يعكس تصريح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن روسيا دولة إقليمية، طبيعة التقدير الأميركي لقوة روسيا وحدود هذه القوة، وطبيعة الاستجابة الأميركية للتحدي الذي تظهره روسيا، ولا تحتاج واشنطن عناءَ كبيراً للبحث عن نقاط ضعف روسيا وتحليلها ومعالجتها، ومن ثم بناء تقديرات حولها، ففي عصر الإعلام المفتوح والعولمة، تتوفر المعطيات بسهولة، ولم يعد بمقدور أجهزة الدول إخفاء عناصر ضعفها بالتحديد وأساليب وطرق إداراتها.
روسيا، بمنطوق المعطيات، بلد ينطوي على أعطابٍ بنيويةٍ على كل المستويات، الديمغرافية والعسكرية والاقتصادية، ويحتاج كل مستوى إلى معجزة، حتى يخرج من أزمته، ويصعب تطويره وضخ الحياة في عروقه بدون إجراءاتٍ عميقةٍ واستثمارات عقلانية وطويلة الأمد، وهو ما لم يتوفر، في ظل قيادة متوترة ومشتتة الأهداف غير العقلانية بطبيعة الحال، مثل إعادة إحياء القومية السلافية والدفاع عن الأرثوذوكسية في وجه الثقافة الأوروبية الزاحفة عبر خواصر روسيا الرخوة، من أوكرانيا ولاتفيا، إلى مواجهة تمدّد حلف الناتو الذي يطبق الخناق على روسيا.
لا شك في أن الغرب لم يكن بريئاً في تعامله مع روسيا، وقد دفع موسكو إلى اتخاذ هذه السياسات، استجابة للتحديات التي فرضها عليها، منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي، وكان المقصود من ذلك كله جعل روسيا تغرق في تفاصيل هذه السياسات، بما يضمن تشتت مواردها، وعدم القدرة على تركيز قوتها، حتى لا تتحول إلى قوة وازنة في الفضاء الأوروبي وفي المجال الدولي عموماً، وكانت روسيا تحتاج إلى فترة راحة، تستطيع من خلالها إعادة بناء قوتها، بعيداً عن الانخراط في أزمات جديدة، تماماً كما فعلت الصين التي خضعت لعملية تحول عميقة، أخذت مداها الزمني، وقامت على أساس تكييفات عديدة، أجرتها في بناها ومفاصلها كافة، وجرى ذلك كله في بيئة دولية مناسبة.
حاولت روسيا توفير بعض الشروط، لتحقيق انطلاقتها، لكن استثماراتها لم تنجح في هذا المجال، حيث سعت إلى جعل مجموعة “بريكس” شبكة أمانٍ لها. لكن، مع الزمن، تراجعت التوقعات بأن تشكل هذه الدول منافساً أو بديلاً للاقتصاديات الغربية، كما حاولت روسيا إدماج نفسها بآسيا، لكنها وجدت أن آسيا مكتفية بذاتها. ومن الصعب أن تحقق روسيا نجاحاتٍ مهمةً في المقلب الآسيوي، حتى المشروع الأوراسي الذي تتبناه روسيا، لم تجد، حتى اللحظة، المجال الجغرافي القابل لاستيعابه وتطبيق الحلم الروسي فيه.
أمام هذه المعوقات، لم تجد روسيا سوى اللجوء إلى السياسات الصلبة لمواجهة التحديات التي تواجهها، ولا شك في أن هذا النمط من التعاطي يحتاج إلى تظهير نمطٍ من القيادات الكاريزمية، والمتسلّطة في الوقت نفسه. وبالفعل، أنتجت هذه المناخات فلاديمير بوتين الذي يصعد نجمه في سماء العالم، إلى درجة ان الإعلام الأميركي صنّفه أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم، لكن المفارقة أنه في مقابل صعود نجم بوتين، كان كل شيء في روسيا يتراجع من الاقتصاد إلى الرياضة والإنتاج العلمي والثقافي، وكأن الخبرة الغربية في التعامل مع مجتمعات العالم الأقل تطوراً تقوم على قاعدة إذا أردت لبلد التراجع والهبوط، عليك بإيصال زعيمه إلى السماء، دع الإعلام يتولى هذه المهمة.
أمام اندفاع بوتين، اتبعت واشنطن سياساتٍ بدت، في مظهرها، تراجعية، وانطوت على إغراءاتٍ لمزيد من الاندفاع والتورط. وعلى عكس ما حاولت واشنطن إشاعته عن تصدّيها للإجراءات العدائية الروسية، عملت بشكلٍ حثيثٍ على فتح نوافذ جديدة لتوسيع رقعة التورط الروسي، لم تصطدم، حتى اللحظة، مع موسكو، بل كانت تشجعها تارةً بالصمت، وتارة بالتوافق، وتارة أخرى بالتغابي السياسي، بمعنى أنها تظهر التباساً في فهم مواقف موسكو، عندما يتحول الأمر إلى إشكالية في تسويق مواقفها لدى الحلفاء.
بالحسابات الأميركية، ليست طاقة روسيا بالحجم الذي تعجز واشنطن عن تصريفه، وهي مرشحة للاستنفاد، عبر بؤرة صراع أو اثنتين في أقصى حد، من منطلق أن هذه الطاقة لا تملك قاعدة متينة، تضخ فيها شحناتٍ إضافية، ولا إمكانات حقيقية، تسمح لها بالاستمرار، وتقوم مكونات هذه الطاقة على بعضٍ من مدخرات أرصدة وأسلحةٍ، لم تكتمل بعد عملية تطويرها.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للأزمة السورية؟ يعني أن أميركا لن تدخل لا في مواجهة حاسمة مع روسيا، ولن تتخذ إجراءاتٍ من شأنها تغيير المعادلة، ودفع روسيا إلى التراجع، ما دامت واشنطن تنظر إلى الأزمة السورية بوصفها واحدةً من الأدوات التشغيلية للاستنزاف الروسي، وأن تصريحات مسؤوليها، أخيراً، عن وجود خطة بديلة في سورية ما هي الا محاولة لإسكات حلفائها، ومنع تدحرج حرب إقليمية، بما يحرج أميركا باتخاذ موقف صارم من روسيا لا تريده الآن.