فاقم التدخل الروسي الحرب وويلاتها، وجاءت السلبية الأميركية حيال هذا التطور، لكي تفتح باباً واسعاً أمام الكارثة الإنسانية. وبينما أدى التدخل إلى تقويض فرص الحل السياسي، فقد اكتفت واشنطن بدور المراقب الذي لا حيلة له غير إبداء التعليقات. وهو ما شجع موسكو على المضي في ارتكاب الفظائع ضد المدنيين بدم ٍبارد، بل بانتشاء من يدمّر أهدافاً وهمية، بينما الأهداف هنا حقيقية، تتعلق بالبشر ومصائرهم. وبينما تتحمل موسكو مسؤولية مباشرة عن الفصول الجديدة في محنة السوريين، فإن واشنطن تتحمل مسؤولية سياسية ومعنوية في توفير بيئة سياسية ودبلوماسية سمحت للروس بأن يطلقوا نزعتهم التدميرية، بغير ضابط أو رقيب، مما يجعل الأمر يرقى إلى مستوى التواطؤ.
من حق واشنطن أن تعتمد الاستراتيجيات والسياسات التي تشاؤها كدولة عظمى، وبما يستجيب لحقوقها ومصالحها الكونية ولمنظورها لأمنها القومي. ومن حقها أن يكون لها فهمها الخاص للشراكة مع موسكو، والابتعاد عن بقية الشركاء، غير أن لهذه التبدلات المفاجئة ثمناً فادحاً، يدفعه الآخرون الذين تلحق بهم الكوارث، نتيجة ملء الفراغ الذي يتولاه الإيرانيون والروس. يدفع العراقيون والسوريون أثماناً باهظة من جراء الجموح التوسعي لطهران وموسكو. مفاهيم الحماية والأمن والسلم تتبدد على أرض الواقع، الأمم المتحدة مشلولة لأن واشنطن مشلولة. ولأن الصين ترفض الانغماس في التناحر على انتزاع الأدوار. تخلت واشنطن، قبل ذلك، عن كل سياسة خاصة بها، باستثناء رعاية الاحتلال الإسرائيلي، تاركة لهذا الاحتلال البغيض تقرير مصير الشعب الفلسطيني. صورة أميركا الكبيرة أصبحت تقترن بالخواء السياسي، بالشعارات الطنانة، بإدارة الأزمات وتأجيل الحلول. لا تتدخل في شيء، ولا تريد لغيرها من الشركاء أن يتدخل. تختزل أزمات الشرق الأوسط بالملف النووي الإيراني (الذي يزعج إسرائيل النووية) وبداعش ولا شيء آخر، بعد تراجع النفط في موازين القوى. لطهران أن تتعاون في الملف النووي، ولتكن لها الكلمة العليا في بغداد وبيروت، وليكن لها النفوذ الذي تشاء، إلى جانب موسكو، في سورية. وفي اليمن، لولا التدخل العسكري السعودي لأقامت واشنطن علاقات مع الانقلابيين الحوثيين، كما دلت على ذلك التطورات التي تلت الانقلاب.
تراجعت واشنطن عن نفوذها في الشرق الأوسط تراجعاً غير منظم، كما يحدث في الهزائم
العسكرية المشينة، مما أدى إلى اجتياح إيراني وروسي منظم. لا تتمنى شعوب الشرق الأوسط نفوذاً أجنبياً أميركياً أو سواه على أوطانها، ولكنها، في الوقت نفسه، ترفض عمليات التسلم والتسليم بين واشنطن من جهة وطهران وموسكو من جهة ثانية، لمصائر شعوب الشرق الأوسط العربية. وترفض كذلك هذه الموجة البربرية من الحروب التي يتم فيها اعتبار المدنيين هدفاً مشروعاً، فذلك يعيد اليشرية إلى قرنٍ مضى على الأقل، قبل إنشاء عصبة الأمم ومنظمة الأمم التحدة ونشوء شرعة حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف وسواها الخاصة بالحروب. أصبحت الجرائم ضد المدنيين نوعاً من الرياضة العسكرية المحببة كالصيد في الغابات. الضمير الإنساني الدولي مشلول، وهو يشهد انبثاق “نظام دولي جديد”، يقوم أول ما يقوم على تبديد الحياة البشرية وإزرائها، ومعاملة البشر كفائض ديمغرافي، وهو أهم ما يميز السلوك الإيراني/ الروسي، والانتصارات التي يلهج بها هذا الثنائي هي تلك التي يذهب ضحيتها ألوف البشر في سورية والعراق. في اليمن، يرتكب الانقلابيون جرائم كهذه، ويرغب هذا الثنائي، من طرفٍ خفيٍّ أو ظاهر، تحميل السعودية المسؤولية. وفي محاولةٍ للتمويه على جرائم القرن الحادي والعشرين في سورية.
سواءً، كان اسمه نظاماً دولياً جديداً مزعوماً أم فوضى دولية، فإن واشنطن تتحمل مسؤولية كبيرة وجوهرية في اندفاع الأمور نحو هذا المنحى، الذي يعيد البشرية إلى أجواء فظائع الحرب العالمية الثانية. مع أنه في الإمكان تشكيل جبهة دولية ضد الحروب التدميرية، وضد الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان والشعوب، وتقويض سيادة الدول، وضد دعم الديكتاتوريات المتوحشة. نشأ تحالف دولي عريض ضد اجتياح صدام حسين الكويت، وأياً كان الرأي فيه، فإن الجبهة الدولية العريضة وقفت ضد الاستقواء من دولةٍ كبيرة على بلد صغير. يستحق الشعب السوري المستضعف تضامناً ملموساً معه ضد حرب الاستئصال والإبادة التي تشن عليه منذ نحو خمس سنوات. لا يكفي القول إن موسكو سوف تخسر، في نهاية المطاف، كما قال أوباما قبل أيام، إذ الأهم من ذلك وقف الاستنزاف البشري الذي يتعرّض له السوريون كل ساعة، فالروس، كما هو بادٍ، يريدون سورية من غير شعبها. في منتصف القرن الماضي، استغنت قوى ذات نزعة استعمارية عن شعب فلسطين ثمناً لإنشاء دولة صهيونية على أرض فلسطين. هل يُراد الآن الاستغناء عن شعب سورية في هندسة توزيع الأدوار، وبحجة أن واشنطن لا تريد أن تخوض أي صراع؟ وهل تدرك واشنطن أن مكافحة داعش، على أهميتها القصوى، لا تكفي، إذ الأهم هو وضع حد للصراع الديني والطائفي في المنطقة، وإيران رأس حربة في هذا الصراع، فيما موسكو الأرثوذوكسية ترى، في حربها على الشعب السوري المنكوب، حرباً جديدة على الشيشان. الشرق الأوسط بفضل اللاسياسة الأميركية والسلبية الدولية يتبلقن ويتأفغن، ويدخل في نفق طويل من الحروب المديدة ذات الأبعاد الأهلية والإقليمية والدولية، وستكون لذلك عواقب وخيمة على أمن الإقليم وجواره والموازين الدولية.