رغم أن الانتكاسات العسكرية الأخيرة قد غذت الحديث الإيراني عن احتمال حدوث اختراق نووي محتمل، إلا أن عدم اليقين بشأن مخاطر التسلح وتكاليفه وفوائده قد يمنح الولايات المتحدة نفوذًا قوياً يُمكنها من ضمان استمرار طهران في اتباع سياسة التحوط النووي.
مع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تواجه إيران فترة من التحديات الهائلة، بما في ذلك عودة محتملة لسياسة “الضغوط القصوى” التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أيران في السابق. تأتي هذه الفترة عقب سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية التي أضعفت قدرات الردع الإيرانية، بما في ذلك الضربة التي شنتها إسرائيل في 26 تشرين الأول/أكتوبر، والتي أدت إلى تحييد دفاعاتها الجوية الاستراتيجية وقدرتها على إنتاج صواريخ باليستية تعمل بالوقود الصلب، مما جعلها أكثر عرضة للهجمات المستقبلية وأضعف قدرتها على تجديد مخزونها من الصواريخ المستنفذة جزئياً. في المقابل، حثّ بعض المسؤولين الإيرانيين النظام على تعزيز قوة الردع من خلال إنتاج أسلحة نووية، مما أثار مخاوف من احتمال تخلي إيران قريباً عن استراتيجية التحوط النووي.
التقدم ببطيء نحو تجاوز العتبة النووية
خلال فصلي الربيع والصيف الماضيين، حذر العديد من المسؤولين الإيرانيين من أن تفاقم بيئة التهديد قد يدفع النظام إلى إعادة النظر في عقيدته النووية. وفي الوقت نفسه، صرحت “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” أن طهران بدأت بتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة في منشآت تخصيب اليورانيوم في موقعي “فوردو” و”نطنز”. وبالتوازي مع ذلك، صرح مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون للصحفيين أن إيران انخرطت في أبحاث متقدمة تشمل المعادن، والنمذجة الحاسوبية، والمتفجرات، التي يُعتقد أنها مرتبطة بتطوير الأسلحة النووية. وقد أكد تقييم استخباراتي أمريكي صدر في تموز/يوليو أن إيران “نفذت أنشطة تجعلها في وضع أفضل لإنتاج جهاز نووي، إذا قررت ذلك”. وبالتالي، لم يكن مفاجئاً أن تستهدف الضربة الإسرائيلية في 26 تشرين الأول/أكتوبر منشأة بالقرب من طهران، يُعتقد أنها تشارك في أنشطة التسلح هذه.
وفي الوقت نفسه، تبنى النظام الإيراني مقاربة أكثر جرأة وتقبلاً للمخاطر تجاه إسرائيل، معتقدًا أن الدولة اليهودية أصبحت أضعف تدريجيًا بسبب حرب غزة، وما رافقها من توترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بالإضافة إلى تنامى القوة الصاروخية الإيرانية المتطورة. كذلك، كان النظام الإيراني مقتنعًا بضرورة الرد بحزم على مختلف التحركات الإسرائيلية، بما في ذلك الضربات التي استهدفت شخصيات إيرانية بارزة ووكلاء إيران في دمشق وطهران وبيروت. وانطلاقاً من ذلك، نفذت إيران هجمات صاروخية مكثفة ضد إسرائيل في 13 نيسان/أبريل وفى الأول من تشرين الأول/أكتوبر. وقد تبشر هذه التحركات بتبني طهران سياسة أكثر جرأة فيما يتعلق بتطوير الأسلحة النووية، ما لم تعتمد الولايات المتحدة وشركاؤها سياسة أكثر حزمًا وصرامة في الأشهر المقبلة.
حسابات إيران في مجال الانتشار النووي
أوقفت طهران معظم أنشطتها السرية المتعلقة بالأسلحة النووية في عام 2003، بعد أن كشفت جماعة معارضة عن تفاصيل البرنامج. ومنذ ذلك الحين، تبنت إيران استراتيجية تحوطية تهدف إلى الحفاظ على خيار امتلاك السلاح النووي، نظراً لأن مخاطر وتكاليف السعي لتحقيق هذا الهدف – بما في ذلك العزلة الدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية، والضربات العسكرية، وربما سباق تسلح نووي إقليمي – تعتبرها طهران مخاطر غير مقبولة. ظلّت طهران توازن في حساباتها النووية بين مجموعة واسعة من العوامل، حيث وفرت استراتيجية التحوط فوائد عدة تمكّنها من الحصول على القنبلة النووية دون مواجهة مخاطر أو تكبد تكاليف الباهظة.
ومنذ ذلك الحين، تبددت بعض المخاوف التي دفعت إيران إلى اتباع استراتيجية التحوط، بينما لا تزال هناك مخاوف أخرى قائمة بقوة. على سبيل المثال، أصبح عزل طهران اليوم أكثر صعوبة مما كان عليه في الماضي، حيث عزز النظام علاقاته مع روسيا والصين. بينما قام العديد من شركاء الولايات المتحدة بالتحوط من خلال التواصل مع طهران. بينما قام العديد من حلفاء الولايات المتحدة بتقليل مخاطرهم من خلال التواصل مع طهران. ومع ذلك، لا تزال إيران عرضة للعقوبات – فقد أشار الرئيس مسعود بيزشكيان إلى أن تخفيف العقوبات لا يزال أولوية، في حين أن المرشد الأعلى علي خامنئي سيدعم على الأرجح مثل هذه الجهود إذا لم تضطر إيران إلى دفع ثمن باهظ للغاية.
وعلاوة على ذلك، أصبح احتمال التهديد بالقيام بعمل عسكري أعلى من أي وقت مضى. فقد حلّقت الطائرات الإسرائيلية فوق إيران في 26 تشرين الأول/أكتوبر دون أن تواجه أي ردع، وتمكنت من استهداف مواقع محددة بدقة لإلحاق أكبر ضرر ممكن بقدرات النظام على إنتاج الصواريخ الباليستية، وذلك في عملية جرت بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة. وبالفعل، نجحت الاستخبارات الإسرائيلية مرارًا وتكرارًا في اختراق أنشطة إيران الأكثر حساسية، مما يتيح لطهران أن تفترض بشكل منطقي أنه إذا حاولت القيام بتجاوز العتبة النووية في الوقت الراهن، فمن المرجح أن تكون إسرائيل على علم بذلك. كما قد تدعم إدارة بايدن المنتهية ولايتها الضربة لإحباط هذا الاختراق، إن لم تشارك فيه فعليًا. وينطبق هذا من باب أولى على إدارة ترامب القادمة.
وبالإضافة إلى ذلك، قد تحتاج إيران إلى عدة أسابيع أو أشهر لتصنيع سلاح نووي عملي، مما يمنح أعداءها الوقت الكافي للتحرك. ويشير الاستخدام الأخير لقاذفات “بي-2” لضرب منشآت تخزين الطائرات بدون طيار والصواريخ الحوثية المدفونة في اليمن إلى أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى استخدام هذه الطائرة ضد إيران إذا ما رأت أن ضربة عسكرية ضد برنامجها النووي أمر ضروري. تُعد طائرة “بي-2” الوحيدة المصرح لها بإسقاط القنبلة (GBU-57) التي تزن 30,000 رطل، وهي ذخيرة ضخمة مصممة لاختراق التحصينات العميقة. كما أنها السلاح التقليدي الوحيد القادر على الوصول إلى منشأة التخصيب الإيرانية المتواجدة تحت الأرض في “فوردو”.
حدود امتلاك قوة نووية
يتعين على طهران أن تدرس بعناية ما إذا كانت فوائد امتلاك القنبلة النووية تبرر المخاطر المرتبطة بها. وقد تطرق المرشد الأعلى علي خامنئي لهذا الموضوع في عدة مناسبات، إما لتبرير اعتماد سياسة التحوط النووي بعد عام 2003، أو ربما نتيجة تطور حقيقي في طريقة تفكيره. فقد ذكر على سبيل المثال أن المجاهدين الأفغان هزموا الاتحاد السوفيتي وأن إيران أحبطت مساعي الولايات المتحدة في العراق وسوريا، على الرغم من امتلاك القوتين العظميين للأسلحة النووية. كما لفت خامنئي الانتباه إلى أن الأسلحة النووية لم تمنع سقوط الاتحاد السوفيتي. وفي المقابل، لا توجد دلائل على أن خامنئي يعتبر امتلاك الأسلحة النووية ضرورة لبقاء الجمهورية الإسلامية. ولو كان ذلك هو اعتقاده، لما وافق على تعليق البرنامج النووي أو تفكيكه في مرات عديدة، سواء لتجنب العزلة الدبلوماسية أو للحصول على تخفيف للعقوبات الاقتصادية.
علاوة على ذلك، لم تتمكن إيران من حماية علمائها النوويين البارزين من فرق الاغتيال الإسرائيلية، أو أهم منشآتها النووية من المخربين الإسرائيليين، أو أرشيفها النووي من السرقة من قبل عملاء إسرائيليين. وإلى أن يقوم النظام بحل هذه المشكلة – علما بأن الأحداث الأخيرة لا تبعث على الثقة في هذا الصدد – قد لا يرغب النظام في إنتاج أسلحة نووية قد تكون عرضة للتخريب أو التحويل من قبل عملاء أجانب أو إرهابيين محليين.
ولكن في الوقت الراهن، يبدو أن السبب الأهم الذي يدفع طهران إلى تجنب السعي نحو امتلاك السلاح النووي هو ضعف قدراتها العسكرية التقليدية. وهذا يضعها أمام تحد معقد، فعلى الرغم من أن الأسلحة النووية قد تساهم في تعويض هذا الضعف، إلا أن أسوأ توقيت تتوجه فيه طهران نحو تطوير القنبلة هو عندما تكون قدرتها على الردع أو الرد على أي ضربة محتملة ضد برنامجها النووي في أدنى مستوياتها.
الحفاظ على سياسة التحوط
مع تزايد التحول التدريجي نحو مقاربة أكثر مغامرة تجاه إسرائيل، ربما تكون إيران قد وصلت إلى منعطف حاسم. لذلك يجب على واشنطن أن تبذل قصارى جهدها لإحباط هذا التحول الخطير ومنعه من أن يصبح واقعاً دائماً، وتحفيز طهران على مواصلة اتباع سياسة التحوط. وعلى الرغم من أن إيران المتحوطة حاليا تشكل خيارا غير مرغوب فيه، إلا أنه أقل خطورة مقارنةً بإيران النووية. كما تمثل استراتيجية التحوط خياراً أكثر حكمة مقارنةً بضربة وقائية كبيرة على المواقع النووية الإيرانية، والتي من المرجح أن توفر مهلة مؤقتة لا تتجاوز سنة أو سنتين فقط قبل أن يعاد بناء البرنامج النووي الإيراني مرة أخرى، مما يؤدي إلى تكرار سيناريو الهجوم لاحقاً. وكما فشلت عملية “جز العشب” في نهاية المطاف في غزة، قد تفشل هذه الاستراتيجية في إيران أيضاً. ومن شأن القيام بضربة وقائية ضد إيران أن تزيد من قناعتها بأن بناء القنبلة النووية بات ضرورياً وحتمياً.
وفي مواجهة احتمال تولى ترامب ولاية ثانية، قد تسعى إيران لتسريع إنتاج أجهزة الطرد المركزي المتقدمة والمواد الانشطارية، بهدف تعزيز موقفها التفاوضي مع واشنطن أو تسريع قدرتها على تجاوز العتبة النووية، لا سيما إذا تصاعدت التوترات بشكل أكبر. بل وربما ترى إيران أن الفترة التي تسبق يوم التنصيب تمثل فرصة مثالية لاتخاذ خطوات أولية نحو الاختراق النووي، مما يمكنها من التفاوض مع الإدارة الجديدة انطلاقاً من موقع قوة. وقد تشمل هذه التحركات إخفاء المواد الانشطارية في مواقع غير معلنة أو بناء منشآت تخصيب سرية.
ولمواجهة هذه المخاطر، أمام القادة الأمريكيين عدة خيارات. أولاً، ينبغي على الإدارة الأمريكية المقبلة التأكيد على أنها لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية، على غرار الإدارات السابقة. ثانياً، بالتعاون مع إسرائيل وشركاء آخرين، ينبغي على الولايات المتحدة اتخاذ الخطوات التالية لردع طهران عن الحصول على القنبلة النووية وإبقائها متحوطة لأطول فترة ممكنة:
• توطيد التعاون الوثيق مع إسرائيل وحلفاء آخرين لتوجيه رسالة واضحة لإيران مفادها أنها تواجه تحالفاً دولياً واسع النطاق.
• العمل على حشد دعم مجموعة واسعة من الحلفاء الدوليين وتحفيزهم على المشاركة في حملة ضغط قصوى ضد إيران إذا ما قامت بتخصيب اليورانيوم بنسبة تتجاوز المستويات الحالية (60 في المئة) أو حاولت بطريقة أخرى تجاوز العتبة النووية.
• تكثيف استخدام قاذفات القنابل الشبح من طراز B-2 في التدريبات والعمليات الإقليمية كإشارة واضحة بأن واشنطن قد تستخدم هذه المنصة إذا حاولت إيران اختراق العتبة النووية.
• نشر مركبة “دارك إيجل” الانزلاقية الجديدة بعيدة المدى التي تفوق سرعة الصوت التابعة للجيش الأمريكي في المنطقة لإبراز القدرة على إمكانية استهداف القيادة الإيرانية إذا أمرت باختراق نووي، حيث قد تكون بعض الأهداف النووية غير قابلة للوصول المباشر.
• إظهار القدرة المستمرة على اختراق برنامج طهران النووي بالوسائل الإلكترونية وغيرها من الوسائل لإظهار أن أي أسلحة نووية ستكون عرضة للتخريب والتحويل عن مسارها، وبالتالي يمكن أن تشكل خطراً على النظام.
• إطلاق حملة تأثير في وسائل التواصل الاجتماعي باللغة الفارسية للتشكيك في جدوى الأسلحة النووية والتأكيد على المخاطر التي يمكن أن تشكلها على إيران في حال التخريب أو تحويل مسارها أو ما قد ينتج عن ذلك من انتشار نووي إقليمي.
بالنظر إلى المخاوف التاريخية لطهران بشأن المخاطر والتكاليف المحتملة المرتبطة بالسعي لامتلاك القنبلة النووية، فإن التغيرات السياسية الطفيفة نسبياً التي تستغل نزعة خامنئي التقليدية لتجنب المخاطر وميله للارتياب، قد تكون كافية لثني النظام عن محاولة تخطى العتبة النووية. ومن المؤكد أن هذه المخاوف قد تعززت بعد قيام إسرائيل مؤخراً بتصفية القيادة العليا لـ “حزب الله”.
وختاماً، ولمنع مقاربة طهران الأكثر تقبلاً للمخاطر من أن تصبح الوضع الطبيعي الجديد، يتعين على واشنطن أن تشجع إسرائيل على الرد على أي هجمات مستقبلية من خلال ضربات انتقامية مدروسة ومحسوبة، وهو من شأنه أن يضعف القدرات العسكرية التقليدية لإيران. في الوقت عينه، من شأن التهديد باتخاذ إجراءات مثل استهداف المواقع النووية وقادة النظام أن يؤدى الى ردع أي محاولة لإيران لاختراق العتبة النووية. وبهذه المقاربة، تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها تقليل التهديد التقليدي وتجنب قيام إيران بأي اختراق نووي، وربما تمهد الطريق للتوصل لاتفاق شامل مع إيران بعد أن تتولي إدارة ترامب مهامها في كانون الثاني/يناير.