تحبس فرنسا أنفاسها بانتظار ما ستسفر عنه نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة التي تجري اليوم الأحد، بعد أسبوع على الدورة الأولى من انتخابات فرنسا لاختيار برلمان جديد، كان حافلاً بالتوترات التي واكبتها مفاوضات واتصالات ومراجعة للمواقف بهدف الحؤول دون فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بغالبية برلمانية مطلقة. وكانت نتائج انتخابات فرنسا التشريعية في دورتها الأولى، يوم الأحد الماضي، أظهرت تقدماً كاسحاً للتجمع الوطني، وإمكان حصوله على مقاعد نيابية تفوق 289 مقعداً من أصل 577 مقعداً، وهو عدد المقاعد المطلوب لتكوين غالبية مطلقة، تخوله تولي تشكيل الحكومة بموجب الدستور الفرنسي. وفاز 76 مرشحاً بالنيابة من الدورة الأولى، 37 منهم للتجمع الوطني، و32 لتحالف اليسار.
وتأتي هذه انتخابات فرنسا بعد شهر من القرار المبهم الذي اتخذه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بحلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، عقب الانتخابات الأوروبية التي تقدم فيها اليمين المتطرف على سائر القوى السياسية الفرنسية، ما أحدث زلزالا سياسيا في فرنسا.
حصة اليمين المتطرف من البرلمان المقبل ستتراوح بين 170 و210 مقاعد نيابية، وفق الاستطلاعات
انتخابات فرنسا والتحالفات المستحيلة
وأشارت استطلاعات الرأي الجديدة، إلى تراجع في عدد المقاعد التي ستعود للتجمع الوطني في الدورة الثانية من انتخابات فرنسا المرتقبة اليوم، وذلك على ضوء التحولات التي طرأت على مواقف القوى السياسية الفرنسية خلال الأسبوع الثاني من الحملة الانتخابية. وجاء ذلك بعد انسحاب عدد من المرشحين ممن حلّوا خصوصاً في المرتبة الثالثة في الدورة الأولى، لصالح آخرين حلّوا في المرتبة الثانية، لقطع الطريق على مرشحي اليمين المتطرف. ويدخل ذلك في إطار ما يسمى بالتحالف الجمهوري الذي يتشكل في فرنسا عادة ضد اليمين المتطرف لعدم إيصاله للسلطة (ظهر أيضاً في الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة التي فاز بها ماكرون بولاية ثانية عام 2022، ضد مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف).
مناصرون لليمين المتطرف أمام ملصقات للوبان وبارديلا، 3 يوليو 2024 (فرانس برس)
تقارير دولية
حبس أنفاس في فرنسا قبيل انتخابات الأحد: اليمين المتطرف أو الشلل
وأفاد الاستطلاع الأخير الذي أجراه معهد “إيفوب”، بأن حصة اليمين المتطرف من البرلمان المقبل ستتراوح بين 170 و210 مقاعد نيابية، وتليه الجبهة الشعبية الجديدة المكونة من القوى اليسارية (اشتراكيين ويسار راديكالي وشيوعيين وأنصار البيئة)، والتي ستحصل على ما يتراوح بين 155 و185 مقعداً، ومن ثم تأتي في المرتبة الثالثة لائحة معاً التي تضم المرشحين الموالين للرئيس الفرنسي مع ما يتراوح بين 120 و150، فيما تقتصر مقاعد حزب “الجمهوريين” اليميني على ما يتراوح بين 50 و65 مقعداً، وتتوزع المقاعد المتبقية على أحزاب صغيرة متعددة الانتماءات.
هذا التراجع في نسب تأييد اليمين المتطرف، لم يأتِ وفقا لما كان تمناه ماكرون، نتيجة صحوة في أذهان الناخبين لما يعنيه تولي التجمع الوطني بشخص رئيسه جوردان بارديلا رئاسة الحكومة، وإنما نتيجة اقتناع القوى السياسية على مضض بأن تفعيل التحالف الجمهوري من شأنه أن يقي البلاد مساوئ فترة جديدة من التعايش (بين الرئاسة والحكومة) تبدو مريرة ومقلقة.
وبدا واضحاً أن تفعيل التحالف الجمهوري لم يكن بالأمر السهل، بسبب الانقسامات السياسية العميقة بين الكتلتين المطالبتين بتشكيل هذا الحلف، أي الوسط، ممثلاً بلائحة معا والجبهة الشعبية الجديدة التي كانت أول من بادر إلى الإعلان عن سحب مرشحيها في الدوائر التي حلّوا فيها في المرتبة الثالثة وتجيير أصواتهم لصالح أي مرشح، باستثناء مرشح اليمين المتطرف. وبعد فترة من التردد، بادر ماكرون للدعوة إلى الوقوف في وجه اليمين المتطرف، داعياً إلى سحب مرشحي “معاً” في الدوائر التي حلوا فيها في المرتبة الثالثة وتجيير الأصوات لصالح مرشحي الجبهة الشعبية اليسارية. وفي المجمل، بحسب وزارة الداخلية، فقد انسحب 224 مرشحاً بين الدورة الأولى والثانية، لصدّ اليمين المتطرف.
ولتطويق الأصوات المنتقدة لهذا الموقف، عمل ماكرون على تذكير مؤيديه بأن وجوده في الرئاسة للمرة الثانية على التوالي مرده إلى التحالف الجمهوري الذي عمل اليسار على تفعيله خلال الانتخابات الرئاسية عامي 2017 و2022، لمنع زعيمة التجمع الوطني مارين لوبن التي نافسته في الدورتين المتتاليتين من الفوز بالرئاسة. لم يكن من السهل على ماكرون اتخاذ هذا القرار، لأنه على الرغم من إمكان تقويضه فرص الفوز الكاسح لليمين المتطرف، فإنه لا يجدي أي نفع لتشكيله السياسي الذي لا مفر أمامه من التراجع إلى المرتبة الثالثة والاكتفاء بمقعد القوة الأقلية، لكنه في المقابل يعزّز الوزن البرلماني لخصومه السياسيين في الجبهة الشعبية. هذا التحالف الظرفي، لا يلغي إطلاقاً التباين السياسي والاستقطاب الحاد بين القوى السياسية، وهو ما بدا بوضوح خلال الأيام الماضية التي اتسمت بالتراشق الكلامي الحاد بين أطراف الطبقة السياسية، كما اتسمت بعنف لم يسبق أن شهدت مثله فرنسا في حملاتها الانتخابية.
وأحصت وزارة الداخلية الفرنسية حوالي 51 اعتداء جسدياً على أعضاء حزبيين ومرشحين من مختلف القوى السياسية، ومن بين الأشخاص المستهدفين، الوزيرة الناطقة باسم الحكومة الفرنسية بريسكا تيفنو المرشحة للنيابة في دائرة قريبة من باريس والتي تعرضت للضرب أثناء تعليقها ملصقات انتخابية، ما استدعى قطع حملتها ودخولها إلى المستشفى. وأعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان هذا الأسبوع، أن فرنسا تعتزم حشد 30 ألف شرطي، اليوم الأحد، وسط مخاوف من احتمال اندلاع أعمال شغب بعد انتهاء جولة الإعادة للانتخابات، موضحاً أنه سيتم نشر 5 آلاف شرطي في باريس وضواحيها.
أكد بارديلا أن سياسة المقعد الخالي لن تكون مجدية للتجمع الوطني إذا ما حصل على أكثرية نسبية
ولعل مردّ هذه التوترات وأعمال العنف إلى الالتباس البالغ الذي يحكم الخريطة السياسية التي ستنبثق عن صناديق الاقتراع، بحيث تبدو فرنسا على عتبة احتمالات وسيناريوهات يجمع المراقبون على القول إنها سيئة بمجملها.
احتمالات عدة لفترة عصيبة
ونظراً لكون الاستطلاعات مبنية على نوع من التقديرات لنوايا الفرنسيين الانتخابية، يبقى احتمال فوز اليمين المتطرف في انتخابات فرنسا بغالبية مطلقة من المقاعد النيابية قائما إلى حين صدور النتائج الانتخابية. وإذا صحّت هذه الفرضية فإنها تعني أن بارديلا سيتولى تشكيل حكومة موالية له والتعايش مع ماكرون خلال الفترة المتبقية من ولاية الأخير الرئاسية الثانية ومدتها ثلاث سنوات. وفي ظلّ مثل هذا الوضع، تكون فرنسا مقبلة على فترة عصيبة من التشنج السياسي الذي من شأنه إدخال البلاد في مرحلة من العرقلة التي يكون معها متعذراً دفع الأمور إلى الأمام على مجمل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نتيجة التناقض، لا بل العداء بين طرفي الحكم.
هناك من جهة أخرى احتمال حصول اليمين المتطرف على غالبية نسبية، وقبول بارديلا تولي رئاسة الحكومة بعدما رفض بداية هذه الفرضية لكنه عدل عنها، معلناً أن سياسة المقعد الخالي لن تكون مجدية للتجمع في مثل هذه الحالة، وبذلك سيجد نفسه على رأس حكومة شبه معطلة أمام البرلمان، على غرار ما كانت عليه حكومة إليزابيث بورن السابقة (كلّفها ماكرون بقيادة الحكومة بعد فوزه بولاية ثانية في إبريل/نيسان 2022)، والتي وجدت نفسها مضطرة للجوء إلى مادة دستورية استثنائية هي المادة 49.3 لتمرير القوانين من دون تصويت البرلمان، حيث لم يكن لديها سوى غالبية نسبية.
الفرضية الثالثة تتمثل في بروز ثلاث كتل برلمانية متعادلة نسبياً من حيث الوزن وتكون ممثلة بالتجمع الوطني والجبهة الشعبية الجديدة وكتلة نواب معا، والسعي في مثل هذه الحالة إلى تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من وزراء موالين لماكرون وآخرين من الأحزاب المختلفة أي اشتراكيين وأنصار بيئة ويساريين. لكن المشكلة على صعيد هذه الصيغة تكمن في افتقار الطبقة السياسية الفرنسية لثقافة الائتلافات التي لم يسبق أن عهدتها، وفي الوقت نفسه فإن الحكومة الائتلافية تقتضي برنامجاً ائتلافياً قد لا يكون من السهل التوصل إليه والعمل على تطبيقه على ضوء التنافر في المواقف في أطراف هذه الحكومة المتعددة.
ويبقى احتمال أن يلجأ ماكرون في حال تعذر حصول أي من القوى السياسية على غالبية، إلى تشكيل حكومة تكنوقراط منفصلة عن الأحزاب السياسية مع ما يعنيه ذلك من عزلة لهذه الحكومة أمام الندوة النيابية.