تكتسب منطقة القرن الإفريقي المطلة على البحر الأحمر أهمية إستراتيجية كبيرة، كونها تطل على الممرات البحرية الرئيسية للتجارة العالمية وتجارة النفط على وجه الخصوص. وقد دفعت هذه الأهمية قوى دولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وفرنسا إلى السعى لإقامة قواعد عسكرية دائمة، خاصة في جيبوتي، من أجل حماية مصالحها الأمنية والإستراتيجية، فضلا عن كونها مدخلا لتحسين علاقتها مع القيادة السياسية هناك.
كما أعلنت بعض الشركات الصينية والتركية وكذلك الأمريكية ضخ استثمارات كبيرة لتنمية الاقتصاد الجيبوتي. وقد استطاعت الحكومة توظيف ذلك الاهتمام المتصاعد، ليس فقط في الحصول على عوائد دورية من وراء إقامة قواعد عسكرية، وإنما في تطوير البنية التحتية، والتحول إلى مركز لوجستي بمنطقة القرن الإفريقي. ويبدو أن هذا الاهتمام المتزايد للقوى الإقليمية والدولية سوف يخلق تنافسًا محمومًا فيما بينها، ومن المحتمل أن يتحول إلى صراع مستقبلي. وعلى أية حال، فإنه بإمكان جيبوتي في الوقت الراهن الاستفادة بدرجة كبيرة من هذا التنافس في الحصول على أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية.
تهافت دولي وإقليمي:
سارعت بعض القوى الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، في بدايات العقد الماضي، إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في جيبوتي. ومن الملاحظ أنه رغم القيود العديدة المفروضة على مناخ الاستثمار بالبلاد، فإن العديد من القوى الدولية، بجانب القوى الشرق أوسطية، أولت اهتمامًا بالفرص الاستثمارية المتاحة، ويمكن تبرير انخراطها المكثف تجاريًّا واستثماريًّا على الرغم من ضعف البيئة الاستثمارية في ضوء الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية التي تحظى بها هذه المنطقة. وتعتبر الصين إحدى القوى التي كرست حضورًا اقتصاديًا بارزًا لها في جيبوتي، فمن ناحية تُعد شريكًا تجاريًّا رئيسيًّا للأخيرة، كما أنها ساهمت في السنوات الماضية بعدة مشروعات لتطوير البنية التحتية، وقدمت قرضًا بقيمة 3.3 مليارات دولار من أجل تمويل مشروع السكة الحديد الذي يربط بين جيبوتي وإثيوبيا. علاوة على ذلك، تخطط شركة “سينبوك” الصينية لتطوير محطة للطاقة الحرارية الأرضية ببحيرة عسل بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ميجاوات. واللافت للانتباه أن الصين تركز أعمالها في جيبوتي بشكل رئيسي في تطوير الموانئ، وتقوم الصين حاليًّا بتطوير 4 موانئ بحرية بالبلاد، ويتحمل بنك “أكسيم” الصيني تكلفة تمويل 90% من تطويرها.
وحول انخراط بعض القوى الشرق أوسطية بجيبوتي، أعلن المسئولون المحليون، في مارس 2015، عن تخصيص منطقة صناعية وتجارية للمستثمرين الأتراك بمساحة تبلغ 5 كلم، وقبل ذلك التاريخ بشهرين كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتطلع في زيارته لجيبوتي إلى تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الدولتين، وتبدو آفاق العلاقات بين الطرفين إيجابية للغاية، وفي هذا الصدد يقول الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله: “تركيا شريك إستراتيجي لجيبوتي ودول القرن الإفريقي عمومًا”.
كذلك، تتطلع إثيوبيا هي الأخرى، باعتبارها إحدى القوى الرئيسية بمنطقة الشرق الإفريقي، إلى تعزيز علاقتها الاقتصادية والسياسية مع جيبوتي، ففي خطاب ألقاه هيلا مريام ديسالين رئيس الوزراء الإثيوبي بالبرلمان الجيبوتي، في فبراير 2015، أكد تطلعه إلى تعزيز التكامل الإقليمي بين البلدين، وجدير بالانتباه أن جيبوتي تقدم خدمات فريدة لإثيوبيا، حيث يُعتبر ميناء دورلي المنفذ الرئيسي لحركة التجارة الإثيوبية، كما تمتد آفاق التعاون لتشمل اتفاقات أخرى مثل إمداد إثيوبيا لجيبوتي بالكهرباء والمياه، وفي الوقت الراهن تمد الأولى جيبوتي بطاقة كهربائية مقدرة بـ50 ميجاوات، كما أنه من المتوقع أن تمدها بـ100 ألف متر مربع من المياه يوميًّا في المستقبل القريب.
تأمين الممرات:
تكمن أهمية جيبوتي في موقعها الجيوسياسي الإستراتيجي المطل على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب وعلى البحر الأحمر وخليج عدن شرقًا، ومن المعروف أن باب المندب يمر به نحو 4 ملايين برميل نفط يوميًّا. وبذلك، يرتبط الانخراط المتصاعد من قبل الدول والمستثمرين بجيبوتي برغبتهم في تأمين الممرات الملاحية لتيسير التجارة العالمية، ومواجهة أية مخاطر محتملة مثل عمليات القرصنة، ولعل الاقتصاد العالمي تكبد خسائر كبيرة جراء هذه العمليات التي مارسها بعض القراصنة الصوماليين قبالة السواحل الصومالية منذ عام 2005، وقدرت بما مجموعه 18 مليار دولار من التجارة العالمية. كما يبدو الانخراط العسكري هامًّا للقوى الدولية من أجل مكافحة الإرهاب بمنطقة شرق إفريقيا، لا سيما بالصومال، حيث تتوسع أنشطة حركة “شباب المجاهدين”.
اقتصاديات القواعد العسكرية:
يؤسِّس التنافس الدولي في الوقت الراهن على إقامة قواعد عسكرية بجيبوتي لمزيدٍ من الأرباح للأخيرة، ومن المؤكد أن القواعد العسكرية تُمثل مصدرًا مهمًّا لإنعاش اقتصاد البلاد الصغير الحجم ( 1.5 مليار دولار في عام 2014)، حيث تخلق وفورات كبيرة للحكومة، كما يحتمل أن توفر وظائف متعددة للسكان المحليين. وقد بدأت القوى الدولية في إقامة قواعدها العسكرية في بدايات العقد الماضي، حيث سمحت جيبوتي في عام 2002 بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها، وطبقًا للاتفاق المبرم بين الجانبين تحصل على إيجار سنوي بنحو 31 مليون دولار سنويًّا قبل أن يتضاعف إلى 63 مليون دولار مع تجديد الاتفاقية بينهما مرة أخرى لـ10 سنوات في عام 2014، وعلاوة على ذلك، تدفع كل من اليابان وفرنسا 30 مليون دولار و33 مليون دولار على التوالي مقابل قواعدهما العسكرية بالبلاد.
المكاسب الاقتصادية من الشركاء الدوليين والإقليميين
ومؤخرًا، أعلنت الصين وجيبوتي توقيع اتفاقية في مقابل أن تقوم الأولى ببناء قاعدة عسكرية لمدة 10 سنوات بالبلاد مقابل دفع إيجار بـ100 مليون دولار سنويًّا، لتُعدَّ بذلك الأعلى قيمة مقارنة بأرقام الدول الأخرى. وكمحصلة إجمالية للعوائد السابقة، من المنتظر بعد إتمام بناء القاعدة الصينية أن تحصل جيبوتي على عوائد سنوية تُقدر بـ226 مليون دولار، وهي قيمة توازي 15% أو أكثر من ثلث الإيرادات الحكومية سنويًّا تقريبًا، وتُعطي هذه الإحصاءات دلالةً على الأهمية الاقتصادية للقواعد العسكرية للاقتصاد الجيبوتي.
إدارة التنافس:
تدفع الظروف الأمنية غير المواتية بمنطقة القرن الإفريقي بإلحاح نحو انخراط مختلف القوى بجيبوتي، وحاليًّا لا تُبدي قوى دولية فقط اهتمامًا بالانخراط الاقتصادي والعسكري بالبلاد وإنما قوى شرق أوسطية وإفريقية أيضًا، وهو ما جعل جيبوتي فضاء متسعًا لقواعد عسكرية من جنسيات مختلفة، وبالتوازي مع ذلك أيضًا، كان منطقيًّا أن تُبدي البلاد ارتياحًا لكافة الاستثمارات من القوى الإقليمية والدولية، ومن دون شك فإن الانخراط المتعدد للقوى الإقليمية قد يُثير تنافسًا قابلا للتحول لصراع مستقبلي.
خلاصة القول، يبدو أن جيبوتي تسعى إلى استثمار تصاعد حدة التنافس الدولي والإقليمي على الانخراط العسكري والاقتصادي فيها، من أجل بناء شراكات متعددة وتعظيم مكاسبها الاقتصادية.
وحدة الدراسات الاقتصادية
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية