رسمت الأحداث التي اعقبت سقوط نظام بشار الأسد العديد من المعطيات التي كان لها الأثر البالغ في فهم حالة التشابك السياسي والمنطعف الميداني على الاراضي السورية، بحكم طبيعة القوى الدولية والإقليمية وحلفائها التي تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري وأمني في معظم المدن السورية فرضته الوقائع والمواجهات العسكرية التي انطلقت منذ بدأ بواكير الثورة السورية في 15 آذار 2011 وما تلاها من أحداث جسيمة ودامية ذهب ضحيتها نصف مليون مواطن سوري وتقسيم البلاد إلى عدة مقاطعات هيمنت على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيها.
ومع شرارة الانطلاقة الميدانية لمقاتلي المعارضة السورية في 27 تشرين ثاني 2024 والتي مثلت الانطلاقة الثانية في رفض حالة التعسف والاضطهاد التي عانى منها أبناء الشعب السوري والتي انتهت بدخول العاصمة ( دمشق) واعلان سقوط النظام السوري وبداية صفحة جديدة من تاريخ سوريا السياسي المعاصر،
أعلنت قوى المعارضة وقياداتها عبر هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها أهدافها في الحفاظ على وحدة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وحريته الشخصية والتمسك بثوابت المواطنة السورية في تعزيز دور القوميات والأقليات والطوائف في المجتمع وحفظ حقوقها وادامة تماسك النسيج الاجتماعي الذي يعزز مبدأ المشاركة الفعلية في حماية البلاد والدفاع عنها بعد الجهد الكبير والتضحيات الجسام لأبناء سوريا واسقاطهم لنظامها المستبد.
ورغم جميع المواقف التي أطلقها قادة المعارضة، إلا أن هناك من حاول استغلال الأوضاع القائمة وانتهاز الفرص السياسية في توسيع رقعة تواجد قواته العسكرية في الميدان السوري وعبر المقاطعات التي أنشأت بعد الأحداث التي تلت آذار 2011، ومن أهم المناطق التي حدثت فيها عمليات تشابك ومواجهات قتالية هو القاطع العسكري في مدينتي ( منبج وتل رفعت) والتي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وبعد أيام من سقوط النظام، حيث تحركت قوة قتالية من فصائل الجيش السوري الحر المدعوم من السلطات التركية وباسناد جوي ومدفعي واشتبكت مع مقاتلي (قسد) التي تتلقى الدعم الكامل من الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبرها حليفها العسكري في مواجهة مقاتلي داعش على الأرض السورية، وأدت الأحداث الي مقتل ما يقارب (100) شخص من الطرفين إلى أن تدخلت القوات الامريكية وطلبت من قوات سوريا الديمقراطية الانسحاب من مدينة منبج وتسليمها لمقاتلي الجيش الحر.
هذا التطور الميداني قال عنه القائد العسكري في (قسد) ملزوم كوباني أنه يعني تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عنهم وانتقد موقفها كونها اجبرت قواته على ترك مدينة (منبج) والانسحاب منها دون تقديم أي دعم وإسناد لهم كما كانت تفعل في المواجهات السابقة، كما أنها عملت على إنذار ( قسد) بمغادرة منطقة كوباني .
انعكس الموقف الميداني على تصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية ( مظلوم عبدي) في 11كانون الأول 2024 والتي ابدى فيها امتعاضه من الموقف الأمريكي وأوضح أن انسحاب قواته أدت إلى نقل المعتقلين من مقاتلي ( داعش) إلى أماكن أخرى لأنها تعرضت للتهديد وإمكانية اقتحامها وهي المسؤولة الميدانية عنهم، وأن هناك المزيد من التهديدات من قبل الجيش الوطني الحر باقتحام السجون في مناطق ( الحسكة والرقة) والسيطرة الميدانية عليها.
أن انسحاب قوات (قسد) من مدينة منبج يوم 11 آذار 2024 بعد الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والجماعات المدعومة من الأتراك، قد جعل التوازنات العسكرية تهتز في الصحراء السورية كونها أدت إلى تعاظم دور مقاتلي (داعش) وإعادة هيكلية تنظيماتهم وتموضع مقاتليهم في الأماكن والمواقع المنتشرة في صحراء البادية واستغلال انسحاب مقاتلي (قسد) لاحداث خروقات أمنية والتعرض عليهم وإمكانية توسيع دائرة انتشارهم.
وأمام هذه المعطيات كان الموقف الشعبي للعشائر العربية في مناطق دير الزور والرقة و الحسكة برفض التواجد العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، وانطلقت تظاهرات من أبناء العشائر في 11 كانون الأول 2024 مطالبة بطرد مقاتلي (قسد)، كما أعلن مجلس دير الزور العسكري انشقاقه من قيادة قوات سوريا والذي جميع مقاتليه من العرب الساكنين المنطقة، وتمكنت هذه القوات من السيطرة على المطار العسكري ومطار دير الزور ورفع العلم السوري للفصائل المسلحة.
أن المواجهات التي جرت في الشمال والشمال الشرقي من القطر السوري ومناطق شرق الفرات وقرب الحدود العراقية أحدثت تغيرًا عسكريًا ميدانيًا واضحًا وانعكس بشكل كبير على الدعم الذي توليه القوات الأميركية لقسد، ولكن الثابت في المصالح والأهداف الأمريكية أنها من الممكن لها أن تتخلى عن أصدقائها وحلفائها اذا ما شكلوا عبئًا عليها، خاصة وان موقف الإدارة الأمريكية من التحولات السياسية والمتغيرات الميدانية على الأرض السورية يدعو إلى التهدئة ومتابعة طبيعة توجهات المعارضة السورية وإمكانية النظر في التعامل مع الوقائع اذا ما اقترنت الأقوال بالأفعال، ونرى أن العلاقة التي تربط الإدارة الأمريكية بالقيادة التركية هي علاقة استراتيجية، وأن واشنطن ترى في أنقرة عضوًا بارزًا ومهمًا في الحلف الأطلسي، فلا يمكن لها أن تضحي بعلاقة مع حليف من أجل قوة أو تيار من الممكن أن تتغير معايير التعامل معه حسب الظروف المحيطة به، وبالتالي فإننا نرى أن القادم من الايام سيشهد سيطرة وتدخل تركي ميداني بموافقة ومساندة من الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة النفوذ الروسي وإضعاف تأثيره على الساحة السورية بعد أن تلاشى بشكل واضح المشروع الإيراني و برنامجه السياسي في التمدد والنفوذ.
وهذا ما يعني أن المنفعة الأمريكية ستجعل قواتها العسكرية في شرق الفرات بين مطرقة الشراكة الفعلية مع قوات سوريا الديمقراطية وسندان العلاقة الاستراتيجية مع تركيا، بعد أن أصبح المتغير السياسي الميداني لصالح الأتراك بسيطرة حلفائهم على منطقة (منبج)، وادراك الإدارة الأمريكية ان نقطة الاتصال مع هيئة تحرير الشام تتم عن حليفتها الرئيسية ( تركيا).
أن الخطورة الامنية التي من الممكن حدوثها في هذه المناطق هي ما تتمتع به (قسد) من أهمية عسكرية ذات طابع أمني بوجود عدد كبير من مقاتلي داعش وعوائلهم في سجونها، حيث أنها تدير (20) معسكر احتجاز ومخيم لهم، وفي حالة حدوث أي خلل أمني وسيطرة فعلية لأي تيارات سياسية وفصائل مقاتلة أخرى على مناطق نفوذها فمن الممكن استخدام هذه السجون لتحقيق غايات وأهداف سياسية لتحقيق التوازنات التي تبحث عنها.
تشعر القيادة العسكرية لقوات سوريا أنها فقدت مناطق استراتيجية على الأرض وأضعفت قدرتها وامكانياتها في التأثير الفعلي الذي كانت تتمتع به قبل سقوط النظام، فالمعارضة السورية انتزعت منها منطقة ( تل رفعت) شمال مدينة حلب على الطريق الواصل بين حلب والحدود التركية، وانسحبت من منطقة (منبج) التي تشكل عقدة الوصل المهمة بين شمال سوريا وشرقها، وفقدانها لمدينة دير الزور، والآن تتجه الأنظار الي منطقة عين العرب (كوباني) وهي آخر المدن التي يستحوذ عليها إضافة لمدينة الرقة، برغم وجود عدد من الأكراد العراقيين والإيرانيين والأتراك المقاتلين في صفوفها وهذا ما يمنحها وضعًا اقليميًا مهمًا.
يرى الجانب التركي في قوات سوريا الديمقراطية أنها تمثل حركة إرهابية تهدد المصالح التركية في سوريا وساحة الأمن القومي التركي عبر العمليات والهجمات التي تقوم بها ومعها عدد من مقاتلي حزب العمال داخل المدن التركية الرئيسية مستهدف حالة الأمن والاستقرار فيها، وهذا ما تم مناقشته أثناء الزيارة الاخيرة لوزير الخارجية الأمريكي ( بلينكن) لأنقرة بعد سقوط النظام السوري وإثارة موضوع المواجهات بينها وبين فصائل الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا.
أن إيقاف النشاط الفعل لقوات سوريا الديمقراطية ضد مقاتلي داعش بسبب ما تمر به من ظروف قاهرة ومواقف صعبة بسبب انسحابها من عدة مدن بعد مواجهتها لقوات الجيش الحر وضعف الإمدادات والدعم الأمريكي لها، سيؤدي إلى تعقيد الجهود التي تقوم بها القوات الامريكية لمنع داعش من إعادة تشكيل نفسها، وهذا ما دفع قيادة الجيش الأمريكي للقيام ب (75) طلعة جوية استهدفت مواقع ومرات داعش في البادية السورية.
أن زيارة القائد الأمريكي للمنطقة الوسطى وتفقده لقطعاته العسكرية في شرق الفرات، إنما هي محاولة أمريكية لهندسة الأوضاع الميدانية وترتيبها حسب مقتضيات الأهداف الاستراتيجية الامريكية وإعداد الملفات الأمنية لمحاربة داعش في البادية السورية وعند الحدود العراقية السورية، ومحاولة مد جسور العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة الانتقالية المعينة من قبل المعارضة السورية في دمشق.
أن الساحة السورية وتحديدًا منطقة شرق الفرات و أماكن تواجد مقاتلي (قسد) تواجه المزيد من المخاطر الأمنية وستكون في أعلى درجاتها إذا عاودت الفصائل المسلحة المدعومة من الأتراك قتالها مع ( قسد)،وقد تُستغل هذه الأحداث لتحقيق غايات وأهداف لتحركات إقليمية تقوم بها إيران واجهزتها الاستخبارية والعسكرية بعد أن فقدت مواقعها ومرتكزات مشروعها السياسي والأمني على الساحة السورية، وقد يكون الحليف القادم لإيران قيادة قوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما يمكن أن يحدث ونرى أثاره في الميدان السوري.
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية