على خلفية اقتحام أنصار مقتدى الصدر مجلس النواب العراقي في المنطقة الخضراء دعا الرئيس العراقي فؤاد معصوم، الذي خشى من انهيار النظام السياسي القائم منذ عام 2003، الرئاسات الثلاث إلى عقد اجتماع لـ”تدارس تداعيات الأحداث والإسراع بالإصلاحات”، بحضور الكتل النيابية والسياسية. ولم يفض الاجتماع بينهم لحل ينهي الأزمة السياسة الراهنة في العراق وتباينت المواقف والتصريحات. ففي الوقت الذي أدان بيان لهيئة الرئاسة العراقية وزع في ختام الاجتماع “اقتحام مجلس النواب العراقي والاعتداء على عدد من أعضاء المجلس”، قائلا إن “ما حصل هو تجاوز خطير لهيبة الدولة”. وطالب “بمقاضاة المعتدين أمام العدالة لأن ذلك يشكل خرقا فاضحا للإطار الدستوري”.
وصف رئيس ائتلاف الوطنية اياد علاوي، اجتماع الرئاسات الثلاث، بــ” المخيب للامال”، وقال في رسالة وجهها الى رئيس الجمهورية فؤاد معصوم انه “لن يحضر مثل هذه الاجتماعات مستقبلا”. واكد إياد علاوي في رسالته للرئيس العراقي فؤاد معصوم الآتي: “اقترحت عليكم عقد مثل هذا الاجتماع، واستغربت من محاولة ترك الامور الجوهرية كمناقشة ازمة العملية السياسية وتراجع الاصلاحات”. واضاف ان “اهتمام المجتمعين انصب على محاولة اضعاف فكرة التظاهرات والاعتصامات تحت ذريعة الربط بين المعتصمين والمتظاهرين السلميين من جهة وبين المندسين الذين انتهكوا حرمة مجلس النواب واعتدوا على بعض النواب من جهة اخرى”. وأوضح إياد علاوي “تبين لي لانه لا توجد نية للاصلاح الحقيقي باستثناء قلة من المجتمعين، ولا توجد رغبة في بحث المشاكل الجوهرية وانما التشبث بظاهر ما حدث من دون مناقشة اسباب ما آلت اليه الامور”، موضحا “انني اود اعلامكم من اني لن احضر اي اجتماع بهذا المستوى من البحث الذي لا يرقى الى معالجة جذور الازمة للوصول بالبلد الى شاطئ الامان والسلام والاستقرار”.
وكان رئيس ائتلاف الوطنية أياد علاوي دعا في وقت سابق إلى إقامة انتخابات مبكرة نزيهة تحت إشراف الامم المتحدة بعد أن وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود بسبب تمسك السياسيين بالكراسي والمحاصصة وعدم الالتفات لمطالب الشعب. مشيرا في بيان وزعه مكتبه إلى ان رئاسة الجمهورية هي الجهة الوحيدة المعول عليها الان للعبور من الازمة السياسية من خلال جملة خيارات من بينها تشكيل حكومة انقاذ وطني جديدة لمدة عام. وينسجم موقف صالح المطلق رئيس إئتلاف العربية بشكل كبير مع موقف إياد العلاوي إذ طالب رئيس الجمهورية فؤاد معصوم بارسال كتاب سحب الثقة عن رئيس الوزراء حيدر العبادي، دعا الى تشكيل حكومة انقاذ وطني. ومن جانبه حمّل هادي العامري رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي المسؤولية الكاملة عن اقتحام أنصار مقتدى الصدر المنطقة الخضراء فيما صار يعرف عراقيا بأحداث الثلاثين من نيسان/إبريل، وطالبه بالاستقالة من رئاسة الوزراء.
هذا الاقتحام الذي يشكل -لغاية الآن- آخر تجليات الأزمة السياسية في العراق بأن هناك حراك من قبل بعض السياسيين العراقيين ضد رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري لتصفية حسابات شخصية معه ولكن هذا الحراك فشل، لينتقل بعد ذلك ضد رئيس الحكومة حيدر العبادي لتصفية ذات الحسابات وتقديمها على الاعتبارات الوطنية وتحميله كل عثرات العراق. علماً بأنه ليس هو المسؤول عن تلك العثرات والكوارث الذي يعيشها على كافة المستويات.
فحينما تقلد حيدر العبادي منصب رئيس الوزراء كان النظام السياسي العراقي يعاني من أزمات عدة عميقة، كالأزمة الاجتماعية إذ مزقت الطائفية أوصر المجتمع العراقي وخلقت توقعا نفسيا في نفوس المواطنين العراقيين تجاه بعضهم البعض، وعبثاً جسدت هذه الطائفية مصطلح غريب عن الثقافة العراقية وهو مصطلح”الآخر”!. كما تقلد منصبه والعراق يعاني أزمة اقتصادية خانقة، بلد مفس ماليا ومرد هذا الإفلاس، الفساد الذي ضرب كل مفاصل النظام السياسي العراقي، وفي هذا السياق تؤكد تقارير وكالة الشفافية الدولية أن العراق لا يزال إلى الآن، ومنذ 13 سنة في مقدمة الدول الأكثر فسادا في العالم، حيث كشف تقرير أخير للوكالة أن 29 بالمئة من العراقيين اعترفوا في استطلاع للرأي بأنهم قدموا رشاوى لمسؤولين أمنيين وقضاة وإداريين كبار، كما تتفشى هذه الظاهرة في دوائر تسجيل العقارات والصحة والضرائب والخدمات كالماء والكهرباء وغيرها. وأكد عدد من الخبراء أن ضعف الدولة وأجهزتها وعدم تمكنها من القيام بدورها في تقديم الخدمات العمومية للمواطنين، يعد من الأسباب الرئيسية وراء انتشار ظواهر الفساد الملتصقة عضويا بالمسؤولين السياسيين الكبار في الدولة، خاصة في ظل حديث تقارير صحافية وتسريبات عن أموال طائلة اكتسبها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وبعض وزرائه في فترة حكمهم للعراق.
وإلى جانب تلك الأزمتين تبرز الأزمة الأمنية فالرجل أي حيدر العبادى استلم رئاسة وزراء العراق في الوقت الذي سيطر فيه تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” الإرهابي في حزيران/يونيو عام عام 2014م على عدة محافظات عراقية يغلب عليها التكوين السُني. فكيف يمكن لأي رئيس وزراء أن يحقق أي انجاز مع هذه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية الحادة؟! ومع ذلك لم يستكين رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فقد استمر في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي”، وبموازاة ذلك طرح مشروعه الإصلاحي للخروج بالعراق من أزماته، وقد يكون هذا المشروع الذي باشر في تنفيذ بعض فقراته كإلغاء منصب نائب رئيس الجمهورية هو السبب الذي جعل من خصوم الأمس حلفاء اليوم!.
فما من شك من يمتلك مشروع إصلاح لبلاده يكون أبعد عن ممارسة الطائفية في سياساته الداخلية، إذ يحسب لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ومنذ توليه رئاسة الحكومة العراقية في آب/أغسطس عام 2014م، لم يمارس الطائفية ضد أبناء المكون السني والدليل على ذلك، على الرغم من التصريحات “النارية” من قبل بعض السياسيين أو البرلمانيين السنة ضد رئيس الوزراء حيدر العبادي إلا أنه لم يلق القبض على أحد منهم كما كان يفعل غيره في خصومه “السُنة” وهو يتولى ذات المنصب في يوم ما، فالخصوم إما كانوا في المعتقلات أو في المنافي أو تحت التراب. فما من شك أيضاً من يمتلك مشروع إصلاح لبلاده أن ينبذ العنف في مواجهة معارضيه من أبناء وطنه، فعلى الرغم من اقتحام أنصار مقتدى الصدر المنطقة الخضراء، لم يجنح لاستخدام العنف ضد المتظاهرين العزل وإنما تعامل مع الموقف الصعب بحكمة كأي رجل دولة يُغلب المصلحة الوطنية على الاعتبارات الشخصية والوظيفية، فلا يجوز إراقة دماء أبناء الوطن لمجرد التباين -حتى وإن كان حاد- في المواقف السياسية. واكتفى فقط بإقامة دعاوى قضائية ضد المقتحمين للمنطقة الخضراء، فهذا التصرف ينم عن سلوك متحضر في العمل السياسي والنظام الديمقراطي الذي العراق وسياسته بأمس الحاجة إليه.
تجد الأزمة السياسية الراهنة في العراق وإن كانت أزمة عراقية داخلية صداها على المستوى العربي والإقليمي”تركيا” والدولي”الولايات المتحدة الأمريكية، فجميع هذه المستويات تدعم الشرعية في العراق وتقف ضد عملية الاقتحام. ففي ابرز تصريح وموقف للولايات المتحدة الأميركية من الأزمة السياسية عقب احداث اقتحام المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان العراقي السبت الماضي. اعتبر وزير الدفاع الأميركي “آشتون كارتر”، أن رئيس الوزراء حيدر العبادي في “موقع قوي” رغم الأزمة الحالية، فيما أكد استمرار بلاده بدعمه”.وقال آشتون كارتر، إن “رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي في موقع قوي رغم الأزمة السياسية الحالية التي تشهدها البلاد”. وأضاف “الولايات المتحدة مستمرة بدعم العبادي”. إذ يفهم من هذا التصريح أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بقوة للحفاظ على العملية السياسية في العراق وعلى نظامه الديمقراطي والتمسك برؤساء الرئاسات الثلاث في مناصبهم.
وتجدر الإشارة هنا عن ما أشيع من محاولة انقلاب على الشرعية من قبل فريق أول ركن طالب الشيغاني قائد القوات المشتركة في العراق وزهير الغرباوي مدير جهاز المخابرات وعماد كهيه وعماد الخرسان، وتشكيل حكومة إنقاذ، أمر عار عن الصحة، لأنه لا يوجد ولاء للمؤسسة العسكرية العراقية في الوقت الراهن، وإنما ولاءات متعددة وهذا مرده أن تلك المؤسسة فقدت هيكليتها العسكرية وبالتالي تعددت الولاءات بداخلها.
ولا ريب أن عودة العراق إلى عهد الانقلابات العسكرية إبان عقد الخمسينيات والستينيات من القرن المنقضي، وفي هذا الوقت الذي يمر به العراق، يعني دخوله في صراع مرير يُمهد لسيطرة “الدولة الموازية” المعروفة بدولة المليشيات التي ظهرت على المشهد العراقي بقوة بعد عام 2003م، فأن يُحكم العراق من قبلها ليس من مصلحته أولاً ولا مصلحة الآخرين لذلك لن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية بحدوثه كونها المعنية في نجاح التجربة الديمقراطية في العراق لأن استقرار العراق من استقرار المنطقة برمتها.
في الختام أن الأزمة السياسية الراهنة في العراق هي تتويج لأزمة عمرها من عمر النظام الحالي الذي أقامه الاحتلال الأميركي على أساس هش، ولم يبذل السياسيون العراقيون جهدا حقيقيا لتمتينه وتقويته، لا لشيء إلا لأنهم غير واثقين من إمكانية استمراره، فالأزمة لا تتجسد في شخص رئيس الوزراء حيدر العبادي كما يحلو لخصومه السياسيين الربط بينهما. فهي أعمق وأشمل.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية