لو خرج مُرشد الجمهورية الإيرانية، علي خامنئي، بتصريح يتنبأ فيه بزوال إسرائيل بعد عشر سنوات لما أُخِذ تصريحه بالجدّية نفسها في حال خرج أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في اليوم نفسه مُهدّداً باستهداف مفاعل ديمونا في صحراء النقب، فما للبروباغندا يَظلّ لها، وما للسياسة ووسائل إنفاذها فليس لها وحسب، ولا يقتصر عليها، بل يشمل الفاعلين فيها، وهم يُميّزون بين ما هو حقيقي يستدعي التحسّب والاستعداد وما يتعلّق بالحسابات الداخلية أو التوازنات الحزبية، وهو ما لا يُوجب الاستعدادَ، بل الردَّ على وسائل التواصل الاجتماعي ليس أكثر.
لم يأخذ كثيرون في العالم، وليس في إسرائيل فقط، جديد تصريحات الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، بشأن احتمال تدخّل بلاده عسكرياً ضدّ إسرائيل على محمل الجدّ، بل أُدرجَت في سياق التصريحات ذات الصلة ببناء الصورة الحزبية أو سواها، وهذا مؤسف في حقّ أردوغان نفسه، ويقضم من مصداقيته التي تضرّرت كثيراً بانقلاباته المتتالية على كلّ ما بناه في صعيد الصورة على الأقلّ، في حقبة ما بعد ثورات الربيع العربي.
لا يمكننا مقاربة أردوغان من خلال نموذج دونكيشوت، فالرجل سياسي مُفرط في براغماتيته، وليس مُنفصلاً عن الواقع عندما يتعلّق الأمرُ بمصالح بلاده “القومية” أو مستقبله السياسي، كما أنّه لا يمكننا مقاربته بنموذج هاملت أيضاً، ولكنّها مُجرّد “كلمات” في نهاية المطاف ما يصدر عنه بشأن إسرائيل، فهو لن يطلق رصاصة واحدة عليها اليوم أو غداً، إلّا إذا دارت حربه في مواقع التواصل الاجتماعي، وبهدف ترميم صورته، التي تضرّرت كثيراً بسبب انعطافاته، وآخرها مهين مثل أن يمدّ يده إلى الرئيس السوري بشّار الأسد فلا يستجيب الأخير، بلّ يُصعِّد شروطه.
وللأسف! إنّ حرباً كلامية مع إسرائيل محسومة لصالحها مُسبقاً، فالتلويح بالتدخّل العسكري ضدّها، حتّى لو كان مشروطاً ومُجرّد احتمال، يُعزّز من روايتها الزائفة بأنّها ضحيّة ومُستهدَفة، ومُضطرة بالتالي إلى الدفاع عن نفسها حتّى لو تعدّدت الجبهات، وماذا تريد إسرائيل أكثر من هذا بعد انكشاف زيف روايتها لدى قطاع يتوسّع من الرأي العام العالمي؟ كما أنّ من شأن حربٍ وقودها الكلام، الذي يُلقى على عواهنه، الإضرار بالمقاومة الغزّية في الأرض وعلى طاولة المفاوضات، في وقت تحتاج فيه إلى إسناد حقيقي، واقعي، وفي الأرض، ويُشهد لها أنّها مُحصّنة إلى حدّ كبير من “فيروس” التعويل على محيط عربي أو إسلامي تعرف أن أفضل ما يفعله لمصلحتها ألّا يُشارك إسرائيل في حرب الإبادة ضدّها.
في أعقاب خسارة حزب العدالة والتنمية مدناً كُبرى في آخر انتخابات بلدية (نهاية مارس/ آذار 2024)، اكتشف الرئيس أردوغان على ما يبدو أهمّية الأوراق التي صنعت أسطورته داخلياً وفي الإقليم، وأهدرها لأسباب تكتيكية لا استراتيجية، ومنها تبنّيه المقاومة الفلسطينية وثورات الربيع العربي، وأنّ الانحناء، بل المبالغة فيه أمام التيّار الذي نشأ وتصلّب بعد فشل ثورات الربيع العربي، جعله عرضة للخسارة داخلياً، ولفقدان المصداقية خارجياً، لكنّ محاولته استدراك ذلك تأرجحت بين التبنّي الضمني لبرامج المُعارَضة الداخلية، كما في ملفّ السوريين، وبين تذكّر ورقة غزّة، بعد فتور مُستهجن إزاءها ساهم في انفضاض كثيرين من الناخبين عنه. وفي الحالين، لم يكن أردوغان هو نفسه، ولم تكن مقاربته للحلّ شاملة ومُنسجمة ومتّسقة، بل من خلال تسويات صغيرة، بعضها انتهازي ويتناقض مع مشروعه الذي طرحه وتبنّاه، وصنع أسطورتَه في المنطقة، ومنحه دوراً مركزيّاً فيها.
وأيّاً يكن الأمر، لن يستعيد أردوغان ما فقده باللجوء إلى الأدوات القديمة نفسها، وإعادة إنتاج الظاهرة الصوتية ذاتها بالمزيد من “الكلمات”، التي لا تشبه توهّمات دونكيشوت بالتأكيد، لكنّها لا ترقى إلى تأمّلات هاملت بلا أدنى شك.
لا تسعى هذه المقالة إلى السخرية هنا، بل للتأشير إلى ضرورة ترشيد الخطاب وعقلنته بما يضمن استعادة الدور التركي المأمول في محيطها، فتخبّط أردوغان في الأعوام القليلة الماضية أخرج تركيا من المعادلة في بعض ملفّات المنطقة الكُبرى، مثل حرب الإبادة على غزّة، ولا يُستعاد هذا الدور بمزيد من التصريحات، بل بمزيد من العمل والانخراط في التفاصيل، حتّى لو جلبت على تركيا اللوم، وربما كلّفتها بعض الخسائر مرحلياً وجزئياً.