هدى النعيمي*
يبدو المشهد السياسي العراقي عالقاً، في سجالات تدور بين تجديد الثقة لرئيس الوزراء المنصرفة حكومته، وبين مقاربة سياسية تؤكد على ضرورة اختيار شخصيةتوافقية معتدلة، تقبل بها كل الكتل السياسية، بين اصرار المالكي على البقاء في السلطة في وقت تشهد فيه البلاد حراكاً عسكرياً رافقه انهيار القوات الحكومية، وانسحابها من عدد من المحافظات المنتفضة بعد احداث الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014.
ولعل افضل وصف يوضح ما يجري في العراق؛ هو صراع داخلي، له ابعاد وانعكاسات اقليمية ودولية، يدور حول التمسك بالسلطة واعادة انتاج الديكتاتورية من مدخل الديمقراطية، التي يكرر الساسة ترديدها، دون ترسيخ حقيقي لمعاييرها وهي شوهاء لا تعير للتداولية أي اهمية، ولم تنجح في تحقيق حكومة مدنية قائمة على العدالة والمساواة، وما اعلنه المالكي من تمسكه بالمنصب، انما يعبر عن عقلية فردية لا تقبل بالتنازل، وليست معنية بالدستور او بالعملية السياسية، وتبعات ما ينجم عنه هذا التمسك، والعمل على مقولة “انا وليأتي من بعدي الطوفان.”
كمل ما تقدم الخلل القائم بخصوص العملية السياسية، بمحاصصتها وفسادها وشلليتها، والتي تؤشر خللاً بنيوياً وتنظيمياً، لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيساً في ترسيخه وتثبيته، وما نجم عن ذلك من اغراق العراق في دوامة من العنف، ومن جانب اخر فان ما يحدث من احتدام الصراع بين انصار المالكي، واطراف سياسية اخرى، ينظر له من زاوية اعادة تأهيل العملية السياسية في مفاصل متعددة.
إشكالية في رؤية المالكي ومقارباته السياسية
ترسخ ابان سنوات تولي نوري المالكي السلطة في العراق، عقب الانتخابات البرلمانية لعام 2010 نهج مركزي شديد الانضباط، ارتبط تحديداً بمكتب رئيس الوزراء، كان له آثار كبيرة بالنسبة لمستقبل العراق، ومسار ومتانة انتقاله الديمقراطي. نذكر هنا عدداً من المؤشرات التي تكشف عن هذه المركزية والتسلط:
– يهيمن رئيس الوزراء المنصرفة حكومته نوري المالكي على القوات العسكرية التقليدية، ووحدات العمليات الخاصة، وأجهزة الاستخبارات، والوزارات المدنية، على انه بدأ بتوطيد سيطرته على هذه التشكيلات بعد توليه منصبه في منتصف عام 2006 .
– احكامه السيطرة على المؤسسات الامنية، جاءت لمنع حدوث محاولة انقلاب عسكري، وايضا لتعزيز مخاوف خصومه السياسيين، من خلال تهديدهم الضمني أو الصريح، واتهامهم بالإرهاب والفساد.
– انشأ منذ عام 2007، عدد من الأجهزة الأمنية خارج الدستور تتجاوز وزارتي الدفاع والداخلية، ويتولى مكتبه توجيه الاوامر الرسمية المباشرة إلى القادة في الميدان.
– يصدر “مكتب القائد العام” تقاريره مباشرة إلى رئيس الوزراء، ويعمل به الموالين للمالكي، وهو تشكيل غير دستوري ليس له إطار قانوني ينظم وجوده، وبالتالي فانه خارج المساءلة أو الرقابة، يمتلك صلاحيات واسعة وموارد كبيرة. ويضم هذا المكتب عدداً من القيادات العراقية العسكرية والتي تستخدم لأغراض سياسية.
– غياب الإشراف والرقابة على التعيينات العسكرية، مكًن المالكي من اختيار الضباط الموالين له لشغل المناصب القيادية الأكثر أهمية في المؤسسة العسكرية، من الضباط الشيعة في الاغلب، مثل قادة الفرق والعاملين في مكتب قيادة العمليات، دون الحصول على موافقة البرلمان. ومن ناحية فان هذه التعيينات كانت بمثابة اعلان دعم تقدم به كبار الضباط، ومباركتهم استمراره رئيساً للوزراء.
– توسع سيطرة المالكي بعد انتخابات عام 2010 البرلمانية، على العديد من المؤسسات المدنية في العراق، بما في ذلك السلطة القضائية والهيئات المستقلة مثل مفوضية الانتخابات، والبنك المركزي، وهيئة النزاهة. وهو ما افضى الى تخريب نظام من الضوابط والتوازنات، تشويه شرعية وفعالية هذه الهيئات.
– تسييس السلطة القضائية، التي تواطئت مع رئيس الوزراء المنصرفة حكومته، عبر سلسلة من القرارات المثيرة للجدل، التي مكنته من ابعاد خصومه السياسيين، من بينهم طارق الهاشمي.
– استعان المالكي بحلفائه في البرلمان من جهة، واصدر احكام قضائية من جهة ثانية لإبعاد الموظفين، الذين يعتبرهم عقبات التي تحول دون سيطرته على الهيئات المستقلة، ومن بينهم رئيس الهيئة العراقية العليا للانتخابات (المفوضية)، ورئيس البنك المركزي العراقي ورئيس هيئة النزاهة.
– من المستحيل ضمان انتخابات حرة ونزيهة في ظل البيئة السياسية القائمة، وما آلت اليه اوضاع مفوضية الانتخابات من تبعية لرئيس الوزراء. نجم عنها تخريب العملية الانتخابية، وابعادها عن الاستقلالية والنزاهة.
– لا يمتلك مجلس النواب العراقي دوراً رقابياً حقيقياً على السلطة التنفيذية، جراء قيام المالكي بتقويض السلطة التشريعية، وتحجيم دورها، معتمداً على استراتيجية تهدف تجزأة المعارضة البرلمانية ومنع تشكيل كتلة برلمانية معارضة معتبرة. إذ أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها إلى حد كبير، وساعدت الانقسامات الداخلية التي عرفتها القوى والكتل، على الحد من قدرات معارضيه واضعاف مواقفهم.
– يكمل ما تقدم الهيمنة على السلطة القضائية، والحد من صلاحيات البرلمان في التشريع والمساءلة، حال دون اصدار التشريعات المتعلقة باستجواب الوزراء، وكبار الموظفين.
– نجح المالكي في تعزيز مصالحه، عبر عدد من الادوات: منها اجتثاث البعث لاستئصال خصومه السياسيين، او توجيه تهم الإرهاب والفساد او لكيهما ضد معارضيه، لتشويه سمعتهم أو لأبعادهم عن المشهد السياسي.
المالكي بين الرفض الداخلي وعدم الرضا الدولي
لم يكن تولي نوري المالكي السلطة في العراق، لما يتمتع به من مزايا ادارية وسياسية وكاريزما شخصية وقدرات وامكانات فذة، بل بسبب اعتراض الكتل السياسية في عام 2006 على ترشيح إبراهيم الجعفري لرئاسة الحكومة، ليتم اختياره كمرشح تسوية، بديلاً عن الاول. وكما هو واضح لا يحتفظ المالكي بعلاقات جيدة مع اغلب القوى السياسية العراقية، ومعروف عنه اتخاذه مواقف متشددة ابان الازمات التي تنشب بين الاقليم والحكومة الاتحادية، كما لا تربطه علاقات طيبة بقادة الكتل السياسية، فضلاً عن عدم تمتعه بقبول عربي ودولي.
وعلى مستوى الممارسة السياسية، فان نوري المالكي، تصرف في اطار من المصلحة الضيقة، مركزاً على خطاب طائفي، صنف المجتمع العراقي بين من يوالي الحسين، وبين من يوالي يزيد، وهو ما يكشف عن شخصية، تستغل الطائفية لتحقيق اهداف مصلحية، تزيد من رصيده الداخلي، استئصالية تلغي الآخر، تميل الى الفردية، وهناك من المتغيرات ما تدلل على ما تقدم:
– التحدث بلسان مبتسر يعبر عن مكون بعينه، ويخلو من خطاب توحيدي جامع لكل العراقيين على اختلاف تلاوينهم.
-الحوار والتوافق، ركنان رئيسان لم يعتمدهما في تفكيك الازمات والتحديات؛ مضافاً الى ذلك الفشل في ترسيخ الدولة المدنية، أو الاستجابة الى حلول يرتضيها الجميع بعيداً عن العنف والاقصاء.
– العجز عن ادارة علاقات واسعة اقليمية ودولية، لتتراجع مكانة العراق بين دول الجوار الاقليمي والعالم، وبدت السياسة الخارجية العراقية محدودة التأثير والفاعلية.
-الانكار وعدم تحمل المسؤولية، وتملصهمن الاعتراف بالهزيمة والفشل والعجز، وعدم تحليه بالشجاعة للاعتراف بسياساته الخاطئة، ومواجهة الواقع وازماته والشروع بمعالجتها.حيث تواجه والبنى الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية انهياراً شاملاً، كما يعاني العراقيون فقراً وبؤساً وتهجيراً وتخلفاً.
التحديات والمستقبل
يواجه نوري المالكي المنصرفة حكومته، عدداً من التحديات، بعد اعلانه التمسك بمنصبه في لقاء متلفز له ليلة العاشر من آب/اغسطس 2014 ، ليبدأ صفحة جديدة من صراعات داخلية على مستوى الائتلاف الشيعي، ورفض السنة والاكراد بقاءه في منصبه، جراء سياساته الطائفية وممارساته الفردية، التي قادت الى حراك عسكري، افضى الى صراع داخلي، قد يطول امده، في مشهد يشابه ما يجري اليوم في سوريا.
وازاء ما تقدم فان العراق اليوم يقف على اعتاب مرحلة خطيرة؛ قد تدفع به الى آتون حرب اهلية، وبإمكاننا هنا التنبوء بعدد من المشاهد المستقبلة لما سيكون عليه الوضع في العراق:
اولاً: مشهد استجابة المالكي للضغوط الايرانية، وقبوله بمرشح من داخل الائتلاف الشيعي، إذ ترى ايران ان بقاء رئيس الوزراء المنصرفة حكومته سيفضي الى مخاطر قد تتعلق بتغير خارطة القوى الإقليمية في المنطقة، في ظل وجود داعش، في عدد من المحافظات. ومع تعثر أفق الحل السياسي في العراق واستمرار الفرقاء على مواقفهم، وكذلك تأزم الموقف السوري وعدم وجود أي بوادر لحل القضية، كل هذه الأمور ستدفع ايران للضغط على المالكي، ودفعه الى التنازل من أجل الخروج من تلك المرحلة الفاصلة بأقل خسائر ممكنة.
وأوضحت المصادر ان سليماني عاد الى بغداد يوم العاشر من آب/اغسطس الجاري حاملا موقف القيادة الإيرانية الذي عرضه في اجتماع موسع للتحالف الوطني، الذي تلخص بان ايران لا يوجد لديها فيتو على أي مرشح لرئاسة الحكومة, مؤكداً انها مع أي اتفاق يتوصل اليه التحالف الوطني بالنسبة للكتلة الأكبر, واسم المرشح. وتأسيساً على ما تقدم جاء اعلان الائتلاف الوطني بانه صاحب الكتلة الاكبر، بواقع 127 نائباً، وترشيح حيدر العبادي لمنصب رئيس الوزراء.
وتوافقاً مع ما تقدم دعوة امريكية تقدم بها وزير الخارجية الامريكي جون لتشكيل حكومة عراقية شاملة، باعتبارها مسألة حاسمة لتحقيق الاستقرار وحث رئيس الوزراء نوري المالكي المنصرفة حكومته على ألا يؤجج التوتر السياسي والطائفي.
ثانياً: ولعل مشهداً آخراً يطالعنا هنا يدور حول تمسك المالكي بمنصبه، واستقواءه بالقوات والميليشيات الموالية له، والاعلان عن حالة الانذار القصوى في البلاد.والتأكيد على شرعيته بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا باعتبار كتلة دولة القانون التي يقودها رئيس الوزراء نوري المالكي الكتلة الأكبر في البرلمان، ما يعني إمكانية بقائه رئيسا للحكومة لولاية ثالثة. ويرفض المالكي الذي يتولى تصريف شؤون البلاد منذ انتخابات أبريل/نيسان دعوات من السنة والأكراد وحتى من الشيعة وإيران، للتخلي عن مساعيه لرئاسة الحكومة لإتاحة السبيل أمام تولى شخصية أقل استقطابا للمنصب.
ومن جهة اخرى لا تحتفظ الولايات المتحدة بنفوذ قوي داخل العراق، الامر الذي يعني عدم استجابة المالكي لضغوط امريكية بصدد تنحيه، او ابداء حزم اكبر، عند قيامه بأية إجراءات من شأنها تقويض العملية الديمقراطية في العراق.وقد يتم اللجوء في لحظة معينة، الى القبول بهذا المشهد ودعم الاستبدادية باسم الاستقرار، وهو امر سيكون لها نتائج وخيمة لجهة تفاقم التوترات والانقسامات داخل العراق.
وبمعنى آخر فان مشهد جهنم الذي قال عنه المالكي، جاء في تهديد واضح اثناء كلمته الأسبوعية عندما أشار الى ان “تجاوز الحق الدستوري في تشكيل الحكومة سيفتح نار جهنم على العراق باعتباره تجاوزا على ارادة الشعب العراقي مع رفض للتدخل الخارجي في تشكيل الحـــكومة” يكشف عن إصراره على إفهام الجميع بأنها صاحبة الكلمة الأولى في البلاد، وانه يتصدى لهجمة ارهابية تستلزم تحقيق اجماع وطني. بيد انه سيؤدي الى صراع شيعي-شيعي، فضلاً عن صراعات المالكي مع السنة والاكراد.
ثالثاً: مشهد اندلاع المعارك في محيط بغداد، وتمكن المسلحين من السيطرة على مواقع استراتيجية في العاصمة، لتدخل البلاد في آتون صدام اهلي متصاعد، قد يفضي الى تشكيل اقليم سني فيما بعد، رغم ما أعترف به بيان “المجلس العسكري العام لثوار العراق” من ان مهاجمة سنجار وزمار، “حولت جهود المقاتلين من الاستعداد لمعركة بغداد، وسارت بالأحداث في سياق وهو السيناريو الذي ساعد عليه الاحتلال الأمريكي من خلال إرساء مفهوم المحاصصة الطائفية وغرز هذا المفهوم داخل الدولة العراقية، كما عززت منه سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي الطائفية وكذلك العنف المتعمد مع الحراك الشعبي الذي ظهر منذ حوالي عامين في محافظات صلاح الدين والرمادي والموصل وديالي، حيث بلغ هذا القمع ذروته في فض اعتصام الأنبار وأحداث الحويجة في أبريل 2013. ومن المتصور ان ينجم عن هذا المشهد المزيد من التدمير وتهجير السكان، اذ ليس من المتصور ان تقف ايران، مكتوفة الايدي اما خروقات عسكرية، تهدد بقاء الحكومة الشيعية، وهو ما يحمل على تنحية المالكي، والاتيان بمرشح جديد.
رابعاً: العراق أمام سيناريو التقسيم لعدد من الأقاليم، وطبقاً للدستور هذا جائز خاصة مع حصول إقليم كردستان العراق عليه وإقامة إقليم كردى داخل الدولة الفيدرالية، حيث أكد الدستور على إمكانية إقامة نظام فيدرالي ومبدأ اللامركزية الإدارية، وتنشيط دور الإدارات المحلية، وهو ما يجعلنا نرسم خارطة المتوقعة والمحتملة للتقسيم، على النحو التالي: آخر. ويتصل بما تقدم امكانية تحقيق سيناريو جديد يقوم على انشاء اقليم سني، وقد يتبنى المالكي هذا المشهد في حال ضمن بقاءه في السلطة.
وليست حظوظ هذا المشهد بالكبيرة، بسبب التماسك بين الفصائل السنية المختلفة، وهو ما ظهر في إعلان أسامة النجيفي زعيم كتلة متحدون ووقوفه ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ومنهجه التكفيري، والدعوة إلى الفصل بين الحراك الذي تشهده المحافظات الغربية منذ عامين، وبين تنظيم داعش وغيره من التنظيمات التكفيرية، فكلا الطرفين – الفصائل السنية و(داعش)- مختلفان في رؤيتهما لمستقبل الدولة العراقية، إذ يهدف الحراك العسكري السني بالأساس إلى معارضه ومواجهة سياسات المالكي الطائفية دون المساس بوحدة واستقرار الدولة، اضف الى ذلك التداخل المناطقي أو ما يطلق عليه المناطق المتنازع عليها، وتقاسم الموارد وكيفية إدارتها وهو ما يتطلب توحيد الصف السني لإنجاح الإقليم على غرار ما يحدث في إقليم كردستان العراق.
وبعبارة اخرى فان تمسك المالكي بالبقاء على رأس السلطة، وهو ما ادركته القوى السياسية الأخرى التي سعت إلى إيجاد مخرج آمن للأزمة يجنب الدولة التفكك أو الانهيار، ووضع خارطة طريق للخروج بالعراق من الفوضى الحالية، وإجراء مصالحة وطنية لضمان عملية سياسية شاملة لا تُقصي سوى الإرهابيين والقتلة، علاوة على إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية الرئيسة والتي من شأنها إقامة دولة المواطنة بعيداً عن المحاصصة، ولاسيما من المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية، والدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية في وقت لا يزيد عن الثلاث سنوات، لفتح الطريق أمام حكومة انتقالية قادرة على إقامة انتخابات حرة ونزيهة، على أن تضم هذه الحكومة القادة السياسيين الأساسيين، بالإضافة إلى شخصيات محدودة من التكنوقراط.