في منطقة غارقة في الفوضى، تستعد دولتان تلفهما الوحدة؛ تركيا وإسرائيل، للتصافح واستئناف العلاقات -لمختلف أنواع الأسباب.
وراء الكواليس، وبعيداً عن أنظار شعبيهما المدقِّقة، انخرطت أنقرة وتل أبيب على مدى السنتين الأخيرتين وبشكل متقطع على “تطبيع” العلاقات التي كانت قد قُطعت عندما اعترضت البحرية الإسرائيلية أسطول الحرية المتجه إلى غزة في العام 2010. وأفضى حادث السفينة، مافي مرمرة، إلى مقتل تسعة مواطنين من الأتراك، وأنهى تحالف أنقرة العسكري والاستراتيجي مع إسرائيل -والذي كان يشكل واحدة من السمات البارزة للخريطة السياسية للشرق الأوسط منذ أواسط التسعينيات.
بالقفز سريعاً إلى نهاية العام 2015، تبدو تركيا وإسرائيل، وكلاهما جارتان متوترتان ومعزولتان، على وشك التوصل إلى صفقة.
أفضت المحادثات السرية التي جرت في جنيف بين يوسي كوهين، المدير الجديد للموساد، وفيريدون سنيرليوغلو، وكيل وزارة الخارجية التركية القوي، إلى بلورة مجموعة من المبادئ التي ستشكل الأساس لاتفاق مكتوب “لتطبيع” العلاقات. وسوف يصادق البرلمانان التركي والإسرائيلي على الاتفاق.
ولكن، لماذا تبادل القبل والتصالح الآن، عندما لم تكن حتى تدخلات الرئيس أوباما شخصياً في العام 2013 (من أجل إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاعتذار عن حادثة الأسطول) كافية؟ مع أن التطبيع سيكون صعب التسويق محلياً، فإن فوائد الصفة لكلا البلدين تبدو هائلة. أولاً، هناك عنصر “العزلة” الذي يميز كلتا الدولتين. فبينما كانت تركيا ذات مرة فخورة بسياستها الخارجية “صفر مشاكل مع الجيران”، فإنها أصبحت تقف الآن على طرف نقيض مع كل جيرانها في الشرق والجنوب، بمن فيهم روسيا، والعراق، وإيران وسورية. كما أنها كانت من أشد منتقدي الانقلاب في مصر، ولم تعد تستطيع الاعتماد على نجاح الحكومات الإسلامية الصديقة في مختلف أنحاء العالم العربي.
في العام 2014، وصف أحد مستشاري أردوغان عزلة تركيا الإقليمية بأنها “وحدة ثمينة”. ولكنهم عندما واجهوا مستنقعاً على حدودها الطويل مع سورية، وتهديداً متزايداً من “داعش”، وروسيا أكثر عدوانية في أعقاب إسقاط الطائرات الحربية التركية طائرة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر)، وكياناً كردياً مزدهراً، لم يعد الأتراك يشعرون بالثقة نفسها إزاء عزلتهم. وبالعديد من الطرق، أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذئبين وحيدين يتمتعان بالشعبية محلياً، لكنها معزولان بغير ذلك. وفي منطقة يعمها الاضطراب، تشكل العودة إلى علاقة عاملة حاجة استراتيجية أساسية لكلا الزعيمين. وقد اعترف أردوغان نفسه علناً بهذا الواقع في الأسبوع الماضي، عندما قال للصحفيين في طريق عودته من السعودية “إن إسرائيل تحتاج بلداً مثل تركيا في المنطقة. وعلينا أن نعترف بأننا نحتاج إلى إسرائيل أيضاً”.
تضيف الحاجة إلى احتياطات الطاقة في شرق البحر المتوسط إلى هذه الحوافز. فمنذ انهيار العلاقات التركية الروسية، كانت أنقرة حريصة على البحث عنه مصادر بديلة للطاقة، من أجل تقليل اعتماديتها على الغاز الروسي. ويقدم حقل الغاز الإسرائيلي المكتشف حديثاً في البحر المتوسط نفسه كبديل طبيعي -ولو أنه أصغر بكثير- للغاز الروسي. ومن المتوقع أن يفي هذا الحقل بمعظم حاجة إسرائيل المحلية من الغاز على مدى السنوات القليلة المقبلة، وأن يتم تصدير البقية. وقد أصبحت الشركات التركية تصطف مسبقاً على طلب ذلك الغاز، مع عودة الحديث عن مد أنبوب للغاز في شرق المتوسط -وهو التصور الخيالي القائم في العلاقات التركية الإسرائيلية منذ التسعينيات- والذي يجلب الغاز إلى السوق التركية.
وفقاً لمسؤولين أتراكاً وإسرائيليين رفيعين، فإن الصفقة ستشمل استعادة كاملة للروابط الدبلوماسية بين البلدين، وعودة السفراء بعد جمود استمر خمس سنوات. وسوف تدفع إسرائيل تعويضات (في حدود 21 مليون دولار) لعائلات ناشطي مافي مرمرة المقتولين، في مقابل سحب تركيا دعاواها القضائية ضد المسؤولين الإسرائيليين.
ولكن، بعد سنوات من الخطابة النارية، سيكون على كل من الرئيس التركي أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن يسوق هذه الصفقة على شعبيهما المنطويين على مشاعر العداء على حد سواء.
لحسن الحظ، هناك ما يكفي في الصفقة مما يمكن أن تتعلق به الحكومتان. فعلى سبيل المثال، يقول المسؤولون الإسرائيليون إن أنقرة وافقت على تقييد نشاطات حركة حماس داخل تركيا، وبشكل خاص، التأكد من أن مغادرة المسؤول الرفيع في الجناح العسكري لحركة حماس، صالح العاروري، لأراضي تركيا.
وبالنسبة للحكومة التركية من الناحية الأخرى، يمكن أن يفضي تخفيف جزئي للحصار على غزة، بالقدر الذي يتعلق بالسلع والخدمات التركية، أن يخفف بعض الانتقادات من الدوائر الإسلامية في داخل حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك “مؤسسة الإغاثة الإنسانية” التي قادت أسطول حرية غزة، وإقناع هذه المؤسسة بسحب دعاواها ضد المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في الغارة على مافي مرمرة. ولم تتحدث عائلات الضحايا المقتولين عن الاتفاق بعد، لكن المؤسسة عبرت عن تحفظاتها على الاتفاق في وسائل الإعلام الاجتماعية. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد طالب مسبقاً برفع الحصار تماماً عن غزة كشرط لأي صفقة، لكن الاتفاق النهائي سوف يسعى إلى تحقيق توازن على الأرجح بين مصالح إسرائيل الأمنية وبين الرأي العام التركي المحلي؛ حيث يسمح للبضائع والخدمات التركية فقط بالدخول إلى غزة. وسوف يسمح هذا النوع من الاتفاق للحكومة التركية بأن تجادل محلياً بأن جهودها إنما تصنع “شريان حياة” لغزة وتساعد الفلسطينيين، عندما تجيء الصفقة إلى البرلمان للتصديق عليها.
مع ذلك، وحتى مع المنافع المتبادلة، فإن تمرير المصالحة التركية الإسرائيلية لن يكون سهلاً. سوف يكون هناك الكثير من الرقص الإعلامي والجهود المبذولة لتهيئة الجمهور على كلا الجانبين. وكان كل من نتنياهو وأردوغان قد ألزما نفسيهما ضمنياً بخفض الخطابة القتالية -وفعلا. لكنه ليس هناك حب ضائع بين الزعيمين -أو بين مؤيديهما. ويمكن أن يؤدي تصعيد في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو فورة علنية لمسؤول كبير أو عضو في مجلس الوزراء، أو عدم قدرة تركيا على إقناع عائلات ضحايا الأسطول، إلى إفشال المفاوضات.
أما الآن، فهناك نافذة فرصة لـ”تطبيع” العلاقات بين الدولتين، في منطقة تتسم بخلاف ذلك باللاطبيعية.
علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية