صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 28 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) إنّه لا يوجد سبب يمنع إقامة علاقات بين بلاده وسورية، ولم يستبعد عقد لقاء قريب له مع بشّار الأسد. قبل ذلك بأيّام، صرّح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إنّ الحرب بين النظام والمعارضة انتهت بجهود تركية روسية، وإنّ سورية يمكن أن تكون لاعباً أساسياً في الحرب على حزب العمّال الكردستاني. لم يسبب التصريحان المتتاليان صدمة كبيرة في أوساط السوريين، سواء المُؤيّدين أو المعارضين، أو حتّى عامة أبناء الشعب، لأنّهما يأتيان ضمن سلسلة التغيّرات السياسية الجديدة في الملفّ السوري، ووراءهما، دفع روسي ورضا أميركي، بالإضافة إلى وساطة يقوم بها رئيسُ الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني بين تركيا وسورية. ولا ننسى أنّ وزير الخارجية التركي السابق مولود جاووش أوغلو صَدَم المعارضين السوريين في أغسطس/ آب 2022 عندما دعاهم صراحةً إلى الصلح مع النظام السوري.
مَن يراقب الإجراءات التي أعقبت المبادرة العربية التي حملها إلى دمشق وزيرُ الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، قبل حوالي سنة، ونتج منها حضور بشّار الأسد، بصفته رئيسَ سورية، قمَّتَي جدّة (2023)، ثمّ المنامة (2024) العربيّتين، لا بدّ أن يفهم التصريحيَن التركيَين رفيعَي المستوى في سياقهما، فهما ينطلقان من هاجسَين كبيرَين يُؤرّقان الحكومة التركية، أولهما قديم ودائم؛ وجود حزب العمّال الكردستاني، وثانيهما طرأ على الوضع بعد زلزال 6 فبراير (2023) الذي أثّر سلبياً في الاقتصاد التركي، وجعل مواطنين أتراكاً كثيرين من دون مأوى، فأصبح اللاجئون السوريون عبئاً ثقيلاً على الدولة التركية، مع الإشارة إلى أنّ التذمّر من اللاجئين السوريين، والتهديد بترحيلهم، سابقان للزلزال، وفي أيّام الانتخابات تتّفق الحكومة والأحزاب المُعارِضة على ضرورة ترحيلهم.
يمكننا مراقبة المواقف السياسية التركية تجاه “الجارة” سورية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فتركيا لم تُعادِ الحكومة الفيصلية التي تزامن قيامها مع هزيمة تركيا في الحرب 1918، رغم أنّ الشريف حسين (والد الملك فيصل) عاداهم، وساهم مع الإنكليز في إخراجهم من المنطقة العربية بعد 400 سنة. وتفسير ذلك، في ظنّي، أنّ أتاتورك وصحبه كانوا منشغلين بلم شتات الدولة التركية، والتحوّل من المَلَكية إلى الجمهورية، ولكنّهم تدخّلوا بعد سنتَين لدعم ثورة الشمال التي قادها إبراهيم هنانو ضدّ الفرنسيين، مع الإشارة إلى أنّ هنانو كان من رجال الدولة التركية، بدليل أنّه كان والياً على أرضروم، قبل أن يشغل منصب نائب والي حلب في حكومة فيصل، ويوسف العظمة كان ضابطاً عثمانياً برتبة يوزباشي (نقيب) قبل أن يصبح وزيراً للحربية في حكومة فيصل. وفي سنة 1939، تحسّنت العلاقات التركية الفرنسية، وتخلّت فرنسا لتركيا عن لواء إسكندرون، ودخلت العلاقات بين تركيا والجارة سورية في هدوء استمرّ حتّى الثمانينيات، عندما بدأ حزب العمّال الكردستاني، الذي كان زعيمُه عبد الله أوجلان يقيم في دمشق، يُهدّد الأمن التركي، ما أدّى في 1998 إلى تهديدات تركية باجتياح الشمال السوري. ولكن، وبنتيجة وساطة مصرية وإيرانية، أَخرَج حافظُ الأسد أوجلان من سورية، وأرسل وفداً مفاوضاً، وقّع اتفاقية أضنة التي تسمح لتركيا بالدخول ضمن الأراضي السورية لمحاربة ذلك التنظيم.
ما حصل في سنة 2011 أنّ تركيا استطاعت أنّ تشكّل عُمقاً استراتيجياً لـ”الثوّار” السوريين، الذين يغلب عليهم الطابع “السنّي”، إذ فتحت حدودها على مصراعيْها أمامهم، حتّى تجاوز عددُهم ثلاثة ملايين ونصف مليون، واستطاعت أن تمتلك الورقة الأكثر قوّة وأهمّية وفعّالية في حلّ القضية السورية، وتَوَجُّه الإدارة التركية اليوم نحو المصالحة، والتطبيع مع نظام الأسد، سيكون كلمة السرّ السحرية في هذه القضية الشائكة، والثمن المطلوب، كما هو واضح، رأس حزب العمال وقوات سوريا الديمقراطية (قسد).