أين “منجنيق الدولة”؟

أين “منجنيق الدولة”؟

349

لم يظهر الناطق باسم ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية، أبو محمد العدناني، منذ قرابة ستة شهور، على الرغم من الضغوط الهائلة التي يتعرّض لها التنظيم، في الفترة الأخيرة، في كلّ من العراق وسورية، ما أدّى إلى فقدانه الرمادي وتدمر، ومقتل قيادات بارزة من الصف الأول، مثل أبو مسلم التركماني وعمر الشيشاني، وأخيراً عبد الرحمن القادولي (أبو علاء العفري) الذي تعتبره أوساط أمنية غربية بمثابة الرجل الثاني في التنظيم.
لا يتعلق الاهتمام بسؤال الغياب الطويل للعدناني بمصيره الشخصي فقط، بل بما هو أهمّ بكثير، رواية التنظيم السياسية والإعلامية لما يمرّ به حالياً من تراجع ملحوظ على الأرض، وتضعضع “الصورة المهيبة” والمخيفة التي ظهر عليها في البداية، بوصفه وحشاً كاسراً يصعب ترويضه والنيْل منه، فيما بدا، في الآونة الأخيرة، في مربع تلقي الضربات تلو الأخرى.
العدناني هو السوري، طه صبحي فلاحة، من بلدة سراقب في محافظة إدلب، انضم إلى تنظيم “قاعدة العراق” (عندما كان تنظيم الدولة جزءاً من شبكة القاعدة العالمية)، واعتُقل في العراق في العام 2005، ثم أصبح أحد أبرز الوجوه البارزة في تنظيم الدولة حالياً، بل قد يكون أهمّ سوري فيه.
لم يكن العدناني، في الفترة الماضية، مجرّد ناطق رسمي باسم التنظيم، بل لعب دوراً ملحوظاً في بناء روايته السياسية والفكرية وتصميمها، وترويج أيديولوجيته الصلبة، والسجال مع زعيم تنظيم القاعدة المركزية، وتقديم رؤية التنظيم للأحداث الدولية والإقليمية والمحلية.
“لم يكن العدناني، في الفترة الماضية، مجرّد ناطق رسمي باسم التنظيم، بل لعب دوراً ملحوظاً في بناء روايته السياسية والفكرية وتصميمها، وترويج أيديولوجيته الصلبة”

كانت خطابات العدناني تمثّل، لأبناء التنظيم وأنصاره في مختلف دول العالم، الذخر المعنوي في الحرب النفسية والإعلامية العالمية، فهو أصبح الصوت البارز للتنظيم في العالم الذي يعرف كيف يخوض حرباً مع خصومه الذين تعدّدت دوائرهم ومساحاتهم، بداية من شيوخ السلفية الجهادية، مثل أبو قتادة وأبو محمد المقدسي وشيخ القاعدة أيمن الظواهري، مروراً بجبهة النصرة، وصولاً إلى “الإخوان المسلمين”، وبالطبع القوى السياسية الشيعية، ودول العالم المختلفة. وكان اسم العدناني قد بدأ يتردّد، في الأوساط الإعلامية العالمية، مع بداية الخلافات بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة، ثم سطع نجمه إعلامياً عندما ظهر (مع تمويه بصري) في شريط مصوّر مع عمر الشيشاني في 29 يونيو/ حزيران 2014، وهما يقفان إلى جانب آلياتٍ تزيل الحدود بين العراق وسورية، معلناً نهاية حقبة “سايكس بيكو”، وانتهى الشريط بقتل عدد من “حرس الحدود” العراقيين. ليعلن العدناني نفسه (في كلمة بعنوان “هذا وعد الله”) الخلافة الإسلامية، وتنصيب إبراهيم البدري، أبو بكر البغدادي، خليفة للمسلمين، فيطالب العدناني جميع “الفصائل الجهادية” بإعلان البيعة له، وليتوعّد الذين يرفضون هذه “البيعة” من الفصائل الأخرى بلغةٍ قاسيةٍ عنيفةٍ “ومن أراد شقّ الصف، فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه، كائناً من كان ولا كرامة”.
عُرفت كلمات العدناني بصلابة وشراسة لا تقل عن دموية التنظيم الذي يمثّله، فلم يكن يحاول إخفاء هذا “الوجه المتوحش” لتنظيمه، بل كان يتفنّن في التعبير عنه، وترويجه، بلغةٍ تزاود على الأفلام المصوّرة التي تظهر التنظيم، وهو يقوم بعمليات الذبح والقتل، بالسكاكين والإغراق، والرصاص، بما تجاوز أي تنظيم جهادوي سابق، حتى القاعدة الأمّ نفسها.
لم توفر شراسة البغدادي زعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، الذي نال حظّاً وافراً من اتهامات البغدادي، بل ولا حتى الظواهري نفسه. إذ فاجأ البغدادي أنصار السلفية الجهادية في العالم بقسوة ردوده على الظواهري؛ ففي كلمته “عذراً أمير القاعدة”، اتّهم العدناني الظواهري بالانحراف عن نهج “قاعدة ابن لادن”. وأحرج “القاعدة” عندما كشف عن سرّ الصفقة التي كانت قد عقدتها مع إيران، بعد الحرب الأفغانية 2001، حينما قال العدناني إنّ “للقاعدة ديناً في عنق إيران”، والديْن هو حيلولة القاعدة المركزية دون السماح لأبو مصعب الزرقاوي، أمير فرعها في العراق سابقاً، بمهاجمة إيران، ولا حتى السماح لها بالضرب في السعودية، تنفيداً لأوامر زعماء القاعدة.
على الرغم من هذه الكلمات القاسية والعنيفة، فإنّ العدناني حظي بشعبية جارفة في أوسط أنصار التنظيم وأتباعه، إذ عزّز الصورة الصلبة القاسية التي عمل التنظيم على الظهور بها، منذ مرحلة الزرقاوي، مروراً بأبو عمر البغدادي، وأبو حمزة المهاجر، وصولاً إلى البغدادي والعدناني. ولم يسع التنظيم، في أيّ وقت، إلى مخاطبة الغرب والخصوم بنعومةٍ، ومحاولة تجميل صورته، بل كان واضحاً من خطابات العدناني النارية، والأفلام المصورة المتوحشة التي يبثها، أنّ فلسفته الإعلامية تختلف حتى عن القاعدة نفسها، وكأّنه يريد أن يقول لا أريد أن تحبوا التنظيم، بل أن تخافوا منه، واعتمد على ثيمة القوة، بوصفها الكلمة الوحيدة التي يفهمها الغرب والخصوم.
أصبح أبناء التنظيم وأنصاره ينتظرون خطابات العدناني هذه على أحرّ من الجمر، فهي الأكثر قدرة على ترسيم معالم الرواية السياسية والإعلامية لهم. لذلك، أطلقوا عليه مفتخرين وصف “منجنيق الدولة الإسلامية”، كنايةً عن حجم تأثير كلماته وخطابه الإعلامي. ولكن، منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2015، لم يظهر العدناني، ولم يخفّف من قلق أنصار التنظيم وأبنائه الذين يرون حجم الضغوط الشديدة التي يتعرّضون لها، وبعد الخسائر الاستراتيجية، أخيراً، في تدمر والرمادي، وحصار الفلوجة الحالي.
“ربما أصبح غياب صوت العدناني، ومعه رواية التنظيم، لغزاً جديداً مع ألغازٍ كثيرةٍ تحيط بالتنظيم، حتى الآن”

كانت آخر كلمة للعدناني بعنوان “قل للذين كفروا ستغلبون” تنبئ بما هو آتٍ، إذ أفاض فيها بنعي أحد أبرز قادة تنظيم الدولة (أبو المعتز/ أبو مسلم التركماني) بالشعر والكلام، ثم توعّد خصوم الدولة ممن وصفهم بالصليبيين، مفرداً مساحاتٍ واسعة لمهاجمة أميركا، والروافض (إيران والقوى الشيعية) وأخيراً المرتدّين، ويشمل هذا الوصف أغلب الدول السنية، لكنّه خصص ذلك الخطاب للسجال الذي يفضّله مع جبهة النصرة وشيوخ السلفية الجهادية والفصائل الإسلامية الأخرى، وأعاد التأكيد على منهج التنظيم في التعامل معهم بالقوة وقتل المخالفين بقوله “وحكمهم عندنا بعد القدرة واحد: طلقة في الرأس فالقة، أو سكين في العنق حاذقة”.
كان الخطاب مسكوناً، فيما لم ينطق به العدناني سابقاً، بالقلق من ترصيص التحالفات الإقليمية والدولية ضد التنظيم، ومن اتساع مساحة الصراعات والأعداء والخصوم، جرّاء الأيديولوجيا المتشدّدة والسلوك العنيف له. لكنّ الرجل، بعد هذا الخطاب العنيف، بل ربما الأكثر عنفاً بين خطاباته، اختفى مطوّلاً، وهو وإن كان يغيب شهوراً بين خطاباته وكلماته المتتالية، إلاّ أنّه أطال الاختفاء هذه المرّة، إلى زمن قياسي (ستة شهور) في ظل أصعب مرحلةٍ قد تكون مرّت على التنظيم، كان يحتاج أبناؤه وأنصاره، وربما خصومه، والمراقبون أمثالنا، إلى سماع روايته عمّا يحدث. وبالطبع، فإنّ المرشح الأبرز، والأكثر قدرة على بنائها وتقديمها وتسويقها، هو العدناني نفسه، فلماذا لم يظهر حتى الآن؟
يشير متابعون للتنظيم عن قرب إلى أنّ السبب انشغاله بالعمل الميداني العسكري المعقّد حالياً، وهي حجة غير مقنعة، إذ تمثل الرسالة الإعلامية جزءاً مهماً من الصراع الدائر، وهو أمر بدا أنّ التنظيم يدركه تماماً من خلال سلوكه السابق. والفرضية الأخرى مقتله أو إصابته إصابة شديدة في يناير/ كانون الثاني الماضي، كما ادّعت الحكومة العراقية، لأنّ المصادر الأميركية لم تؤكّد هذه الرواية. فيما تحدّثت أوساط عراقية، أيضاً، عن خلافات بين البغدادي والعدناني، وقد تكون هذه الفرضية جزءاً من الحرب المعنوية أو السلاح الذكي الذي تحدث عنه الصحافي الأميركي، ديفيد أغناتيوس، أي ترويج الإشاعات عن خلافات داخلية لإضعاف صلابة التنظيم الداخلية.
المفارقة أنّ هذا الاختفاء تزامن مع حديث مسؤولين أميركيين عن مسؤولية العدناني عن الهجمات العنيفة التي ضربت في نهاية العام الماضي، وخلال العام الجاري، عواصم غربية، مثل باريس وبروكسل، إذ تذكر المصادر أنّ التنظيم أسس قسماً للعمليات الخارجية، وأنّ العدناني هو المسؤول الأول عنه، لكن ذلك لا يعني، بالضرورة، أن يكون هذا “الدور” بديلا لدوره الذي عُرف به، “أي الناطق باسم التنظيم”، خصوصاً أنّ التنظيم لم يعيّن ناطقاً آخر.
كان أنصار التنظيم يفترضون أن يسمعوا صوت العدناني، وهو يتحدث عن الظروف الحالية الصعبة، لكنه لم يفعل، أو عن هجمات التنظيم في باريس وبروكسل، ولم يفعل، وربما أصبح غياب صوته، ومعه رواية التنظيم، لغزاً جديداً مع ألغازٍ كثيرةٍ تحيط بالتنظيم، حتى الآن.

محمد أبو رمان
العربي الجديد