في العقدين الأخيرين سعت إيران؛ لأن تكون قوة إقليمية كبيرة، ليس في المحيط العربي فقط، بل في آسيا الوسطى؛ في ظل التحول الكبير في العالم، من عالم القطب الواحد، الذي رسم خريطة طريق؛ تكون فيها العلاقات الدولية محكومة بقواعده وشروطه، اي الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة للغرب الذي يتبع خطوات الراعي والحامي الأمريكي.
إيران تتحرك بقوة في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى حركتها في المنطقة العربية؛ لتكون قطبا مؤثرا في جوارها، في الاتجاهين.. وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك المسعى المبرمج والمنظم. الكيان الصهيوني هو الآخر يسعى لأن يكون دولة طبيعية في المنطقة العربية، ويكون مركزا اقتصاديا وتجاريا وسياسيا وعسكريا فيها، من دون أن يعطي للشعب الفلسطيني حقه المشروع والقانوني في دولة مستقلة وذات سيادة. هذا المسعى الصهيوني مدعوم أمريكيا وغربيا وبقوة، لذا فإن ما يجري في غزة من إبادة للشعب الفلسطيني، لا يخرج عن هذا المسعى الصهيوني، بل هو هدفه النهائي. الصراع أو العداء الإيراني الإسرائيلي؛ يقع في قلب هذا المسعى الصهيوني، بإرادة الدولتين في الحدود المحددة مسبقا، بالإيحاء من قبل الدولتين، وليس بالاتفاق الصريح المباشر؛ بمعنى أكثر دقة؛ أن الدولتين تدركان؛ مناطق الاشتباك وحدودها المسموح لهما فيها أمريكيا.
إيران تصدت للمشروع الصهيوني؛ لسببين أولا، إنه يقلص مساحة نفوذها وتأثيرها، إذا ما ترجم على أرض الواقع، وصارـ لا قدر الله ـ واقعا لجهة أن تصبح دولة الاحتلال الإسرائيلي، دولة نفوذ وتأثير في كل الحقول والمجالات في المنطقة العربية وجوارها، تنسيقا وتقاسما؛ يقود بصورة حتمية إلى تراجع خطابها الأيديولوجي الديني، وهذا بدوره يؤدي إلى أن تنكفئ إيران داخل حدودها الجغرافية، وهو ما تسعى كل من أمريكا وإسرائيل له بكل ما فيهما من قوة وتأثير، لكن دون أن تجبرا على استخدام قوتيهما المدمرة على الجغرافية الإيرانية في حرب مفتوحة، أو ضربات منتخبة وواسعة ومدمرة، لها القدرة على هز الداخل الإيراني؛ هزا عنيفا قد ينتج عنه، ما يتعارض مع السياسة الأمريكية الاستراتيجية مع إيران. ثانيا وهذا هو الأهم؛ الأيديولوجيا الدينية التي تقود النظام الإيراني، الذي يدير الدولة بمقتضياتها وتعليماتها وشروطها؛ التي ترسم معالم سياسته، ومنها مقاومة المشروع الصهيوني، بل في مقدمتها. كان من نتيجة هذا الصراع والعداء المسيطر على حدوده ومساحات ومناطق حركته؛ بالحوكمة الأمريكية له؛ أن قامت إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، ما شكل اعتداء على السيادة الإيرانية؛ فكان لزاما على إيران أن ترد على العدوان الإسرائيلي؛ لترد إسرائيل عليها قبل أيام. هناك ملاحظات على الرد الإيراني، لا بد من الإشارة سريعا لها:
*أولا الهجوم الإيراني كان لا بد منه، وثانيا؛ إرسال رسائل في اتجاهين مختلفين نوعا ومضمونا؛ إلى الكيان الصهيوني، رسالة ردع وإشهار للقوة، وثانيا إلى فصائل المقاومة.. لترسيخ وجودها وتثبيت أقدامها على الأرض، وزيادة زخم حركتها وشحنها تعبويا. إنها بحق لعبة تدخل فيها الإرادة والعقل وضبط الأعصاب والسيطرة والتصرف بحكمة. إيران لعبت لعبتها بصورة صحيحة، وحولتها نصرا معنويا واعتباريا وسياسيا لها ولسياستها في المنطقة.
الإيرانيون يدركون؛ أن أي توسعة للحرب مع الكيان الصهيوني لا تخدم سياستهم في هذه المرحلة؛ لذا بذلوا جهدهم لتطويق الصراع وجعله في الحدود المسيطر عليه
* إيران كان هدفها تعزيز مكانتها وقوة تأثيرها الإقليمي، من دون توسعة دائرة أو دوائر الصراع في المنطقة.. إن أي تدخل مباشر وفعال، من خارج أطراف الصراع أو الحرب، الذين هم؛ دولة الاحتلال الإسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية البطلة ومحاور المقاومة التي تدعمها إيران؛ يشكل هاوية أو خندقا للسياسة الإيرانية في المنطقة؛ قد يكلفها الكثير..
*الهجوم أرادت منه إيران في البداية تخطيطا وتنفيذا؛ أن يتم التصدي له أمريكا وغربيا وإسرائيليا ومن آخرين. وهذا هو ما حدث. فقد تم التصدي واسقاط 84% من المسيرات والصواريخ.
*إيران أبلغت أمريكا وإسرائيل والغرب وغيرهم؛ قبل وقت كاف من بدء الهجوم حتى يكون في إمكانهم إعداد عدة التصدي والإسقاط..
*وأبلغت إسرائيل ـ عن طريق روسيا ـ أنها لا تريد توسعة الصراع.
*إيران لعبت اللعبة بذكاء وحنكة ودهاء في الإعلام والتخطيط والتنفيذ والنتائج.
* إيران خططت وتخطط لأن تكون في قلب الصراع وفي خارج الصراع في وقت واحد. وقدمت نفسها كقوة إقليمية قادرة على كسر هيبة أمريكا وإسرائيل؛ عربيا وإقليميا ودوليا. وفي رأيي الشخصي؛ أن الاثنتين أمريكا وإسرائيل تدركان هذا تماما؛ وتقبلان به. لذا فالرد الإسرائيلي الذي حدث قبل أيام؛ كان ردا محدودا جدا؛ تلاعبت به إيران إعلاميا؛ لإظهار أنه لا يستحق الرد.
هنا تكون المسألة قد انتهت، أو هي في حكم النهاية مرحليا، أو في هذه المرحلة.. طالما أكدت أن أمريكا ليس في وارد سياستها مهاجمة إيران، بأي شكل من الأشكال، وما زالت على قناعة كاملة بذلك، وما حدث من هجوم إسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، وهجوم إيراني مضاد له، هو لعبة نتنياهو، كي يبتعد عن الإقصاء سياسيا ومن ثم السجن تاليا؛ وتم استثمارها إيرانيا، وتطويقها أمريكا وجعلها ضمن حدود الملعب.. الإيرانيون يعلمون ويدركون تماما؛ أن أي توسعة للحرب مع الكيان الصهيوني لا يخدم سياستهم في هذه المرحلة؛ لذا فإنهم بذلوا كل الجهد المتيسر لهم لتطويق الصراع وجعله في الحدود المسيطر عليه، ومن الجهة الثانية وهي الأهم في سياسة إيران في هذه المرحلة؛ أن لا تدفع أمريكا في صراع إيراني إسرائيلي، بالوقوف إلى جانب إسرائيل بصورة واضحة ومباشرة، أو أن تجد أمريكا نفسها مجبرة وهي في سنة انتخابية؛ على الدخول في الصراع بين إسرائيل وإيران، مما يؤثر على شعبية بايدن. هذا التأثير سيكون في اتجاهين؛ الأول، إن أمريكا إن تدخلت في الصراع إلى جانب إسرائيل وضد إيران؛ سيتوسع الصراع أو الحرب ويخرج عن السيطرة، أي تصبح حربا مفتوحة، وسيلحق ضررا تاما بأمريكا في ظروف حرب الإنابة مع روسيا، ويقلص إلى حد كبير شعبية بايدن. الثاني إن توسع الصراع، أو الحرب بين إيران واسرائيل، ولم تتدخل أمريكا فيه، وهذا احتمال بعيد جدا، وغير وارد على ضوء الاشتباك الامريكي الإسرائيلي المصلحي والنفعي والديني؛ لا يقلص شعبية بايدن، بل سيقضي عليه تماما. ثالثا، أمريكا لا تريد أو ليس في نيتها لا الآن ولا في المستقبل أن تدخل في حرب مع إيران، حتى إن كانت محدودة؛ لأسباب ذات أبعاد استراتيجية. هذا الصراع أو الحرب إن حدثا، (وهما لم ولن يحدثا)؛ سيمهد الطريق لترامب بالدخول إلى البيت الأبيض مجددا، وهذا هو الذي لا ترغب في حصوله إيران. كل من إيران وأمريكا لا تريدان توسعة الصراع، أو الحرب بين إسرائيل وإيران.
المؤلم هنا؛ ضياع أو عدم وجود أي مشروع عربي في هذه التغييرات والتحولات الكبرى في العالم، والتي في قسم منها؛ تخص المنطقة العربية وقضية فلسطين، بل العكس هو الصحيح بصورة كاملة.