ثمة جدال يدور في الأوساط السياسية والشعبية في مصر، حول دور الإعلام المصري على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث وجه الكثير من المحللين والمتابعين انتقادات ومآخذ عدة إلى أجهزة الإعلام المختلفة، لا سيما القنوات الفضائية، بعد ظهور العديد من الظواهر السلبية التي اتسم بها الأداء الإعلامي خلال الفترة الماضية، بدءًا من ظاهرة التسريبات والتعرض للحياة الشخصية لعدد من الشخصيات السياسية، وتدني لغة الخطاب الإعلامي في البرامج الحوارية، إضافةً إلى الخلل في أولويات واهتمامات القنوات الفضائية بشكل عام وغيرها من السلبيات، وصولا إلى الافتقار إلى الإحساس بالمسئولية تجاه قضايا الأمن القومي المصري، بعد أن تسبب عدد من الإعلاميين في إثارة الأزمات بين مصر وعدد من الدول في محيطها الإقليمي.
أولا- دور الإعلام في الأزمات الإقليمية:
تسبب الانفلات الإعلامي وغياب المهنية لعدد من الإعلاميين في إثارة أزمات دبلوماسية بين مصر وعدد من الدول الإقليمية، من أهمها:
– الأزمة مع الجزائر: تعود بداية تلك الأزمات إلى عام 2009، حيث افتعلها الإعلام الرياضي بعد مباراة كرة قدم بين منتخبي البلدين، في إحدى التصفيات الأممية المؤهلة لبطولة كأس العالم 2010، إذ تحول الأمر من مجرد مباراة لكرة القدم إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين، مما أدى إلى توتر العلاقات المصرية الجزائرية زهاء خمس سنوات، قبل أن تعود العلاقات إلى طبيعتها بعد زيارة الرئيس السيسي إلى الجزائر عقب توليه السلطة في عام 2014.
– الأزمة مع المملكة السعودية: وذلك بعد الهجوم الذي شنه عدد من الإعلاميين ضد السعودية، بدأه الإعلامي يوسف الحسيني قبل تولي الملك سلمان الحكم، حيث طعن في أهليته بسبب مرضه على حد زعمه، كما ادعى أن تولي سلمان للسلطة ليس في صالح مصر، وهاجم أيضًا ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، واتهمه بالسعي للسيطرة على وزارة الدفاع، فضلا عن هجومه على رموز دينية في المملكة مثل ابن باز وابن عثيمين.
يأتي ذلك في الوقت الذي هاجم فيه أيضًا الإعلامي إبراهيم عيسى الملك سلمان، واتهمه بدعم الإرهاب في سوريا، وطالب الرئيس السيسي بعدم التبعية للسياسة السعودية، نظرًا لضغطها -كما زعم- على النظام المصري لعودة الإخوان للحياة السياسية من جديد. فيما انتقد إعلاميون مثل: أماني الخياط، توفيق عكاشة، يوسف الحسيني، “عاصفة الحزم” التي قادتها السعودية ضد الحوثيين في اليمن، وتوقعوا فشلها لاحقًا. كما هاجم الإعلامي وائل الإبراشي المملكة من خلال انتقاده لنشاطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلا عن تلميحه إلى تغير نظرة المملكة للنظام الجديد في مصر. كما انتقد الإعلام المصري سياسات المملكة بعد قرار السفير السعودي لدى قطر باستقبال الدكتور يوسف القرضاوي (رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، في أكتوبر الماضي، للاحتفال بالعيد القومي للسعودية، فضلا عن انتقاده التحالف الإسلامي الذي أعلنت عنه المملكة في ديسمبر الماضي لمحاربة الإرهاب.
وقد ترتب على هذا الهجوم من بعض الإعلاميين على المملكة استياء ملحوظ على المستوى السعودي الرسمي والشعبي، حيث أعلن أحمد القطان، السفير السعودي في القاهرة، عن أسفه للتطاول الإعلامي على المملكة ورموزها السياسية، واحتجاج بلاده لدى القيادة السياسية المصرية. وعلى المستوى الشعبي، دشن مجموعة من النشطاء السعوديين مجموعة من الـ”هاشتاج” على شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر”، بلغ بعضها 21 ألف تغريدة، أبرزها:
#الإعلام_المصري_يهاجم_السعودية و#السعودية_تحتج_رسميا_على_إعلام_السيسي، كما هاجم عدد من الكتاب السعوديين مصر، ومواقفها السياسية الإقليمية، وتحديدًا فيما يخص التدخل الروسي في الأزمة السورية، وعلى رأسهم الكاتب والإعلامي جمال خاشقجي، وطالبوا القيادة السياسية بالتدخل لوقف ما أسموه بتجاوزات الإعلام المصري. وقد أعلنت قناة “العربية” السعودية في فبراير 2015 وقف برنامجي “الحدث المصري” و”الشارع المصري” كرد فعل على الهجوم الإعلامي المصري على المملكة، ولم تكتف بذلك، بل قامت القناة بعرض برنامج “عصير انتخابي” الذي حمل قدرًا من السخرية في تناوله للانتخابات البرلمانية الأخيرة ونتائجها. وجدير بالإشارة أنه أعقب ذلك التوتر الذي أحدثه الإعلام بين البلدين -وإن لم يظهر على السطح- زيارة للرئيس السيسي إلى السعودية، قيل إنها لتهنئة ولي العهد وولي ولي العهد السعوديين، لكنّ المحللين أرجعوها إلى محاولة قطع الطريق على أية احتمالات لتوتر بين الجانبين على خلفية ما افتعله الإعلام من أزمة.
– الأزمة مع المغرب: تسببت الإعلامية أماني الخياط في يوليو 2015، في أزمة دبلوماسية بين مصر والمملكة المغربية، بسبب تصريحاتها عبر برنامجها على قناة On TV التي هاجمت فيها المملكة المغربية والملك محمد السادس، قبل أن تعتذر عنها في اليوم التالي، عقب مظاهرات قامت بها الجالية المغربية أمام القناة، حيث انتقدت الخياط زيارة الملك إلى تركيا، وادعت أن الاقتصاد المغربي قائم على الدعارة، كما اعتبرت أن الملك قد عقد صفقة مع الشيطان لإنقاذ حكمه، في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم بحجة انتمائه لتنظيم الإخوان المسلمين، وأن المغرب من أكثر الدول إصابة بفيروس الإيدز، فضلا عن هجوم الفنان يوسف شعبان، وادعائه أن الملك الحسن الثاني من أصول يهودية، قبل أن يعتذر أيضًا.
وقد أثارت الإعلامية ريهام سعيد أيضًا أزمة بعد تصويرها مشاهد عن الجن والدعارة في المغرب، على الرغم من استخراج تصريح مغربي لبرنامجها بهدف لقاء مع أحد الفنانين المغاربة، وتصوير مشاهد خارجية للتعريف بالسياحة المغربية، وهو ما دعا وزارة الاتصالات المغربية للتحقيق معها، وفريق العمل الخاص بالبرنامج. كما تسبب في تفاقم الأزمة زيارة وفد صحفي مصري إلى مخيمات الصحراء الغربية (جبهة البوليساريو) في مدينة تندوف الجزائرية، المتنازع عليها مع المغرب منذ سبعينيات القرن الماضي، وكذلك إصدار كتاب “الصحراء الغربية في عيون مصرية”، فضلا عن عدد من المقالات المتعلقة بهذه الزيارة في عدد من الصحف المصرية، وزيارة الوفد الصحفي المصري إلى الجزائر للمشاركة في لقاء دولي يدعم الجبهة، الأمر الذي ساهم في تأزم العلاقات الدبلوماسية مع المغرب.
وفي رد فعل مغربي على الممارسات الإعلامية والصحفية المصرية، قامت السفارة المغربية في القاهرة بتقديم بلاغ للنائب العام، كما نظمت الجالية المغربية في مصر وقفة احتجاجية أمام مقر القناة، ومثلها خرجت في الشوارع المغربية احتجاجًا وتنديدًا بما حدث. فيما تطور الأمرُ من خلال قيام التلفزيون المغربي الرسمي (القناتان الأولى والثانية) بعرض تقريرين إخباريين في أحد نشراته الإخبارية، واصفًا ما حدث في 30 يونيو 2013 بالانقلاب على الشرعية، كما تضمن التقريران هجومًا على الرئيس السيسي، وهو ما رآه البعض تغيرًا كبيرًا في الموقف المغربي. وفي هذا السياق، جاءت على الأرجح زيارة السفير سامح شكري، وزير الخارجية المصري، إلى الرباط عقب تلك الموجة من التوتر بين البلدين كمحاولة للتأكيد على حرص مصر على علاقات متميزة مع المغرب، فضلا عن تصريح الخارجية المصرية بأن الإعلامية أماني الخياط لا تعبر إلا عن رأيها.
– الأزمة مع السودان: وجه عدد من قنوات الإعلام المصرية انتقادات ضد دولة السودان، على خلفية أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، حيث اتهم الإعلامُ المصري السودانَ بالتضامن مع إثيوبيا في هذه الأزمة، ووقوفها ضد مصالح مصر المائية، كما وصف موقعُ “البوابة نيوز” السودانَ بأنها ليست دولة شقيقة. وترتب على ذلك هجوم مضاد من الإعلام السوداني، حيث هاجمت القنوات والصحف السودانية مصر، كما ظهر عدد من الشعارات العدائية ضد مصر والمصريين. وحمَّل الرئيسُ السوداني عمر البشير الإعلامَ المصري مسئولية ما حدث من توتر بين البلدين، كما اتهم -في لقاء معه على قناة “سكاي نيوز”- الإعلام المصري بتأجيج الصراعات وخلق الأزمات، ووصفه بالرديء، وأبدى استياءه من تناول الإعلام لقضية حلايب وشلاتين، مشيرًا إلى أن الإعلام يتعمد إحراجه أمام شعبه، ويضطره إلى تبني سياسات على خلفية الأداء الإعلامي، موضحًا أن الإعلام هو السبب الأكبر في خلق التوترات بين البلدين.
– الأزمة مع إثيوبيا: مع بدء اندلاع الأزمة بين مصر وإثيوبيا، بعد شروع الأخيرة في بناء سد النهضة في أبريل 2011، كان لبعض السقطات الإعلامية دورها في تأزيم القضية مع الجانب الإثيوبي الذي استغلها لصالحه ضد مصر، حيث أدت إذاعة الاجتماع الشهير الذي عقده الرئيس الأسبق مرسي مع بعض القوى السياسية بشأن كيفية التعاطي مع أزمة سد النهضة إلى آثار سلبية أثرت على مسيرة المفاوضات بين الطرفين، فضلا عن الترويج الإثيوبي للتهديدات المصرية على الساحة الدولية بما يخدم أهدافها ومصالحها فيما يخص استكمال بناء السد. كما أثارت الإعلامية رانيا بدوي في برنامجها على قناة “التحرير” أزمة دبلوماسية إثر لقائها مع محمود درير، السفير الإثيوبي في القاهرة، بعدما هاجمته في مداخلة تليفونية قبل أن تُغلق الهاتف دون أن يُنهي مداخلته، الأمر الذي دعا السفير الإثيوبي إلى تقديم مذكرة احتجاج إلى وزارة الخارجية المصرية احتجاجًا على الأسلوب الذي اتبعته الإعلامية معه.
– الأزمة مع حركة حماس: أدى التوتر الذي تصاعد بين مصر وحركة حماس الفلسطينية، بعد ثورة 30 يونيو التي أطاحت بالإخوان المسلمين من السلطة، إلى قيام بعض الإعلاميين بالهجوم على الحركة، خاصةً بعد الحكم القضائي القاضي باعتبار حركة حماس إرهابية، حيث هاجم الإعلامي توفيق عكاشة الشعب الفلسطيني، واتهمهم بالتخاذل في المطالبة بحقوقهم والثورة ضد حركة حماس في قطاع غزة، كما طالبت الإعلامية حياة الدرديري باستهداف حماس عسكريًّا على اعتبار أنها السبب في تدهور الأوضاع الأمنية في سيناء، فضلا عن دعمها لجماعة الإخوان.
وعلى الرغم من قيام بعض القنوات باستبعاد بعض الإعلاميين من الذين تسببوا في تلك الأزمات لتهدئة الموقف، مثلما حدث مع كلٍّ من رانيا بدوي وأماني الخياط؛ إلا أن تداعيات بعضها لا تزال مستمرة حتى الآن. كما أن حالة اصطفاف الإعلام مع النظام الجديد، وإعلان بعض الإعلاميين صلاتهم الوثيقة ببعض أجهزة الدولة؛ قد أثارت انتقادات إقليمية، على اعتبار أن تجاوزات هؤلاء الإعلاميين تعبر عن توجهات السياسة غير المعلنة للدولة المصرية، وهو ما تسبب في تداعيات سلبية في علاقات مصر ببعض دول الإقليم. ومن ثم، فإن الأمر يتجاوز مجرد عقوبة للإعلاميين، بل يتخطى إلى أزمة حقيقية يعانيها الإعلام المصري الذي لا يُظهر مسئولية تجاه أمن البلاد القومي، وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي في تصريحاته المتكررة حول وضع الإعلام المصري الذي اتهمه مؤخرًا بعدم الموضوعية، والعمل من منطلق جهل، وعدم وعي في تناوله للقضايا الداخلية.
ثانيًا- كيف يمكن للإعلام أن يمارس دوره كأداة فعالة؟
في الوقت الذي ينبغي أن يلعب الإعلام فيه دورًا مهمًّا في مساندة الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو، من خلال دور إيجابي يصنع منه أحد أهم الأدوات التي تخدم السياسة الخارجية للدولة؛ نجد أن المشهد الإعلامي المصري قد تحول إلى مزيدٍ من الفوضى، وغياب المهنية والرؤية، فضلا عن السطحية التي يتعامل بها كثير من الإعلاميين مع قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي للبلاد، مما زاد من المشكلات التي تواجه الدولة في علاقاتها الخارجية، فالعلاقات الدولية أخطر من أن تُترك للإعلام. ومن ثمَّ، هناك حاجة ماسة إلى عقلنة الإعلام المصري من خلال إستراتيجية شاملة لعلاج القصور الذي يُواجهه هذا القطاع المهم، ويبدأ ذلك مع الاهتمام بإعادة هيكلة إعلام الدولة، والعمل على حل مشكلاته البنيوية والهيكلية، بغية إنتاج خطاب إعلامي مؤثر على الصعيد الداخلي، والإقليمي، والدولي، والعمل على الحد من سيطرة رجال الأعمال على الإعلام والمستمر منذ تسعينيات القرن الماضي، فضلا عن ضرورة تأهيل الإعلاميين الذين يخاطبون الجماهير للتعامل مع القضايا المختلفة، وحتمية فرض عقوبات على كل من يخطئ من الإعلاميين، حتى لا ينعكس الأمر بالسلب لدى المواطن بأن بعض الإعلاميين فوق المساءلة، والعمل على ترسيخ معايير قيمية وأخلاقية للمنظومة الإعلامية، بما يمكنها من ضبط الأداء الإعلامي، علاوةً على ضرورة وجود ميثاق شرف إعلامي متكامل، إضافة إلى ضرورة إنشاء نقابة للإعلاميين لضبط العمل الإعلامي، ومطالبة البرلمان بالسرعة في إصدار نصوص تشريعية بشأن عمل الصحافة والإعلام، بغية تفعيلها في شكل تنظيمات وقوانين ونظم وهيئات ضابطة تنظم عمله على أرض الواقع.
ومن ثم، فهناك ضرورة حتمية تقتضي ضبط أداء الإعلام المصري، لا سيما في تناوله للعلاقات المصرية الإقليمية، لمنع إفساد العلاقات وإثارة الأزمات، خاصة أن معظم الدول الإقليمية لها موقف إيجابي تجاه مصر منذ ثورة 30 يونيو على كافة المستويات السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، كموقف المملكة العربية السعودية. ومن ثمَّ، فإن الإدراك بوجوب الاصطفاف الوطني من قِبل كافة المؤسسات، وعلى وجه الخصوص الإعلام المصري، في ظل التحديات الداخلية والمتغيرات الإقليمية التي تواجه مصر، يُعد أمرًا حتميًّا إذا أردنا مستقبلا من شأنه أن يدفع مصر ما بعد 30 يونيو إلى دورها الريادي المعهود إقليميًّا ودوليًّا.
أحمد عسكر
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية