اليوم، مع اقتراب الذكرى الخامسة لثورتنا المباركة، تقول لي نفسي الأمّارةُ بالسوء: يا ليتنا، يا خطيب، لم نقم بالثورة! يا حبذا لو أننا تَحَمَّلْنا ما كان يُمارسُه علينا نظامُ الأسد من ابتزازٍ وضغوطٍ وتجاوزات. كم سنبدو عاقلين وحكماء، لو أننا سكتنا عن سرقات أهل النظام التي تنداح كدوائر يُحدثها سقوط حجرٍ في الماء الراكد، ابتداءً من دائرة سرقات رامي مخلوف التي يُنجزها بالنيابة عن ابن عمته الدكتور بشار الأسد؛ نزولاً، حتى نصل إلى دوائر سرقات موظفي الأرشيف في التلفزيون العربي السوري، مثلاً!..
قلت لنفسي التي أحبُّها إلى درجة الوَلَه: ولكن، هذه التي تسمينها، بكل بساطة، ضغوطاً وتجاوزات وسرقات أفقرت المواطنين السوريين، وأذلّتهم، وجعلتهم يكرهون الأرض التي يمشي عليها هذا النظام الذي حَوَّلَ كُلَّ واحد منهم إلى إنسانٍ مشبوه، مطلوب لمراجعة أكثر من فرع أمني في آن واحد، بتهم ذات طبيعة إنشائية، بلاغية، مثل: إثارة الفوضى والبلبلة في صفوف الجماهير، ووهن نفسية الأمة، ومعاداة الدستور، وازدواجية التنظيم في حزب البعث العربي الاشتراكي.
قالت لي نفسي: أي نعم، أنا معك. ولكن، ما كان أجملَنا لو أننا، بدلاً من هذه الثورة العنيفة، سَوَّيْنا أوضاعنا في فروع المخابرات، وعقدنا صداقاتٍ مع أعضاء القيادة القطرية، وأعضاء فروع الحزب، وأمناء الشعب البعثية، والعناصر المكلفين بمراقبتنا؟ وما المانع من أن نقدم لهؤلاء السادة المتنفذين، بين الحين والآخر، بعضَ الهبات، والهدايا، والمكافآت على مبدأ “أطعم الفم تستحي العين”؟ أليس هذا، على الرغم من مضاضته، أفضل ممّا تعرّضنا له، بسبب الثورة، من قتل وتدمير وتهجير وانقسامات شاقولية، وتطرّف، وتطرّف مضاد؟
قلتُ: ربما؛ ولكن حافظ الأسد أهان الشعبَ السوري إهاناتٍ كبيرة، وارتكب، عن طريق شقيقه المجرم رفعت وضباطه الكبار، مذابح، تكفي واحدةٌ منها فقط للقيام بثورة كبيرة؛ كمذبحة حماة سنة 1982 التي أزيلت خلالها حاراتٌ كاملة عن وجه الأرض، بمَا فيها من بشر وحيوانات وأشجار وعصافير وزهور.
قالت لي نفسي: والله إن هذا الكلام لصحيح، وأنا سأزيدُك من القصيد بيتين، وأذكّرك بمجزرة سجن تدمر الذي قصفه رفعت الأسد بالطائرات، بعد إخلائه من عناصر الإدارة والحرس والخدم، ومجزرة حي المشارقة في حلب، ومجزرة جسر الشغور،.. ولكن هذه التواريخ، يا صديقي، أصبحت قديمة، وحافظ الأسد لم يسكت عن تلك الانتهاكات، بدليل أنه، في سنة 1984، طرد شقيقه رفعت من البلاد إلى غير رجعة.
قلت لنفسي الحبيبة: لا تقولي طردَه، بل قولي صالحه، واسترضى خاطره، لأن رفعت، في تلك الأيام، كان قد أدار فوهات دباباته ومدافعه باتجاه القصر الجمهوري، مع رسالةٍ واضحةٍ لأخيه يقول فيها: إننا اغتصبنا هذه البلادَ معاً، وبالتساوي، لا بل إنك عهدتَ إليّ بممارسة الأعمال القذرة، مثل إجبار النساء على خلع الحجاب، وجعل فرائص الرجال ترتعد حينما تمر بقربهم دورية لـ”سرايا الدفاع”، فلماذا تكون أنت “الكل بالكل”، وأنا جالس هنا مثل جملة لا محل لها من الإعراب. ولعلمك، يا نفسي، إن حافظ، الذكي جداً، أعطى أخاه، من خزينة الشعب السوري، ما يكفي لشراء دويلة صغيرة ضمن الدولة الفرنسية العظيمة. ولما أبى رفعت، واستكبر، تدخل العم الكريم العقيد معمر القذافي فنقده، هو الآخر، بما يكفي لجعل مقولة “باريس مربط خيلنا” تتحوّل حقيقة واقعة… وأما الحارات التي أنزلتها راجمات صواريخ رفعت الأسد على الأرض في حماه، فقد بناها الجنرال حافظ الأسد على الطراز الحديث، ووزّعها على الأهالي بأسعار رمزية.
قلت لنفسي: لقد ضاق شعبنا ذرعاً بالسكوت، والخنوع، والمسوّغات، وأحرق المراكب، وثار، وما عاد يلتفت إلى الخلف.
قالت لي نفسي: أعرف ذلك. ولكن، هل ستستطيعون تخليص ثورتكم ممّا لحق بها من تطرّفٍ و”تجاوزات”؟ هذا هو السؤال.