تونس – تتسع دائرة التنافس بين القوى الدولية الكبرى حول العلاقات مع موريتانيا التي باتت تمثل واحة أمن واستقرار في محيط إقليمي متقلب وبين كثابين الرمال المتحركة.
وأكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعزيز الأهداف المشتركة مع موريتانيا وتعميق أواصر الصداقة والتعاون بين البلدين، وقال في برقية تهنئة بعثها للرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني أن بلاده “تثمن شراكتها الدائمة والمتنامية مع موريتانيا، والتي ترتكز على إدراك أن الحكم الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتعزيز الأمن والتنمية الاقتصادية ستمهد الطريق لمستقبل أكثر سلاما وازدهارا للموريتانيين وللشعوب في جميع أنحاء العالم”، وفق تعبيره.
وتبدي الولايات المتحدة اهتماما كبيرا لموريتانيا ذات الامتداد الساحلي على الضفة الشرقية للمتوسط بمسافة 600 كلم، والموقع الإستراتيجي المهم في منطقة الساحل الأفريقي، والدور المؤثر في محاربة الإرهاب، بالإضافة إلى التجربة الديمقراطية المتميزة.
وكان قائد القوات الأميركية في أفريقيا (آفريكوم) الجنرال مايكل لانجلي، اعتبر أن موريتانيا رائدة في مجال الأمن الإقليمي، وقال على إثر لقائه بالرئيس ولد الغزواني في نوفمبر الماضي إن الولايات المتحدة تشيد بدور موريتانيا “طويل الأمد في مكافحة الإرهاب ومنع التطرف العنيف في منطقة الساحل” مشيرا إلى أن بلاده “تقدر، كذلك، ريادة موريتانيا في مجال الأمن الإقليمي، خصوصا كونها البلد المضيف للأمانة التنفيذية لمجموعة الساحل الخمس وكلية الدفاع لهذه المجموعة”.
الاهتمام الدولي يصب في صالح موريتانيا، بتلقي الدعم ما يساعدها على تخطي تداعيات مرحلة الحرب ضد الإرهاب
وبحسب المسؤول العسكري الأميركي، فإن البرامج الأمنية لبلاده “قدمت لعقود من الزمن التدريب للوحدات العسكرية الموريتانية، وساعدت في التكوين المهني للضباط العسكريين الموريتانيين من خلال برامج في المدارس العسكرية الأميركية، مما عزز القيم المشتركة للحكم المدني”.
وفي أكتوبر 2022 زارت وكيلة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند نواكشوط وأشادت بالدور الموريتاني في منع التطرف العنيف ومكافحة الإرهاب، وأكدت على أن موريتانيا باتت واحة للاستقرار في منطقة الساحل ما يعزز من دورها في تعزيز الأمن الإقليمي والدولي، ووعدت بتقديم بلادها نحو 28.5 مليون دولار خلال 5 سنوات لتغذية 100 ألف تلميذ سنوياً في 320 مدرسة ابتدائية في بعض المدن الموريتانية، لاسيما أن موريتانيا تستضيف 80 ألف لاجئ فارين من العنف من مالي.
ويرى المراقبون، أن الولايات المتحدة تنظر باهتمام بالغ إلى ضرورة مساعدة الموريتانيين على تحصين بلادهم من انعكاسات التحولات الإقليمية الكبرى وخاصة بعد تراجع النفوذ الفرنسي وظهور موجة من السياسيين المناوئين للمصالح الغربية في دول الساحل مقابل تمدد للنفوذ الروسي.
وتخشى واشنطن من أن تنضم نواكشوط الى العواصم المتمردة على القواعد التقليدية للخارطة الجيوسياسية التي تشكلت منذ سبعينات القرن الماضي وتأكدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات.
وفي ذات السياق، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن “فرنسا ستظل ملتزمة بالعمل مع موريتانيا لتعزيز الاستقرار الإقليمي سواء تعلق الأمر بالدفاع عن سيادة القانون أو مكافحة انتشار التهديد الإرهابي”.
ولا تخفي باريس خشيتها من مغادرة نواكشوط نفوذها السياسي والإستراتيجي أسوة ببقية دول المنطقة وخاصة النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
وفي مارس 2023 تعهد المدير العام للوكالة الفرنسية للتنمية ريمي ريو، بأن بلاده ستعيد تمويلاتها في موريتانيا التي كانت قد أوقفت سنة 2015، “مما سيمكن من مضاعفة تدخلاتها”.
وأكد ريو بعد لقاء بالرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في نواكشوط، أن بلاده مهتمة بإعادة تعاونها مع موريتانيا لسابق عهده، ومن ذلك “مشاريع بقيمة 200 مليون يورو، قيد التنفيذ حاليا في عدة مجالات من بينها المياه والتهذيب والمقاولات والطاقة والصحة”، وتابع أنه عبر للرئيس ولد الغزواني عن “كامل الدعم لموريتانيا ولحكومتها”، كما جدد له “التزام فرنسا تجاه الساحل”، مشيرا إلى أن النقاش تطرق بالإضافة إلى العلاقات الثنائية، للوضعية في المنطقة.
ورحبت باريس بإعادة انتخاب ولد الشيخ الغزواني باعتبارها ضامنا لتحصين العلاقات بين البلدين ومدافعا شرسا عنها، وأكد سفير فرنسا في موريتانيا ألكسندر غارسيا أن بلاده ستقف إلى جانب موريتانيا في إنجاز مشروعها الطموح والضروري للحفاظ على سلم وأمن البلاد، لافتا إلى أن الرئيس ولد الغزواني سيواجه العديد من التحديات التي سيتغلب عليها من أجل تحسين أوضاع المواطنين الموريتانيين.
وفي أكتوبر 2023 أثار الرئيس الغزواني جدلا واسعا في الشارع الموريتاني عندما أكد “إنه لا توجد مشاعر مناهضة لفرنسا في الساحل وأفريقيا بالمعنى الدقيق، بل يتعلق الأمر فقط بسوء تفاهم، كما هو الحال أحيانا بين الأصدقاء القدامى”، وكذلك وصف رغبة الشعوب الأفريقية في التحرر من التبعية الفرنسية بـ”الشعبوية التي لا يستطيع أحد السيطرة عليها، حيث يتم تضخيمها بشكل كبير عبر وسائط التواصل الاجتماعي”.
وكثفت فرنسا بشكل ملحوظ تعاونها مع موريتانيا من خلال حزمة من المشاريع الممولة من قبل الوكالة الفرنسية للتنمية والتي سيرتفع سقف قيمتها إلى أكثر من 360 مليون يورو في نهاية عام 2024، منها أكثر من 96 مليون يور تم منحه لموريتانيا في سنة 2024 لوحدها.
وبحسب دراسة صادرة عن المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، فإن موريتانيا تشهد حالة من الاهتمام الدولي من قبل الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا، ويعود هذا الاستقطاب غير المسبوق إلى تصاعد التوتر بين الغرب وبكين من جهة وموسكو والغرب من جهة أخرى وإن اختلفت أسباب الاستقطاب.
وتسعى أوروبا عبر موريتانيا إلى تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة وضمان تواجدها في أفريقيا بعد الانسحاب الفرنسي من بعض الدول، بينما يعتمد حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة على إسبانيا لتوطيد العلاقة مع موريتانيا ومواجهة النفوذ الروسي والصيني في أفريقيا.
وتقول الدراسة إن روسيا تجد في موريتانيا الطريق لتعزيز تحالفاتها في أفريقيا رداً على علاقات الناتو أيضاً، وخلق أسواق جديدة لمصادر الطاقة والحبوب، مع إبرام اتفاقية اقتصادية وعسكرية مع حلفاء جدد.
واهتمت الصين بموريتانيا لتوطيد علاقاتها مع الشرق وتعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في أفريقيا، فيما تتبع موريتانيا سياسة متوازنة لإقامة علاقات قوية مع جميع الأطراف الدولية، خاصة وأنها تعد حائط صد للتطرف في الساحل وتمنع تمدده، وتقف على مسافة واحدة بين الغرب وروسيا والصين.
وتعتبر الدراسة أن هذا الاهتمام الدولي يصب في صالح موريتانيا، بتلقي الدعم العسكري والاقتصادي ما يساعدها على تخطي تداعيات مرحلة الحرب ضد الإرهاب على مدار العقد الماضي، مرجحة أن تزداد أهمية موريتانيا الفترة المقبلة مع تصاعد حالة الانقلابات العسكرية في أفريقيا.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن العلاقات الروسية الموريتانية علاقات ودية تقليدية، وخاطب ولد الشيخ الغزواني، في رسالة تهنئة بمناسبة نجاحه في الفوز بولاية رئاسية ثانية قائلا “ولذلك فإننا نعوّل على عملكم على رأس الدولة للمساهمة أكثر في تطوير التعاون الثنائي البنّاء في جميع المجالات لصالح شعبينا”، مردفا “إن إعادة انتخابكم رئيسا للجمهورية الإسلامية الموريتانية تتيح لي الفرصة لأتقدم لكم بتهانيّ وأطيب تمنياتي لكم بالنجاح وموفور الصحة والعافية وبالرفاهية للشعب الموريتاني”.
وفي منتصف يوليو الجاري قالت متحدثة باسم وزير الخارجية الموريتاني، إن العلاقات بين موريتانيا وروسيا شهدت تطورا ملحوظا في التعليم والتجارة وغيرها، داعية إلى تعزيز هذه العلاقات لتشمل مجالات جديدة.
وخلال كلمة ألقتها باسم وزير الخارجية محمد سالم ولد مرزوك، لمناسبة مرور 60 عاما على العلاقات بين موريتانيا وروسيا، قالت السفيرة العالية بنت منكوس، إن العلاقات بين البلدين شهدت تطورا ملحوظا أثمر العديد من الاتفاقيات في مجالات مختلفة كالتعليم والتجارة والصيد والنقل وغيرها، وأضافت أن الزيارات الرسمية المتبادلة تعكس متانة هذه العلاقات.
ومن جانبه، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على استعداد بلاده للتنسيق المستمر مع موريتانيا في شؤون السياسة الخارجية، وأشار إلى أن حرصهم في الكرملين على التنسيق مع الحكومة الموريتانية، يهدف إلى ضمان لأمن والاستقرار في منطقة الصحراء والساحل وكذلك في جميع أنحاء أفريقيا.
وفي رده على رسالة نظيره الروسي، أكد ولد مرزوك على رغبة نواكشوط في مواصلة تطوير علاقات التعاون بين البلدين، وأشاد بروح الصداقة الراسخة والاحترام المتبادل التي تتميز بها علاقات التعاون الثنائي بين البلدين.
ومن جانبه، أبرز السفير الروسي في موريتانيا بوريس زيلكو، إن علاقات روسيا وموريتانيا تطورت في الفترات الأخيرة بشكل كبير، منوها بمشاركة المسؤولين الموريتانيين في العديد من المؤتمرات الدولية التي احتضنتها روسيا مؤخرا بدءا بمشاركة الرئيس محمد ولد الغزواني في القمة الروسية الأفريقية.
ووصف الدبلوماسي الروسي العلاقات الموريتانية الروسية بالعريقة، مردفا أنها تشمل كافة المجالات الاقتصادية والتنموية وغيرها، مستعرضا نماذج من هذا التعاون كمستشفى نواذيبو ومشروع تحلية مياه البحر، وتعهد بأن تعمل بلاده على تنمية هذه العلاقات لتشمل مجالات أخرى متعددة.
ويرى محللون، أن موريتانيا مدعوة إلى الاستفادة من التجاذبات القائمة بين الدول الكبرى حول دورها وموقعها في منطقة الساحل والصحراء، لاسيما في مواجهة ظاهرة الانقلابات العسكرية، ومحاصرة النفوذ الفرنسي والغربي عموما، وتمدد الدور الروسي والحضور الصيني، بالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالإرهاب والاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية نحو الشمال والغرب.
العرب