خلال وجودها تجذرت النظرية التي تفيد بأن حماس منظمة تعمل حسب توجيهات إيران، وهي امتداد فلسطيني لـ “محور الشر” ورأسه في طهران. الحرب في غزة أوضحت بأنها نظرية لم تكن أكثر من عنوان هدف إلى تضخيم حماس ومحور إيران بشكل عام.
لا خلاف على أن إيران أرسلت لحماس وسائل قتالية وتكنولوجيا وتمويلاً سخياً. حماس نفسها شكرت القيادة الإيرانية على الدعم الكبير الذي ساعدها في الكفاح المسلح الفلسطيني، لكن عندما جاء وقت الاختبار تبين أن إيران لم تكن مشاركة في تخطيط وتنفيذ الهجوم على إسرائيل، ولا يمكنها توجيه، بالأحرى إملاء، خطوات حماس حتى بعد اندلاع الحرب. حسب تقرير نشرته “رويترز”، فإن المرشد الأعلى علي خامنئي، أوضح لإسماعيل هنية في تشرين الثاني الماضي بأن إيران لم ولن تشارك في الحرب، لأنهم “لم يتشاوروا معها”، وأنها لن تحارب بدلاً من حماس. وهي الآن أيضاً ليست شريكة في مجموعة الدول التي تنشغل في إدارة المفاوضات بين إسرائيل وحماس، وهي المكانة المحفوظة لقطر ومصر. هذا التطور يقتضي إعادة فحص التعريفات التي تصف العلاقة بين تنظيمات وحركات إقليمية وبين إيران.
الذراع الفلسطيني لإيران يعتمد بشكل مطلق على “الجهاد الإسلامي”، بسبب اعتماده الحصري على تمويل إيران، وبدرجة أقل يعتمد على حماس، التي طموحاتها واعتباراتها الاستراتيجية أكبر بكثير من طموحات الأخ الأصغر. افضلية “الجهاد الإسلامي” أنه خلافاً لحماس، لا يتفاخر ولا يحاول إدارة دولة، ولم يقم بإدارة نظام مدني وليس له أجهزة تعليم وصحة أو وزارة رفاه. قوته النسبية التي اعتمدت عليها إيران في التأثير على الساحة الفلسطينية تكمن في قدرته على تعويق مبادرات حماس، لا سيما التي اقتضت الموافقة والتنسيق مع التنظيمات في غزة، مثل وقف إطلاق النار أو أي اتفاقات أخرى مع إسرائيل. في الواقع، أقامت قيادة حماس المخضرمة علاقتها الأولى مع إيران في 1992 عندما تم طرد 415 عضواً فيها، أصبح من بينهم زعماء للحركة، إلى لبنان. لكن نفس هذه القيادة قررت في 2012 قطع علاقاتها مع سوريا بسبب المذبحة التي نفذها نظام بشار الأسد ضد مواطنيه، وهي الخطوة التي أدت إلى قطع العلاقة بين طهران وحماس.
رغم استئناف العلاقات بين إيران وحماس، فإن الخلاف داخل حماس فيما يتعلق بإيران لم ينته. هنية وصالح العاروري اعتبرا إيران ركيزة استراتيجية، لكن خالد مشعل دفع نحو إعادة المنظمة إلى “الحضن العربي”، لا سيما تحسين العلاقات مع السعودية. لم تتمكن إيران وبحق من وضع حماس في جيبها. والآن وحماس تدير حرباً على بقائها السياسي والعسكري، وعلى مكانتها في الساحة الفلسطينية بشكل عام، فثمة شك كبير في أن إيران باستطاعتها مساعدتها، ومن غير المؤكد أنها سترغب في ذلك إذا اعتقدت أن الأمر يتعلق بذخر مفقود.
لكن ليست الساحة الفلسطينية فقط هي التي تضعضع صولجان سيطرة إيران وتثير التساؤلات حول قوتها، فقد كشفت “فايننشال تايمز” الأسبوع الماضي بأن وفداً أمريكي رفيعاً برئاسة بيرت ماك غورك، المبعوث الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، تحدث في كانون الثاني الماضي في سلطنة عُمان في محادثات غير مباشرة مع جهات إيرانية رفيعة برئاسة علي باقري – قاآني، نائب وزير الخارجية ورئيس بعثة المفاوضات حول الاتفاق النووي.
طلب الأمريكيون من إيران في هذه المحادثات “تهدئة” نشاطات الحوثيين في اليمن والمليشيات الشيعية في العراق، التي هاجمت عشرات الأهداف الأمريكية في العراق وسوريا. وطلبت إيران من الولايات المتحدة استخدام الضغط على إسرائيل لفرض وقف مطلق لإطلاق النار. انتهت المحادثات بلا نتيجة. وفي اليوم التالي، هاجم الأمريكيون أهدافاً للحوثيين، لكن هجمات المليشيات الشيعية على الأهداف الأمريكية توقفت منذ 4 شباط، ليس بفضل هذه المحادثات، بل بعد عدة هجمات أمريكية على قواعدها في العراق.
بقيت إيران خارج الصورة بخصوص غزة وحماس. فهي لم تتمكن ولم يطلب منها أيضاً طرح تنازلات أو طلبات باسم حماس. مشاركتها المباشرة في منظومة الأواني المستطرقة التي يتم وصفها بـ “وحدة الساحات” بقيت إعلانية. والأكثر أن إيران أدركت بأن “وحدة الساحات” قد تضر بأعدائها، لكن لا يمكن أن تحسم المعركة، بل قد تكون شركاً يهدد أمنها.
في شباط زار إسماعيل قاآني قائد “قوة القدس”، بيروت للمرة الثالثة منذ اندلاع الحرب، والتقى حسن نصر الله لمناقشته في التأثيرات المتوقعة من استمرار المواجهة مع إسرائيل. وسائل إعلام عربية تعتمد على مصادر إيرانية ولبنانية، نشرت أن نصر الله وعد قاءاني في هذا اللقاء بأن منظمته لن تجر إيران إلى حرب مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة. “هذه حربنا، ونحن مستعدون لتنفيذها وحدنا”، قال حسن نصر الله. من غير المعروف ماذا كان رد قاآني، لكن جواب نصر الله يدل على أن نفوذه يرتبط بالظروف المحلية.
السفير الإيراني في الأمم المتحدة، أمير سعيد ايرواني، أوضح في مقابلة مع “ان.بي.سي” بأن “العلاقات بين إيران ومنظمات المقاومة في المنطقة تشبه العلاقات القائمة بين دول حلف الناتو”. وحسب قوله، فإن هذه التنظيمات تقرر بنفسها كل ما يتعلق بنشاطاتها العسكرية. هذا أيضاً هو الخط الدعائي الذي يكثر وزير خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، تكراره لإزالة التهمة عن إيران وكأنها تنسق وتدير النشاطات العسكرية لهذه التنظيمات.
لكن هذه الرواية الإيرانية تدل على الصعوبات التي تواجهها إيران في تشكيل “الظروف الداخلية”، التي يضطر كل تنظيم للعمل في إطارها، ويظهر أنها هي نفسها خاضعة لإملاءات هذه الظروف إذا كانت تريد الحفاظ على نفوذها في المنطقة. إيران مثلاً يمكنها التأثير على قرارات حزب الله ومطالبته بعدم جرها إلى حرب شاملة، مثلما فعلت. ولكن لا يمكنها استبدال التركيبة الطائفية والدينية في لبنان التي تحدد إطار نشاطات حزب الله.
ضرورة الحفاظ على هوية المنظمة كمنظمة لبنانية وليس إيرانية، تملي على حزب الله صيغة التفسيرات التي هو ملزم بها للحفاظ على مكانته، التي بحسبها يعمل من أجل الدفاع عن لبنان وليس إنقاذ فلسطين. على هذا المبرر تستند معادلة الردع التي حافظ عليها حزب الله لسنوات، حتى أثناء الحرب في غزة. “طبريا مقابل بعلبك”، أوضح نائبه نعيم قاسم، قواعد الرد التي يطبقها حزب الله، وليس “طبريا مقابل خان يونس أو رفح”.
إيران لا يمكنها أيضاً تغيير طبيعة الصراع السياسي والعسكري في اليمن. حرب الحوثيين ضد النظام الرسمي في اليمن والسعودية لم يتم التخطيط لها في طهران، مثلما أن العملية الدبلوماسية التي أدت إلى وقف إطلاق النار قبل سنتين تقريباً والتفاهمات بين الحوثيين والسعودية، لم يتم تشكيلها على يد إيران، بل أمليت على السعودية على يد الولايات المتحدة.
يواصل الحوثيون المس بالحركة التجارية في البحر الأحمر، ويوضحون بذلك أنهم يساهمون بالشكل الأكثر نجاعة في محور المقاومة. ولكن للحوثيين أجندة خاصة بهم، غير مرتبطة بغزة أو حماس، بل بالصراعات السياسية الداخلية؛ خلافاً لحزب الله الذي وضع نفسه في علاقة مع غزة، وأوضح بأن وقف إطلاق النار في القطاع سيلزمه هو أيضاً، ومثلما تصرف في وقف إطلاق النار السابق، فإن الحوثيين غير ملتزمين بشيء.
تصعب معرفة إذا كانت المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران لم تثمر أي نتائج في ساحة البحر الأحمر بسبب رفض إيران التخلي عما يتم تعريفه بالغرب بـ “ذراعها التنفيذية في المنطقة” أو أنها فشلت لأنه لا يمكنها التأكد من أن الحوثيين سيخضعون لطلبها، وبذلك يظهرون عدم السيطرة على امتداداتها – ويتحدون التصور القائل بأنه يمكنها إملاء استراتيجية من فوق رؤوس التنظيمات المحلية.
وضعت إيران نفسها مجدداً كدولة شرعية في الشرق الأوسط بعد استئناف علاقاتها مع الإمارات والسعودية، وربما بعد ذلك مع مصر، ويمكنها الاستنتاج بأن الحرب في غزة تلزمها بإعادة فحص “استراتيجية الامتدادات”. وهي الاستراتيجية التي وفرت لها قوتها حتى الآن، لكنها أيضاً كشفت قيود امتداداتها، وهذه الاستراتيجية الآن تهدد الدول التي أنقذت إيران من العزلة الإقليمية.