وصلت الهيستيريا المعادية للروس مستويات استثنائية في واشنطن الرسمية، مترافقة مع مزاعم محمومة تتهم روسيا بقرصنة البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي، لكن هذا “التفكير المجموعاتي” الزائد على حده يهدد مستقبل العالم.
* * *
متى ناقشت مؤسسة أميركا، في الانتخابات أو في أي أوقات أخرى، قضايا الحرب والسلام حسب فهم الشعب ورضاه؟ عملياً، لم تفعل ذلك أبداً. لم يكن ثمة تفويض لخوض الحروب في فيتنام أو كمبوديا أو العراق أو ليبيا أو سورية، أو في دزينة من النزاعات الأخرى.
بطبيعة الحال، ما إن تندلع حرب حتى يكون هناك ميل لدى الأميركيين لرص الصفوف ورفع الأعلام وشد الأربطة على الأكمام وإطلاق الشعارات من قبيل “ادعموا قواتنا” و”أحبب هذا أو اتركها”. ويعرف كبار القادة هذا النمط النفسي، ويعولون عليه في كل مرة.
المشكلة الأساسية في حكومة أميركا هي وجود هيكل سياسي مركب يشبه الديمقراطية إلى حد كبير، وإنما بحكم فعلي من جانب مؤسسة قوية ومجموعة من المصالح الخاصة -كلها يدعمها جهاز أمني عملاق وجيش ضخم لا يعرف حتى ماذا يفعل بنفسه في أوقات السلم. ولسوء الطالع، فإنني لا أعتقد أن هناك أي حل ظاهر لهذه الحقيقة السياسية المرعبة. وبينما كانت تؤثر ذات مرة على الأميركيين أنفسهم، فقد أصبحت اليوم تطال الكوكب كله.
ثمة عنصر جديد مكثف أضيف إلى المؤسسة الحاكمة في أميركا: دفع المحافظين الجدد نحو التفوقية الأميركية في كل مكان، ومن أجل الهيمنة التامة على الكرة الأرضية في شيء مشابه على نحو مخيف لاندفاعات سابقة لحكومات فاشية، والتي لم تجلب سوى التعاسة والبؤس الإنسانيين على نطاق واسع.
أعتقد بأن المحرك الكامن عند المحافظين الجدد هو تأمين الأمن المطلق لمستعمرة أميركا في الشرق الأوسط، إسرائيل -وبعبارات أخرى: ينصب اهتمامهم على ضمان هيمنة إسرائيل على كل منطقتها من دون السماح لأي أحد آخر بالتصرف لخدمة مصالحه الخاصة. ولا غرو، فإن إسرائيل تتمنى أن تنخرط الولايات المتحدة بعمق في كل أنحاء المعمورة حتى تتمكن من الإفادة من علاقتها الغريبة مع أميركا.
لم يتطلب الأمر المحافظين الجدد لإشغال مؤسسة أميركا بالتدخل في شؤون الشعوب الأخرى. فالمعروف أن أميركا تزخر بتاريخ طويل من القيام بذلك، والذي وراءً إلى الحرب المكسيكية والحرب الإسبانية-الأميركية والحرب الفلبينية-الأميركية والاستيلاء الغرائبي على جزيرة هاواي من شعبها، والذهاب من ثم إلى حرب عبثية في فيتنام وكمبوديا على أمل الإبقاء على المحيط الباسفيكي بحيرة أميركية صرفة. لكن المحافظين الجدد أضافوا قوة جديدة ونبضاً جديداً لشيء كان من الأفضل تركه وشأنه، وهم يتمتعون بنفوذ قوي جداً في الشؤون الأميركية.
المعروف أن المواطنين الأميركيين العاديين لا يعبأون بشؤون العالم الخارجي. وثمة كمية كبيرة من الأدلة التي تدعم هذا القول. وكان الإمبرياليون الأميركيون في الأزمنة المبكرة قلصوا هذا المنحى وقصروه على السعي إلى تحقيق السلام في الوطن ومع اسم مشتق بالإسقاط، النزعة الانعزالية. وأصبح تجنب الانعزالية تبريراً لسلسلة كاملة من الحروب والتدخلات.
