ما إن وُقع اتفاق الصخيرات بين الفرقاء الليبيين في السادس عشر من ديسمبر/كانون أول الماضي، حتى دخل الجميع في “انحيازات” معرفية تخندق حولها الفرقاء لإثبات وجهة نظرهم حيال الاتفاق السياسي قبولا ورفضا، مما جعل حالة المراوحة تطل برأسها في المشهد السياسي الليبي، بينما استمر الواقع العسكري في إثبات ذاته وفتحت الأبواب أمام سيناريوهات قاتمة بات الواقع أكثر استعدادا لقبولها.
لكن المغامرة بالتنبؤ هنا، جزء من الحدس المعرفي الذي لا ينبئ بفهم للمشهد الليبي، فهو مشهد متقلب، تحكمه صراعات تحتية قد لا تحسن الاتفاقات والتقارير الوصول إلى حقيقتها، أو بمعنى آخر إدراك كنهها، لذا تبدو مقارنة ما يحدث في ليبيا بدراسات لحالات مشابهة في نظريات ما بعد الصراع سبيلا ميسرا للإلمام بأطراف هذا المشهد المركب.
جدليات كثيرة في انتظار تفتق أذهان الليبيين عن الوصول حيالها لتفكيك الجدليات القائمة بين فكرة القانوني والسياسي، النفسي والاجتماعي، الانتقام والتغيير، الواقع والمستقبل، هذه الجدليات ربما ستكون مدخلا جيدا لتوقع مآلات اتفاق الصخيرات ومن ثم الجواب عن السؤال ماذا بعد؟
جدلية القانون والسياسة
في دراسات ما بعد الصراع مفهوم قد يضيئ لنا فكرة تنفذ لقلب المشهد الليبي، وهو أن الدول التي تخرج من النظم الاستبدادية التي يسيطر فيها النظام السياسي على مؤسسات الدولة تعود لحالة الدولة الأولى وهي الصراع المسلح، لذا فهذه الدول عندما تدخل في مفاوضات لحفظ السلام عبر المنضمات الدولية تكون هذه المفاوضات أشبه بإيقاف لعجلة التاريخ، ومن ثم تصبح حالة التوازن الطبيعية بعيدة كل البعد لتنشأ عنها محاولات من المجتمع الدولي لإدارة الصراع.
لكن أدوات المجتمع الدولي التي تعتمد على التعامل مع مؤسسات دول مفترضة هي ما يجعل قدرة الدول التي تشهد صراعات مسلحة غير قادرة على كشف إرادتها أمام المجتمع الدولي وتصبح الصراعات السياسية هي الحاكم فوق الاتفاق السياسي الذي قد يكون هشا لا يصل لعمق الإشكال داخل المجتمع.
ببساطة يمكن أن نقول إن الجدل بين المدرسة الدستورية في العلوم السياسية التي ترى بقدرة الدساتير على خلق وقائع جديدة والمدرسة السلوكية التي تؤكد على المكونات المجتمعية كأساس لبناء النظام السياسي هي جدلية قائمة في المشهد الليبي.
هذه الجدلية ظاهرة في الحدث الليبي، فما إن وقع الاتفاق السياسي حتى تخندق الجميع حول سرديات خاصة يراد منها تأطير الصراع في أطر جديدة، فبدلا من سردية الثورة المضادة والحرب على الإرهاب التي كان يرددها المؤتمر الوطني ومجلس النواب على التوالي، بدأ المؤتمر الوطني الذي لم يعترف بعد باتفاق الصخيرات، يخلق سردية جديدة هي حكومة الوصايا والتدخل الخارجي، ثم وجدنا بعد ذلك خليفة حفتر قائد عملية الكرامة للجيش التابع لمجلس النواب، يتحدث عن خيانة بعض الأطراف الذي قاموا بترشيح العقيد المهدي البرغثي وزيرا للدفاع خلافا لرغبة الأول.
لاحقا يوافق مجلس النواب بطبرق على الاتفاق السياسي باستثناء المادة الثامنة والتي تعطي صلاحيات القائد الأعلى بالإضافة لصلاحيات سيادية أخرى للمجلس الرئاسي، مما يشير إلى التداخل في صناعة القرار داخل المجلس بين الواجب الوطني القانوني لإنهاء حالة الانقسام وبين الرغبة في إبقاء خليفة حفتر قائدا عاما للجيش الليبي.
و بعد أن عدل مجلس الرئاسة الحكومة الموسعة وصادق على حكومة بثلاثة عشر وزيرا في الخامس عشر من فبراير/شباط، وبعد خلاف داخل مجلس الرئاسة، وصل إلى حد العراك بالأيدي، وافق المجلس على هذه الحكومة دون أن يؤجل البث في وزارة الدفاع كما هي رغبة على القطراني نائب رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج.
لذا فإن المجلس الرئاسي قد مثل الصراع السياسي، وهو ينتظر تصديق مجلس النواب والتعديل الدستوري لتضمين الاتفاق السياسي، لكن المجلس محكوم هو الآخر بالسياسة أكثر من القانون، فالاتساق السياسي والعسكري داخل مجلس النواب يجعل من موافقة خليفة حفتر أمرا مهما للمحافظة على التوازن في المنطقة الشرقية التي شهدت انقسامات حقيقية داخل معسكر عملية الكرامة المكون الأوسع داخل مجلس النواب.
ويعني هذا أن المسار الطبيعي العنيف لتكوين الدولة والذي يراد ترويضه يظهر بين الفينة والأخرى من رفض هنا وهناك، وممارسة للعنف والقوة كما هو ملاحظ من توسيع دائرة القصف بين درنة وأجدابيا في منتصف يناير/كانون الثاني السابق بعد كل خطوة تخطوها الحكومة للوصول لاتفاق حول حقائبها. هذه الجدلية ستستمر إلى أن تحل جدلية أهم وهي القضايا النفسية والاجتماعية.
جدلية الانتقام والتغيير
تضيء لنا دراسات ما بعد الصراع الطريق لفهم ما يجري، فالوصول للحاجات النفسية الأساسية للفرقاء قد يكون هو الطريق الأسهل لحل الأزمات، من هذه الحاجات الحاجة للأمن الشخصي، وما يعرف بالتموضع وهو ضمان المستقبل السياسي للمولعين بهذا المستقبل.
هذا الأمر يمكن الاستدلال عليه بالمؤتمر الوطني العام الذي نعرف من خلال سبر أغواره أن هناك حالة من الخوف من الاتفاق، فهناك غموض في الاتفاق السياسي ولّد حالة من التأويل العدائي لنصوصه.
وعلى سبيل المثال فعدم ذكر مجلس شورى ثوار بنغازي أو درنة بالاسم، وعدم تعريف الكثير من المصطلحات وعلى رأسها الإرهاب الذي ضمّن فيه الاتفاق تنظيم الدولة وجماعة أنصار الشريعة (والجماعات التابعة لها) وما يرشح عن استهداف الجميع (كالجدلية في درنة التي يراد منها إثبات أن الصراع في المدينة بين القاعدة وتنظيم الدولة، الأمر الذي يرفضه أهل المدينة والعارفين بشؤونها) كل هذا -بغض النظر عن الموقف منه- شكل حالة من الريبة والشك والتردد. وزاد الطين بلة ما نشر عن المبعوث الدولي السابق برناردينو ليون من تعامله مع دولة الإمارات التي يعتبرها المؤتمر طرفا في الصراع الليبي.
في المقابل، ما حدث في بنغازي من احتراب داخلي وجرائم جاءت على لسان أحد مقربي خليفة حفتر وهو الناطق الرسمي باسم عملية الكرامة تجعل التسليم للاتفاق السياسي أمر مستبعد بدون ضمانات كافية أو الوصول لتسويات أكثر اتساقا مع التركيبة القبلية التي مثلت بعدا مهما في الصراع خاصة بعد ترشيح المهدي البرغثي وزيرا للدفاع وهو من قبيلة العواقير التي هي أكبر القبائل في بنغازي، ما يعني أنه لم يعد أمام حفتر الفرجاني -وهو ليس من الشرق- إلا المحافظة على ولاء بعض القبائل الأخرى كالبراعصة.
هذه الجدلية التي تتراوح بين ضمانات ما بعد الصراع للأطراف التي شاركت فيه، وبين البعد الاجتماعي القبلي الذي يحتاج لتسويات اجتماعية، لم تنقطع خلال الصراع بل كانت أسرع بكثير من المسار السياسي، هي ما يحتاج لدعم حقيقي من مجلس الرئاسة (نظرا لصعوبة التكاليف والعفوية التي تنطلق منها)، بعبارة أخرى فأن الصلح المجتمعي يحتاج ظهيرا مؤسسيا ليكون إستراتيجية فاعلة لتشققات الاحتراب الداخلي. هذا الأمر سيتعكر بجدلية أخرى وهي الأهداف الوطنية وإستراتيجية المجتمع الدولي.
الهوية والعولمة
المشهد الليبي إذا بين القانوني والسياسي (الدستوري والسلوكي) والاجتماعي والنفسي، والتداخل الأهم وهو الأولويات النابعة من الهوية الوطنية وأولويات المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب والهجرة غير النظامية.
في دراسات ما بعد الصراع تبدو الدولة التي تعاني من الصراع غير قادرة على مواجهة قوى العولمة، لذا تكون غير قادرة على إثبات ذاتها داخليا ومن ثم تنشط الجماعات التي لا ترتبط بالدولة، وهذا ما يجعل الصراع الحقيقي بين المجتمع الدولي وهذه الجماعات.
هذا الأمر لا يتعلق بإرادة مجلس الرئاسة فقط، فمهما كانت وطنية من هم في مجلس الرئاسة، فإن ضعف المؤسسات والأدوات السياسية التي يفتقرون إليها ستجعلهم أقرب إلى أن يكونوا في إطار سردية المجتمع الدولي ومن ثم يصبح المجلس الرئاسي ممثلا شرعيا لإرادة القوى العظمي.
تسارع الأحداث وتوسع تنظيم الدولة واقتراب المجتمع الدولي من الوصول لإستراتيجية موحدة لمحاربة تنظيم الدولة بعد اجتماع ميونيخ الأخير، يجعل الإستراتيجية الأوسع والأقوى هي محاربة تنظيم الدولة والجماعات الإرهابية، والمجتمع الدولي لن يقاتل تنظيم الدولة ليفسح المجال لتنظيم القاعدة أو لأي جماعة قريبة من هذين التنظيمين.
وهذا الأمر قد يعيد التربص بين الجماعات الإسلامية التي قاتلت حفتر ولا تنتمي لأي من هذين التنظيمين، وفي غياب ضمانات للطرفين، سيكون التدخل الدولي هو إعادة لسياسة خاطئة قد أدخلت ليبيا في احتراب داخلي منذ سنيتين.
هذا الأمر واضح في أذهان صانع القرار الغربي خاصة الولايات المتحدة، لذا فإن حل معضلة هذه الجدلية حول تعريف الإرهاب، وعلاقة الكتائب المسلحة بالمؤسسة العسكرية، علاقة السياسي بالقانوني وفوق ذلك الحاجات النفسية التي هي محرك أساسي للصراع تظهر في إطار أوسع لا يذكر كثيرا لكنه الأهم على الإطلاق.
الواقع والمستقبل
في ليبيا محركان للصراع، قوى تستفيد من الواقع وأخرى ترقب المستقبل، تخاف منه وتخشاه لكنها ترجوه اقترابا، وعندما ينفك المجتمع من عقال الواقع وسرديته التي صورته على أنه مجتمع عنيف منقسم قبليا ومناطقيا وأيديولوجيا تنشأ جينالوجيا أو حالة جنينية تعبر عن رغبة في السلم والأمن كتلك التي ظهرت في السابع عشر من فبراير، كلما استمر الجدل والصراع سينفي عن تلك اللحظة خبثها وانتقامها لينتقل المجتمع لحالة استقرار.
تفعيل هذا الانتقال ومسابقة الزمن مع سيناريوهات أخطر من الانقسام والتدخل الخارجي الموسع وانتشار العنف في شمال أفريقيا على غرار ما يحدث في سوريا، هذا السباق هو الذي سيحدد السيناريو الأقرب من هذه السيناريوهات، ليبقى الوعي بما يحدث والرغبة في صناعة مستقبل مشرق بأيد ليبية هو المحك وهو القادر على إجابة السؤال: ماذا بعد؟
نزار كريكش
نقلا عن الجزيرة نت