تتنافس كل من إيران وروسيا في تصدير التصريحات بشأن دوريهما في حماية النظام السوري من الانهيار الذي كان وشيكاً بين عامي 2012-2015. وعلى الرغم من أسبقية المليشيات الموالية لإيران في التدخّل في الصراع السوري إلى جانب النظام، إلا أنها لم تستطع أن تحول دون فقدانه كثيراً من المساحات السورية، جنوباً وشرقاً وشمالاً، ما استدعى التدخّل العسكري الروسي. إلا أن الحماية الأساسية التي اعتمدها الرئيس السوري بشار الأسد، على مدار السنوات الـ 13 الماضية، كانت سياسةً دوليةً سمحت لتدخّلات داعميه العسكرية بهزيمة أو وضع حدّ لتقدّم القوى المُعَارِضَة المُتصارِعِ معها، محلّيةً كانت أم مدعومة من دول عربيةٍ أو إقليميةٍ، من دون أن يعني ذلك منحَه صفةَ الانتصار أو إعلان هزيمة مُعارِضِيه.
هذا التأرجح بين الهزيمة والنصر، الذي تعاني منه كلّ أطراف الصراع السوري، هو السياسة التي اعتمدتها الولايات المتحدة تجاه القضية السورية، على خلاف مواقفها من مثيلاتٍ لها سابقة، في العراق وليبيا، حيث انفرد الجانب الأميركي بقرارات التدخّل لمصلحة هزيمة السلطة الحاكمة، من دون العودة إلى إجماع أممي حول ذلك، وهو ما تمارسه اليوم مع أوكرانيا، حين تمدّها بكلّ ما يجعلها صامدة في مواجهة الحرب الروسية عليها. ويأتي قرار البيت الأبيض، رفض تمرير قانون مناهضة التطبيع مع بشار الأسد، في سياق سياسة الـ”لا حسم”، فتتابع واشنطن، من خلال هذا الرفض، منع حسم المعركة ضدّ الأسد لأسباب عديدة، قد يكون من بينها جائزة ترضية جماعية للقوى الفاعلة في سورية، وهي اليوم أوسع من عباءة الروس وإيران والصين.
قد يكون البيت الأبيض برفضه تمرير القرار، يدافع عن بقاء ملفّ سورية بين يدي من يسكنها، وليس دفاعاً عن الأسد
السؤال الذي يمكن أن يشغل السوريين: من يكافئ البيت الأبيض بقراره رفض تمرير مشروع قانون صادق عليه مجلس النواب الأميركي بأغلبية كبيرة؟… ضمن هذا التساؤل، لا بدّ من ملاحظة أن القرار، في وقتٍ يشدّد عقوبات قانون قيصر على الأسد، ومنعكسات ذلك على الراغبين في التطبيع معه، فإنّه يُحاصر الإدارات الأميركية، ويحدّ من قدرتها على اتخاذ أيّ خطوات تسوية مع نظام الأسد، وهو السبب الذي قد يكون وراء تعطيل البيت الأبيض للقرار، إذ يمنع مضمونه الإدارات الأميركية فقط من الاعتراف بأي حكومة يرأسها الأسد في أيّ وقت، بشكل قطعي وجازم، من دون أن يستثني هذا الأمر، في حال تنفيذ قرارات معينة مثل قرار مجلس الأمن 2254 (في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، المتعلّق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية في سورية)، ما يجعل رفض قرار مناهضة التطبيع مع الأسد يصبّ في مصلحة الإبقاء على مثل هذه القرارات لتقديرات البيت الأبيض، وليس محكوماً بقوانين قد تضطرّ السياسات المُتغيرة إلى مخالفتها. أيّ أنّ البيت الأبيض قد يكون برفضه تمرير القرار، يدافع عن بقاء ملفّ سورية بين يدي من يسكنها، وليس دفاعاً عن الأسد، لأنّ تحديده مستفيداً أو أنّها مكافأة علنية غايتها الحماية من مفاعيل القرار، فيه كثير من الاستهانة بالسياسة الأميركية، وقدرتها على قياس عدم فاعلية النظام السوري حالياً، في أيٍّ من ملفات المنطقة، من دون النظر إلى ارتباط قرار الإدارة حالياً بجملة الملفات التي تعمل عليها، سواء مع الدول الداعمة للأسد، وروسيا وإيران ضمناً، أو مع حلفائها العرب، وفي مقدّمتهم السعودية.
يوحي استهجان قوى المعارضة السورية القرار بأنّهم لا يزالون يأملون بدور أميركي فاعل في إسقاط الأسد، وتقديم السلطة لهم على طبق قانوني
فخلال السنوات الماضية، لم تحاول الولايات المتحدة، في أيٍّ من مراحل الصراع السوري، أن تفصل ملف النظام السوري عن روسيا، فمنذ عام 2015 (اتفاق كيري – لافروف) حلّت روسيا ممثلاً رسمياً لسورية في الساحات الدولية، وسهّلت عليها تمرير الاتفاقيات، وترسيم الصلاحيات بين الأطراف المتنازعة في اتفاقيات خفض التصعيد من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وكذلك ضبط الحدود مع إسرائيل وتأمينها، ما يعني أنّ قرار دخول سورية على خطّ الحرب ضدّ إسرائيل روسي أكثر منه إيرانيا. ولهذا، أيّ مكافأة بهذا الخصوص، سواء لضبطها إيقاع الحركة السورية أو الإيرانية أو المليشيات الملحقة بها، على الحدود مع إسرائيل سابقاً، ولاحقاً، هي موجّهة لروسيا، وليست لسورية أو رئيسها.
في الطرف المقابل، يوحي استهجان قوى المعارضة السورية القرار وكأنّهم لا يزالون يأملون بدور أميركي فاعل في إسقاط الأسد، وتقديم سلطة الحكم لهم على طبق قانوني “يمنع الإدارات الأميركية من الاعتراف بأيّ حكومة يترأّسها… بشّار الأسد”، أيّ أنّ التسويات التي تأملها المعارضة هي حتما تزيح الأسد من السلطة، وهو ما كانت الإدارة تنفي العمل عليه، وتؤكّد أنّها ليست بصدد إسقاط النظام، ولكنها ترغب في دفعه إلى تسوية وفق القرارات الأممية، وهي تسويةٌ بالتراضي بين الطرفيْن، ما يجعل القرار مخالفاً لمضمون التراضي المشار إليه في القرار 2254، إذ لا يُتَوَقّع من النظام الموافقة على عزل الأسد في أيّ عملية تفاوضية مأمولة.
ربما من المفيد التذكير بأنّ إيران أيضاً أحد المستفيدين والعاملين على تعويم الأسد، والحفاظ على نظامه، سواء جاء هذا التعويم من دول عربية أو أوروبية أو بقرار أميركي “محابٍ” لعمليات التطبيع العربي مع الأسد، ما يعني أنّ إيران، الحريصة على بقاء الأسد رئيساً، قد تكون صاحبة القرار بإبعاده عن دائرة الحرب الإسرائيلية على غزّة، وتمكينه من البقاء على “الحياد السلبي” الذي يُعزّز فرص استمرار تعويمه عربياً وإقليمياً، ما يجعل من تمهّل الإدارة الأميركية في تمرير القانون فرصة جديدة للقول إنّها فعلت ذلك تكريماً للردّ الإيراني الناعم على العملية الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، واحتواء غضبها تجاه الاغتيالات المُتكرّرة لمسؤوليها.
في كلّ الأحوال، لم يفقد قرار مناهضة التطبيع مع الأسد فرص مروره، ولا تزال مفاعيل التهديد به قائمة، بل يمكن استخدامه للتنكيل بالأسد حتّى نهاية ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، ما يعني أنّ توقيف القرار قد لا يكون مكافأة لأيّ طرف، كما قد لا يكون تمريره هو الحلّ في ظلّ تطورات غير معروفة في عموم منطقة الشرق الأوسط بكاملها.