسرة والقبيلة والجماعات الكبرى والدول، وكذلك التكتلات التي تجمع بينها روابط حضارية معينة، إذ أن خلق عدو خارجي يسمح باستمرارية الوحدة، بدل التفتت والتفرقة. ويعتبر الغرب خبيرا في خلق الأعداء في مواجهة الآخرين، رغم الحروب التي تقع بين أعضائه مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ومن ضمن المنعطفات الكبرى التي كان يجتمع فيها الغرب، وإن اختلف في التطبيق، نجد الحروب الصليبية، التي كانت المحطة الجنينية لبذور بناء الغرب المسيحي، ثم عمليات الاستعمار الكبرى ولاحقا الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وأخيرا الحروب الصغيرة ضد دول عربية مثل العراق، وإسلامية مثل أفغانستان. ووسط كل هذه الحروب، إصرار الغرب على تقسيم دول وعدم تمكينها من أسباب التقدم الحقيقي.
القادة في الغرب يعتقدون أنه حان الوقت لإعادة بناء الكتلة الغربية، وهذا سيمر لا محالة عبر التسبب في النزاعات الدولية ومنها الحروب الكبرى
ويعتبر المؤرخ والمحلل الجيوسياسي الفرنسي بيير كونيسا، الذي كان موظفا ساميا في وزارة الدفاع الفرنسية من الخبراء في موضوع كيف تصنع الحروب. وفضح في كتاب له صادر سنة 2022 بعنوان «بيع الحرب» وتحول إلى فيلم وثائقي منذ شهرين، من الشهادات المهمة حول كيف يتولى ما وصفه «مركب عسكري – ثقافي» مهمة التمهيد للحروب، محذرا من انتعاشه خلال العقود الأخيرة، وهو يشبه مركب أقدم منه ظهر في الولايات المتحدة «المركب العسكري – الصناعي» الذي يقف وراء نشوب عدد من النزاعات الكبرى. ويتهم هذا المؤرخ مجموعة من الذين يعتبرون أنفسهم «خبراء الحرب والعلاقات الدولية»، حيث يشرعون في الترويج لحروب يعتقدون أنها يجب أن تقع في المدى القريب، أو لحروب انفجرت ويرغبون في انتشارها على نطاق واسع. وتوجد دراسات تفضح ارتباط هذه الجماعات من «الخبراء» بتيارات وجمعيات تعتقد في تفوق الحلف الأطلسي والغرب برمته على الباقين، وضرورة استمرار ذلك ولو بالحروب. شروحات بيير كونيسا مهمة للغاية، لكن تبقى مثل هذه الكتب محدودة الانتشار وكأن أيادي معينة تريد إبقاء تأثيرها بعيدا عن الرأي العام. وخلال الشهور الأخيرة، ارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا تحذر من تيارات في أوروبا، داخل الحكومات وأجهزة حساسة مثل، الاستخبارات ووزارات الدفاع تروج للحرب وتقوم بتأويل معطيات السياسة الدولية، لتوجيه الرأي العام نحو ضرورة قبول حروب مستقبلا. ومن أبرز هذه الأصوات التي تدق ناقوس الخطر حالة مدير المخابرات الخارجية الفرنسية الأسبق آلان جوبيه، والعقيد السويسري المتقاعد جاك بود، الذي شغل مناصب في الاستخبارات السويسرية وكان سنة 2005 مسؤول وحدة الاستخبارات المدنية – العسكرية التابعة للأمم المتحدة التي تدرس النزاعات والبحث عن الحلول. والواقع أن الغرب ككتلة في موقف صعب، فمن جهة، خسر حرب أوكرانيا ولا يريد الاعتراف بذلك، ومن جهة أخرى سقط سقطة كبيرة أمام باقي العالم بسبب موقفه غير الأخلاقي تجاه الحرب في قطاع غزة، بدعمه الكبير للكيان الإسرائيلي الذي ينفذ حرب الإبادة وعدم المطالبة بوقف الحرب. وكان المفكر الفرنسي مانويل تود قد نشر كتابا خلال الأسابيع الأخيرة بعنوان «هزيمة الغرب» يتحدث فيه عن تراجع دور الغرب بشكل لافت خلال السنوات العشر الأخيرة، ويجعل من حرب أوكرانيا إحدى المنعطفات الكبرى في هذه الهزيمة، ويتكهن بمستقبل صعب يفقد فيه الغرب الريادة أمام الصين، وظهور قوى إقليمية في مختلف مناطق العالم. يعود المؤلف نفسه في حوارات حول كتابه الى الحديث عن ضعف الغرب في حل قضية الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين.
لا يفهم العديد من المحللين إصرار الغرب التضحية بأوكرانيا في مواجهة الجيش الروسي، كما لا يفهم الكثيرون تبادل الأدوار في الغرب، حيث يتزعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضرورة التدخل المباشر في أوكرانيا لإيقاف روسيا، ويريد لعب دور تشرشل. وعمليا، يوجد خطاب حربي مثير منذ منتصف السنة الماضية مفاده تخطيط روسيا لغزو مناطق من أوروبا الشرقية، إذا ما انتصرت في أوكرانيا. تسير تصريحات عدد من قادة الغرب في هذا الشأن، كما أن وزارات الدفاع تنظم مناورات متنوعة ومستمرة تعلن أن الهدف منها هو وقف أي تقدم روسي في حالة الحرب. وبدأت عاصمة تلو الأخرى مثل برلين وأمستردام ووارسو وباريس تتحدث عن الحرب المقبلة. وأمام هذا الوضع، يوجد تيار داخل الاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا يدعو إلى نشر قوات الحلف الأطلسي في أوكرانيا قبل فوات الأوان، وعلى الرغم من رفض بعض العواصم، إلا أن ماكرون يستمر في طرحه، وهذا يدل على وجود ما يعرف بـ»الاستراتيجية الغامضة» للغرب، التي من خلالها يربك حسابات روسيا حيث لا تعرف مستوى جدية وحقيقة الاستراتيجية الغربية.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، قرر الغرب جعل الإسلام العدو، وفجأة ظهر الإرهاب والجماعات الإرهابية، وانفجرت حروب في العالم العربي الإسلامي. وأنتج المركب «العسكري – الثقافي» نظريات كثيرة حول المسلمين، مهدت للتدخل في العالم الإسلامي تحت مبررات مختلفة. والآن، يقوم المركب «العسكري – الإعلامي» نفسه بالترويج لمختلف مصادر الخطر الذي يهدد الغرب، ويجعل من روسيا النقطة الآنية في أجندته. ولهذا، لا يمكن استبعاد حصول حدث عسكري خلال السنوات المقبلة وسط أوروبا، يمس روسيا وعلى الأقل فوق الأراضي الأوكرانية، لأن القادة في الغرب يعتقدون أنه حان الوقت لإعادة بناء الكتلة الغربية، وهذا سيمر لا محالة عبر التسبب في النزاعات الدولية ومنها الحروب الكبرى.