وعليه، لا يمكن السماح للأميركيين اليوم بالعودة وراء إلى ميلهم الطبيعي إلى عدم الاهتمام بالخارج. هكذا نرى دفع المحافظين الجدد، وهكذا نرى أميركا تدفع، للأسف، نحو مواجهة مباشرة مع روسيا، ومع الصين أيضاً بطبيعة الحال، لكن روسيا هي نقطة تركيزي هنا نظراً لأن روسيا هي البلد الوحيد في العالم القادر حرفياً على محو الولايات المتحدة من الوجود. وثمة شعور هنا لا يرقى إليه الشك بروما التي تريد أن تستولي على قرطاج، على الرغم من أن الفرسان والسيوف والرماح والمجانيق لم يعودوا يستطيعون تسوية مثل هذه النزاعات.
يتفاقم الوضع بسبب إدراك المؤسسة الأميركية لحقيقة أيام تفوقها غير المشكوك فيه في العالم آخذة في التراجع إلى قاع الذاكرة، في حين تنمو بلدان أخرى وتتطور ولديها مصالح مهمة في الشؤون العالمية.
بالعديد من الاعتبارات، ما يزال الانزلاق أسفل التلة طويلاً بالنسبة للمواطن الأميركي العادي منذ الذروة الاقتصادية في الخمسينيات. وهناك تدنٍ في المداخيل الحقيقية وتدنٍ في فرص الوظائف الجيدة في الوطن، وتصدير الصناعات الأميركية إلى أماكن في الخارج، حيث العمالة أقل كلفة، والانهيار الفعلي للبلدات والمدن الأميركية في العديد من الأماكن. وربما تكون ديترويت هي الحالة الأكثر مدعاة للحزن –حيث كل هذه ظواهر واضحة عاماً بعد الآخر.
منظور مفقود
أعتقد فعلاً أن المؤسسة الأميركية ببساطة لا تعرف كيف تتدبر أمر دورها في عالم جديد وشجاع، سوى بفعل شيء تعتقد بوضوح أنها يجب أن تفعله. وهذه حالة عقلية خطيرة للغاية. إنها مسلحة بجيوش جرارة وتتوافر على أسلحة مرعبة بحيث تحتفظ بالشعور بأنها قادرة على التصرف بطريقة ما لاستعادة مكانتها إلى الأبد، وهو وهم وسراب مطلقان.
نعرف من المفكرين في الماضي أن الدور الذي يستطيع مجرد وجود قوة عسكرية رهيبة لعبه هو دور كارثي. وكانت الجيوش الضخمة دائماً من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء قيام الحرب العالمية الأولى، وهي نزاع أفضى إلى مقتل 20 مليون إنسان. وقد كررت ألمانيا الجهد نفسه، حيث عملت حكومة هتلر بلا كلل على خلق ما كان ليكون أفضل وأكثر الجيوش تطوراً في العالم حتى ذلك الحين، لكنها انتهت هي أيضاً إلى كارثة -بل وبأضرار أفدح.
لم تكتشف أميركا السر في جعل نفسها منيعة، مع أنني أخشى أن مؤسستها تعتقد بأنها تستطيع فعل ذلك، ويشكل هذا أكثر أنواع التفكير الممكن خطورة.
بما يتناقض مع الخطابات السياسية، لم تظهر مؤسسة أميركا اهتماماً كبيراً برفاه المواطنين الأميركيين العاديين. واليوم، أصبح افتقارها للاهتمام واضحاً على الأغلب. فسناتورات واشنطن البيض والمتخمين ينفقون كل أونصة من الجهد تقريباً في نشاطين اثنين: جمع الأموال من المصالح الخاصة لإعادة انتخابهم (يقدر بثلثي وقت السناتور في المعدل)؛ والتآمر بشأن كيفية الحفاظ على أميركا مهيمنة في العالم. وأي شيء آخر يعد هراء.
كان مكان أميركا الفريد من نوعه في العام 1950 يهتم بالمواطنين الأميركيين العاديين، من دون أي جهد من جانب الحكومة. ومرة أخرى، ربما يعرض الازدراء المطلق للأميركيين العاديين عنصراً مظلماً لتفكير مؤسسة أميركا عندما يتعلق الأمر باحتمال اندلاع حرب نووية.
من الطبيعي أن لا تشكل روسيا تهديداً مباشراً لمصالح المحافظين الجدد، إلا عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل سورية، وهو رعب مهندس عمداً لإسقاط آخر زعيم مستقل التفكير في الشرق الأوسط، وتقسيم وبلقنة بلده التي طمعت إسرائيل دائماً في أجزاء منها في إطار رؤيتها لإسرائيل الكبرى.
مثل الانقلاب في أوكرانيا التي تمتد لمسافة كبيرة على طول الحدود مع روسيا، تحدياً مباشراً لأمن روسيا، والذي ينطوي على مكان ستملؤه في نهاية المطاف قوات معادية وصواريخ ومستشارون أميركيون -كان كل ذلك متوقعاً لإسكات صوت روسيا المستقل في العالم وقدرتها على إفشال مغامرات المحافظين الجدد بأي طريقة، وإن لم يكن كذلك، فعلى المدى الأطول أحلام وحشية لدى البعض لتوفير منصة للتدمير النهائي لروسيا أو إسقاطها هي نفسها.
لكن مجابهة روسيا الفعالة والمتميزة لهذه الجهود بالتحركات الماهرة دفاعاً عن مصالحها في سورية وفي أوكرانيا على حد سواء، دفعت بالبعض في المؤسسة الأميركية إلى حافة الجنون، ذلك الجنون الذي نشاهده ونسمعه في أوروبا التي تحولت مرة أخرى إلى معسكر مسلح شاسع. وتعج أوروبا راهناً بالخطاب والتهديدات والنشاطات معادية لروسيا، مثل التمارين العسكرية الحربية الضخمة. وكانت الأضخم من بينها تلك التي أجريت بالتزامن مع ذكرى غزو هتلر لروسيا، التطور الأكثر تدميراً في كل التاريخ الإنساني.
لقد خلقت أميركا عن عمد حالة تشابه في خطورتها تقريباً أزمة الصواريخ الكوبية (خليج الخنازير)، والتي نشأت في حد ذاتها من اعتقاد المؤسسة الأميركية بأن لها كل الحق في التدخل في الشؤون الكوبية.
التهديدات النووية
لدينا عنصر آخر يفاقم الخطر بقدر أكبر بكثير الآن، من حيث تنوع ومستوى تطور الأسلحة بما في ذلك بعض الأسلحة النووية التي يعد الجيش الأميركي نقاط ضبطها “قابلة للاستخدام” في مسرح مثل أوروبا مثلاً.
يشكل تركيب أنظمة مضادة للصواريخ بالقرب من روسيا جزءا كبيراً من هذا التهديد، نظراً لأن هذه الأنظمة لا تهدف إلى تحييد مقدرة روسيا على الرد على هجوم مباغت ضخم فقط، وإنما توفير غطاء لتغيير مستقبلي وسري يتم بسهولة لأنواع أخرى من الصواريخ في داخل منصات الإطلاق الأسرع وصولا والصواريخ المسلحة نووياً، والتي ستكون في الحقيقة عنصراً في هجوم من هذا النوع.
لا يمكن توقع أن تجلس روسيا، البلد الذي تعرض للغزو مرتين بكل جبروت ألمانيا، وقبل ذلك من جانب جيش نابليون الكبير، مكتوفة الأيدي لا تفعل شيئاً. لا يمكنها ذلك ولا تستطيعه. ويجب على العالم أن لا ينسى أن جيش أميركا وضع في عدد من الأوقات في الماضي خططاً كاملة لشن هجوم نووي ضخم ومباغت على ما كان في حينه الاتحاد السوفياتي، وكانت آخر خطة كما أتذكر في أوائل الستينيات. وكانت قدمت للرئيس الراحل جون كنيدي على أنها قابلة للتطبيق. وذكر أن الرئيس كنيدي غادر وزارة الدفاع بعد الاستماع إلى الإحاطة وهو يشعر بالاشمئزاز.
إن الحرب النووية، تماماً مثلما هو حال أي حرب أخرى، يمكن أن تندلع بالصدفة تقريباً، جراء تصرفات خرقاء أو لامبالية ومواقف عدائية بوضوح. وما عليك سوى أن تدع دماء الجانبين تهدر بما فيه الكفاية، ثم تجتاحنا كارثة مطلقة.
يشكل النهوض بعبء التقليل دائماً من احتمالات وقوع حوادث وسوء فهم مسؤولية رئيسية على عاتق كل زعيم عالمي رئيسي. لكن الولايات المتحدة تبدو راهناً قريبة جداً من التخلي تماماً عن مسؤوليتها بهذا الصدد.
جو تشكمان
صحيفة الغد