اياد العناز
تحاول القيادة الإيرانية تسريع عملية البحث عن أدوات لرفع العقوبات الدولية عنها والعودة لتأثيرها الإقليمي وللسوق العالمية للطاقة وتصدير النفط والغاز وإطلاق الأموال المجمدة والتواجد بإيجابية في منظمة الدول المصدرة النفط ( أوبك)، وهي تعلم جيدًا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا باتباع وسائل وطرق جديدة في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية ومعاينة المتغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط ووتائر الأحداث الميدانية التي بدأت تأخذ مدياتها الواضحة ومعالمها الدقيقة بعد الاتفاق الاخير الذي تم في شرم الشيخ بإيقاف القتال والمواجهات بين حركة حماس والقوات الإسرائيلية وبما عُرف باتفاق وقف ( إطلاق النار في قطاع غزة)، عبر الاجتماع الدولي الواسع الذي عقد بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعديد من ملوك ورؤوساء الدول والحكومات العربية والإسلامية والاوربية.
أن العالم يتجه نحو سياسة ( المحيط المتحرك) الذي تتفاعل فيه المصالح العليا والأهداف الاستراتيجية لدول العالم في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي والتي تعتبر من أهم المناطق في العالم كونها الممر الرئيسي لطرق التجارة الدولية والمورد الاقتصادي الكبير للطاقة العالمية وتشكل القاسم المشترك في كيفية التعامل الميداني بضرورة إنهاء الصراعات والنزاعات فيها، والسعي لمعالجة جميع التوترات القائمة عبر اعداد الخطط والبرامج التي تراعي فيها حركة وسياق وتوجيهات الدول الإقليمية والدولية.
فإيران وعبر القرار الأممي الاخير بإعادة تفعيل العقوبات الدولية عليها بعد القرار الأوربي الذي تقدمت به دول الترويكا ( بريطانيا وفرنسا وألمانيا) بعدم التزام طهران بنود اتفاقية العمل الشاملة المشتركة الموقعة في تموز 2015، وابتعادها عن التجاوب مع المبادرة الأوربية التي اشترطت تأجيل فرض العقوبات لمدة ستة أشهر بالعودة للمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية والسماح لفرق التفتيش الدولي التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفيذ مهامها بالمراقبة والمتابعة وزيارة المواقع والاماكن ذات الأنشطة النووية والإجابة على جميع التساؤلات التي تقدمها الوكالة الدولية بخصوص أماكن تواجد (400 كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ والذي لا زالت إيران تحاول ادعاء عدم إمكانية التوصل إليه بعد الضربات الأميركية الإسرائيلية التي تمت في الثالث عشر من حزيران 2025 واصابات منشأت ( نطنز وفوردو وأصفهان)، وأضافت واشنطن شرطًا أخرًا بضرورة إيقاف برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والدعم العسكري والأمني الذي تقدمه إيران لجميع وكلائها وحلفائها من المليشيات والفصائل المسلحة المرتبطة بقيادات الحرس الثوري والمتواجدة في الميدان ( اليمني واللبناني والعراقي).
أن الشروع بالعودة للمفاوضات مع الإدارة الأميركية يكسب إيران دورًا محوريًا ويجعلها ضمن الأدوار المرسومة للشرق الأوسط والتي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في كلمته التي ألقاها في الكنيست الإسرائيلي وشرم الشيخ أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة وحضور توقيع اتفاقية وقف الحرب في غزة في الثالث عشر من تشرين الأول 2025، عندما أشار إلى (أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لإبرام اتفاق مع إيران حينما تكون مستعدة لذلك وأنه أفضل قرار يمكن أن تتخذه إيران)، وهي الدعوة التي سبق وأن كررها في عدة لقاءات مماثلة غي البيت الأبيض وخلال لقاءاته مع ممثلي الدول العربية والاوربية، ولكن في كلمته داخل الكنيست كان أكثر وضوحًا واصرارًا على دعوة طهران بقوله ( أن واشنطن تمد يد الصداقة والتعاون، وأخبركم بأن إيران تريد إبرام اتفاق وإذا ما تمكنا من التوصل إليه فسيكون الأمر رائعًا).
ولكن المسؤولين الإيرانيين رفضوا المبادرة الأمريكية عبر بيان وزارة الخارجية الإيرانية في الرابع عشر من تشرين الأول 2025 الذي رأى ( أن رغبة الرئيس الأميركي المعلنة في السلام والحوار تتعارض مع سلوك واشنطن العدائي والإجرامي ضد الشعب الإيراني)، ورغم الرد الإيراني إلا أن هناك من يرى من أركان النظام الإيراني أن العودة للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيجاد خطط متواصلة لرفع المعاناة عن الإيرانيين ومعالجة الأزمات والإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، هو الاتجاه والقرار السليم والذي يمثله التيار الإصلاحي الذي رفع شعار ( التفاوض المباشر مع واشنطن هو السبيل لإنقاذ البلاد)، ويمكن قراءة حديث الرئيس الإيراني مسعود خلال زيارته إلى محافظة أصفهان في السادس عشر من تشرين الأول 2025، ضمن هذا المسار عندما تحدث بالقول (أن إيران تنام على الذهب لكنها جائعة) في إشارة إلى الثروات الطبيعية الكبيرة التي تمتلكها إيران ولم يتم استثمارها بشكل فعال لصالح المواطنين، ثم ما أوضحه باشارته الدقيقة
(نحن المقصرون وليست الولايات المتحدة، نحن المديرون والمسؤولون والمشرعون الذين يجب أن نتحمل مسؤولية الواقع الراهن، وإن المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي تواجهها البلاد ليست نتيجة العقوبات أو السياسات الأمريكية، بل ناجمة عن سوء الإدارة الداخلية وانعدام التنسيق بين مؤسسات الدولة).
بينما يرى المحافظون أن أي حوار مع واشنطن ليس سوى ( فخ يعيد إنتاج الأمر والعدوان)، وهذه المواقف المتباينة تعبر بوضوح عن الجدل الذي تعيشه الأوساط السياسية الإيرانية وما تقوم به إدارة الرئيس ترامب من خطوات وما ستؤول إليه نتائج القرار الإيراني الاخير بعدم قبول دعوة إيران للتفاوض، فالبعض يراها ضياع لفرصة سياسية ذهبية تعيد فيها إيران علاقتها الدولية وترفع عنها عزلتها السياسية وتشكل مرحلة متقدمة في رفع العقوبات الدولية ومنع أي تطورات ميدانية قد تفضي إلى إعطاء مبررات اةلضربة عسكرية جديدة قادمة تستهدف الأماكن والمواقع العسكرية والأمنية والمنشأت النووية والبنى التحتية لبرنامج الصواريخ الاستراتيجية وقواعد الإطلاق ومخازن الأسلحة والذخائر والمعدات الحديثة محطات الكهرباء وشبكات المياه، مما يشكل تداعيات سلبية تزيد من زخم الأزمات الاقتصادية التي تحاول طهران إيجاد مفاعل للتغلب عليها، وهو الموقف الذي تكلم عنه بشكل واسع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في زيارته لمدينة أصفهان بالقول (ما يقلقني بشدة هو تصاعد الخلافات الداخلية، وإثارة الانقسامات الزائفة، وتبادل الاتهامات وتشويه صورة بعضنا البعض وأنا لا أخاف من أمريكا ولا من إسرائيل، بل أخاف من الخلاف والانقسام الداخلي، إذا بقينا متحدين ومتكاتفين، فسنتغلب على جميع التحديات والمشكلات).
ولكن القيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري الإيراني التي لا زالت على قوائم العقوبات الأميركية بسبب دورها ونفوذها في الإقليم واتهامها بالإرهاب، ترى أن استخدام الوسائل السياسية والخطابات الرسمية الأمريكية غايتها التأثير على نفسية المواطن الإيراني واثارته ودفعه لممارسة الضغوط الشعبية على القيادة الإيرانية لاجبارها على التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والقبول بشروطها لمنع أي حرب قادمة التخفيف من وطأة الحصار الاقتصادي الذي أدى إلى انعدام الخدمات العامة وسوء الأحوال المعاشية وارتفاع البطالة ونسبة التضخم وانهيار العملة المحلية الإيرانية.
وأتى الموقف الرسمي الإيراني على المبادرات الأمريكية وأحاديث الرئيس دونالد ترامب التي يراها عبارة عن صفقات مالية واستثمارات اقتصادية بكلمات كتبها المرشد الأعلى علي خامنئي على منصة ( إكس) في العشرين من تشرين الأول 2025 بقوله ( الرئيس الأميركي يقول إنه رجل صفقات ويريد صفقة مع إيران، لكن الصفقة التي تفرض بالتهديد والابتزاز ليست صفقة، بل إملاء بالقوة، والشعب الإيراني لن يخضع للإملاءات، وأن الرئيس الأمريكي يفتخر بأنه قصف ودمر الصناعة النووية الإيرانية، استمروا في أحلامكم).
تبقى الرؤية الإيرانية متمسكة بثوابتها التي تمثلها عقيدتها السياسية والعسكرية بالحفاظ على بقاء النظام وديمومة مشروعها السياسي الإقليمي والتمسك ببرنامجها النووي الذي ترى فيه اداتها الفاعلة في أي تفاوض أو مناورة سياسية قادمة تشهدها طاولة الحوار السياسي والأساليب الدبلوماسية، ولكنها أن أرادت الوصول إلى غاياتها وأهدافها ورسم ملامح وجودها وتأثيراتها المستقبلية والتعامل مع ما يدور في محيطها المتحرك من أحداث، أن تسعى لاستخدام المناورة السياسية طريقًا للوصول لأهدافها
وتحقيق مصالحها وتحصين بلادها والحفاظ على مواطنيها ومنع أي فعاليه عسكرية تستهدف نظامها السياسي ووجودها.
أن اعلان إيران في الثامن عشر من تشرين الأول 2025 عبر رسالة واضحة للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن الدولي أنها لم تعد ملزمة بالقيود المفروضة على برنامجها النووي، بعد انتهاء العمل باتفاقية العمل الشاملة المشتركة في تموز 2015 وانتهاء فعالية القرار الأممي 2231، إنما تعني رسالة سياسية وتأكيد على تمسك القيادة الإيرانية بحقها في تطوير التكنلوجيا النووية بعد انتهاء المدة القانونية للقرار الاممي التي حددت بعشرة سنوات بموجب الاتفاق الموقع مع مجموعة ( 5+1) عام 2015.
أن الرسالة الإيرانية تعني شروع طهران برفع مستوى التخصيب وتوسيع منشآتها وتطوير أجهزة الطرد المركزي دون أي رقابة دولية، وهذا ما أراد قوله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في رسالته لمجلس الأمن الدولي بأن ( أي محاولة لإعادة فرض أو إنفاذ أي تدابير بموجب قرار مجلس الأمن 2231 المنتهي فترته تعتبر غير قانونية ولاغية).
فهل لإيران القدرة والامكانية للتغلب على المحيط المتحرك واقتناص الفرصة السياسية لتفكيك ازمتها، أم أنها ستخصع لأراء وافكار التيارات السياسية المتشددة التي تعرقل أي حوار قادم؟
هذا ما يمكن أن نراه في الأيام القادمة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة
