يمارس تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») مجموعةً واسعةً من أعمال العنف المتطرفة التي تستهدف المدنيين من الرجال والنساء والأطفال وأقليات عرقية ودينية، وحتى المسلمين السنة الذين ينتمون إلى نفس طائفتهم ولكنهم لا يوافقون على الإيديولوجية المتطرفة والاستبدادية التي يعتنقها التنظيم. [وفي السابع عشر من آذار/مارس قال وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، إن تنظيم «داعش» ارتكب جرائم إبادة جماعية بحق جماعات دينية مختلفة].
وينصّ أحد الأحكام في مشروع قانون الإنفاق الشامل الذي أقره الكونغرس الأمريكي في كانون الأول/ديسمبر المنصرم، على أنّ “وزير الخارجية الأمريكي… سوف يقدّم إلى لجان الكونغرس المعنية تقييماً لاضطهاد المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى في الشرق الأوسط والهجمات التي يشنّها ضدّهم الإسلاميون المتطرفون الذين ينتهجون العنف… بما في ذلك إذا كانت هذه الاضطهادات أو الهجمات تشكّل فظائع جماعية أو إبادة جماعية”. وأناط مشروع القانون وزير الخارجية بتقديم نتائجه إلى الكونغرس بحلول 17 آذار/مارس، وهذا ما قاله في ذلك التاريخ.
وفي اليوم نفسه، أصدرت “لجنة الشؤون الخارجية” في مجلس النواب الأمريكي قراراً وقّعه أكثر من 200 مشرّع من كلا الحزبين، أعربت فيه عن شعور الكونغرس بأنّ الأعمال التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية» ضدّ المسيحيين واليزيديين والتركمان وغيرهم يمكن تصنيفها على أنها “ارتكاب لـ ‘جرائم حرب’ و’جرائم ضد الإنسانية’، و’إبادة جماعية’ “. وإذا ما تجاوزنا الجدل حول مصطلح “الإبادة الجماعية” بحدّ ذاته، يشعر البعض بالقلق إزاء احتمال أن يؤدي التأكيد على اندراج هذه الأعمال في إطار هذا المصطلح إلى إرغام الإدارة الأمريكية على اتخاذ إجراءات سواء ضدّ تنظيم «داعش» أو دفاعاً عن الأقليات والمدنيين أو عن كليهما، الأمر الذي تفضّل الإدارة الأمريكية تفاديه قدر الإمكان. وفي واقع الأمر، نظراً لمفهوم “مسؤولية توفير الحماية” المعترف به على نطاق واسع، ينبغي على القوى العالمية أن تبذل جهداً أكبر لحماية المدنيين في سوريا والعراق، بغض النظر عما قاله وزير الخارجية الأمريكي حول ارتكاب تنظيم «داعش» “الإبادة الجماعية”…
“انقراض منطقة الوسط“
يعتنق تنظيم «الدولة الإسلامية» إيديولوجية سلفية جهادية متشدّدة ضمن رؤية مروّعة للوجود تنذر بنهاية العالم وتحرّض المؤمنين الحقيقيين ضد الآخرين أجمعين. وفي إطار هذه النظرة المتطرفة إلى العالم، لا يجوز قتل الأعداء والكفار فحسب، بل إنّ ذلك واجب ديني. على سبيل المثال، يصنّف تنظيم «داعش» الشيعة والعلويين على أنّهم مرتدّون، مما يعني أنّهم يخضعون لعقوبة الإعدام من دون محاكمة.
وفي العدد السابع من مجلة “دابق” الدعائية اللامعة وهي المجلة الرسمية لتنظيم «الدولة الإسلامية»، المُعَنوَن “من الرياء إلى الارتداد: انقراض منطقة الوسط”، كشفت المجلة المعبرة عن أيديولوجية تنظيم «داعش» باللغة الإنجليزية عن نظرة التنظيم المستقطبة حول النزاع بين المؤمنين والمرتدّين. فالتنظيم يرى المعركة بين الإيمان والكفر على أنّه “الاختبار الذي يحدد ما إن كان الشخص يتمتع بالعقيدة الإسلامية”. ويحرم التنظيم بعناد أيّ فرصة للتعايش السلمي مع الناس الذين لديهم معتقدات مختلفة.
وفي العدد الرابع من مجلة “دابق”، ركّز تنظيم «الدولة الإسلامية» على الأقلية اليزيدية، وخلص إلى أنّه يجوز استعباد نسائهم وتطبيق نظرة التنظيم في التعامل مع المشركين على اليزيديين. “اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد… فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، فأخْلوا سبيلهم.”
وفيما يدّعي تنظيم «داعش» بالدفاع عن أراضيه، أورد تقرير لجهاز الاستخبارات الهولندية أنّ “مفهوم تنظيم «الدولة الإسلامية» لـ ‘الدفاع’ يشمل مهاجمة السوريين والعراقيين الذين لا يشاركون التنظيم معتقداته، أو قتلهم أو اغتصابهم أو استعبادهم، أو مهاجمة أولئك الذين يقاومون بطريقة ما”. كما خلص إلى أنّ: “أي شخص يسافر للالتحاق بما يُعرف بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» يُفترَض أنه يعلم تماماً بأنّه يختار الانضمام إلى جماعة إرهابية تعتبر كلّ الخارجين عنها ‘كفاراً’ وتلجأ إلى استخدام العنف المفرط بشكل يومي”.
جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية
منذ أن أخذ تنظيم «الدولة الإسلامية» العالم على حين غرة في صيف عام 2014، لم يكفّ بلا شكّ عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وأعمال التطهير العرقي. فقد أفادت الأمم المتحدة في آذار/مارس 2015 أنّ الأدلة “تشير بقوة إلى” أنّ تنظيم «داعش» ارتكب قائمة طويلة من جرائم الحرب. وبعد خمسة أشهر، أي في آب/أغسطس 2015، أصدرت الأمم المتحدة تقريراً جديداً خلصت فيه بشكل قاطع إلى أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، في الواقع، “قد ارتكب جرائم حرب، بما في ذلك القتل والإعدام من دون أيّ محاكمة عادلة، والتعذيب، وخطف الرهائن، والاغتصاب وممارسة العنف الجنسي وتجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العدائية والهجوم على الأهداف المحميّة، فضلاً عن غيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي”. كذلك، وجد التقرير نفسه الصادر عن الأمم المتحدة أنّ تنظيم «داعش» ارتكب أيضاً أعمال عنف وإرهاب استهدفت المدنيين، من قتل وتعذيب واغتصاب واستعباد جنسي “وأفعال أخرى غير إنسانية في إطار الهجوم الواسع الذي يشنّه على المدنيين، والذي يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانيّة.”
وفي أعقاب رحلة لتقصّي الحقائق في شمال العراق، أصدر “المتحف التذكاري للمحرقة في الولايات المتحدة” تقريراً خلص إلى أنّه “بناءً على السجلات العامة وروايات خاصة لشهود عيان، نعتقد أنّ تنظيم «داعش» – الذي نصب نفسه بنفسه كدولة إسلامية – ارتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتطهير عرقي ضد المسيحيين واليزيديين والتركمان والشبك والسبأ-المندائيين والكاكائيين في محافظة نينوى بين حزيران/يونيو وآب/أغسطس 2014”.
إبادة جماعية؟
ولكن، هل وصلت هذه الجرائم إلى حدّ الإبادة الجماعية؟ يرد في “اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية” (كانون الأول/ديسمبر 1948)، تعريفٌ للإبادة الجماعية على أنّها “نيّة بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية.”
في 3 شباط/فبراير 2016، أصدر البرلمان الأوروبي قراراً بالاجماع يُعدّ “اعترافاً بأنّ القتل المنظّم واضطهاد الأقليات الدينية اللذين يعتمدهما تنظيم «الدولة الإسلامية» في الشرق الأوسط إنّما هما إبادة جماعية.” وأكّد الاتحاد الأوروبي أنّ تنظيم «داعش» “يرتكب الإبادة الجماعية بحقّ المسيحيين واليزيديين وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية التي لا تتفق مع ما يعرف بـ مفهوم ‘تنظيم «الدولة الإسلامية»/«داعش»’ عن الإسلام“
كما خلصت تحقيقات أخرى إلى نتائج مماثلة لكنّها كانت أقل حسماً. فوفقاً لتقرير مشترك صادر عن “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (“يونامي”) وعن “مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة”، “يبدو أن استهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» للجماعات العرقية والدينية يشكّل جزءاً من سياسة متعمّدة وممنهجة تهدف إلى قمع هذه الجماعات أو تطهيرها أو طردها بشكل دائم، أو في بعض الحالات تدمير هذه الجماعات في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «داعش». وبالمثل، وجد “المتحف التذكاري للمحرقة في الولايات المتحدة” أيضاً “سبباً كافياً للتأكيد بأنه بالإضافة إلى ارتكاب تنظيم «الدولة الإسلامية» جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ارتكب التنظيم في آب/أغسطس عام 2014 إبادة جماعية ضد السكان اليزيديين الذين يعيشون في نينوى”.
وسابقاً، ذكر كل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري مصطلح “الإبادة الجماعية” عند الإشارة إلى الأعمال التي يرتكبها تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتحديداً بالحديث عن حصار سنجار. وفي 7 آب/أغسطس 2014، أعطى الرئيس أوباما الإذن بالقيام بعمليات عسكرية داخل العراق من أجل حماية الأفراد الأمريكيين وإنقاذ آلاف المدنيين العراقيين الذين يهدّدهم وجود تنظيم «داعش». وفي شرحه لهذا القرار، قال الرئيس: “لدينا قدرات فريدة للمساعدة في تجنّب مجزرة، لذلك أعتقد أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تغضّ الطرف عمّا يحصل. يمكننا العمل بعناية ومسؤولية، لمنع حدوث إبادة جماعية محتملة”. وتعليقاً على الوضع نفسه في العراق، قال كيري “إنّ حملة تنظيم «الدولة الإسلامية» لممارسة الإرهاب ضد الأبرياء، بمن فيهم الأقليتان اليزيدية والمسيحية، وأعمال العنف البشعة التي تستهدفهم إنّما هي علامات تحذير وعلامات دامغة للإبادة الجماعية. هذه هي الرسالة إلى كلّ من يحتاج دعوة للاستيقاظ”.
إن اتخاذ قرار بشأن الإبادة الجماعية يبدو معقداً بسبب الحاجة إلى إثبات النية بتدمير جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بأكملها. ولكن في بعض الحالات، يبدو أن نية تنظيم «الدولة الإسلامية» لفعل ذلك بالضبط واضحةً تماماً. ففي آب/أغسطس 2014، على سبيل المثال، هاجم أعضاء التنظيم قرية كوجو الصغيرة، الواقعة إلى الجنوب مباشرة من جبل سنجار، حيث يُعتقد أنهم ذبحوا مئات اليزيديين. ووفقاً لـ “المتحف التذكاري للمحرقة في الولايات المتحدة” كشف الهجوم على كوجو جهداً ممنهجاً لتدمير اليزيديين هناك. فقد تمّ إعدام كلّ شاب تقريباً تخطّى سنّ الثانية عشرة، بالإضافة إلى خطف النساء والأطفال واستعبادهم. وكان الهدف يكمن في القضاء على هذه المجموعة الدينية قضاءً تامّاً.
ويبدو أيضاً أن تنظيم «الدولة الإسلامية» ارتكب إبادة جماعية ضد المسيحيين. ففي أيار/مايو 2015، أدلت الأخت ديانا موميكا، وهي راهبة تخدم في أحد الأديار في الموصل بشهادتها أمام الكونغرس ودافعت قائلة: “لقد أدركنا أن خطة تنظيم «داعش» تكمن في محو المسيحيين عن وجه الأرض وتطهيرها من أيّ دليل قد يشير إلى وجودهم سابقاً. وهذه هي الإبادة الثقافية والإنسانية الحقّة. فالمسيحيون الوحيدون الباقون في ‘سهل نينوى’ هم أولئك الذين لا يزالون رهائن محتجزين”. ولاحقاً، في كانون الأول/ديسمبر 2015، قدّم زعيم بارز في الجماعة اليزيدية شهادته أمام الكونغرس معلناً أن “اليزيديين والمسيحيين الكلدان والأشوريين يواجهون هذه الابادة الجماعية معاً.”
المحصلة
لا شكّ في أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» يتعمّد استخدام العنف الفائق كمسألة سياسية وأنّ الكثير من أعمال العنف التي يمارسها إنّما تشكل جرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية. إن تحديد ما إذا كانت أعمال عنف محددة يقوم بها تنظيم «داعش» تشكّل أيضاً إبادة جماعية أم لا، يجب أن يتمّ على أساس الوقائع وحدها، وليس على السياسات التي يمكن أن تتشعّب عن هذا القرار. وفي الواقع، فبينما قد يحظى قرار مماثل بالدعم الشعبي المؤيّد لاتخاذ مزيد من الإجراءات بحقّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، يبدو من غير الضروري اتخاذ أيّ إجراء جديد بموجب القانون الدولي.
[وفي أعقاب تصريح وزير الخارجية الأمريكي بأن تنظيم «داعش» ارتكب جرائم إبادة جماعية بحق جماعات دينية مختلفة]، يجب أن يكون لحماية المدنيين مكاناً أوضح في التكتيكات والاستراتيجيات التي يعتمدها التحالف الدولي لمكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي النهاية، سيُهزم تنظيم «داعش»، ولكن، في غضون ذلك، يجب مواجهة إعلان التنظيم وحملة العنف المفرط التي يتبعها والمتسمة بالعزم والتصميم واستهداف المدنيين، من بينهم الجماعات الدينية والعرقية برمّتها. وفي هذا الإطار، يجب أن تشمل الاستراتيجية التي تهدف إلى هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» الحدّ من قدرة التنظيم على القيام بعمليات إرهابية وممارسة أعمال العنف، ولكن يجب أن تشمل أيضاً حماية السكان المحليين من خطر الفظائع الجماعية. ففي سوريا يجب أن تتمثّل نقطة الانطلاق المناسبة لتحقيق هذه الاستراتيجية بإنشاء مناطق آمنة لحماية المدنيين، في المناطق المحرّرة من البلاد، من العنف الوحشي الذي يمارسه كلّ من تنظيم «داعش» ونظام الأسد. أمّا في العراق، فيجب التركيز على ضمان حماية جماعة السنّة والأقليّات من انتقام الميليشيات الشيعية. ومهما كان الأمر، يجب أن يتحمّل العالم بأسره مسؤولية الحماية.
ماثيو ليفيت
معهد واشنطن