شهد الأسبوع الماضي تغيراً دراماتيكياً في المنطقة بسماح إيران للمرة الأولى، منذ الحرب العالمية الثانية وأيام الشاه، وكذلك منذ قيام الثورة عام 1979، لدولة أجنبية -هي روسيا- باستخدام أراضٍ إيرانية، قاعدة همدان العسكرية غرب العاصمة طهران، لانطلاق القاذفات الاستراتيجية الروسية العملاقة بعيدة المدى، من نوع «توبوليف» لشن غارات على مواقع في شمال سوريا. واللافت أن موافقة النظام الإيراني لروسيا على استخدام قواعد قد تتحول إلى دائمة تحت شعار «الحرب على الإرهاب» ليس مقنعاً لكثيرين، وخاصة أن روسيا تملك خيارات عديدة أخرى!
ومشاركة روسيا بقاذفات استراتيجية تقلع من إيران هي دليل فشل عسكري وليست دليل قوة. بل يدل هذا على عجز قوات نظام الأسد وفشل استراتيجية إيران بعد أعوام من مشاركتها، وكذلك فشل الاستراتيجية الروسية بعد عام من تغيير المعادلة الصفرية في الحرب السورية.
وفي يومي 16 و17 أغسطس الجاري سمحت إيران للمقاتلات الروسية الاستراتيجية بعيدة المدى «توبوليف»، تواكبها مقاتلات سوخوي 34، بشن غارات على أهداف شمال حلب وإدلب ودير الزور في سوريا تحت شعار روسيا الذي تقدمه منذ عام بأنها تخوض الحرب على الإرهاب وواجهتها تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» -التي فكت ارتباطها بتنظيم «القاعدة» الأم وغيرت اسمها إلى «جبهة فتح الشام». وفي 19 أغسطس صعدت روسيا أيضاً من حملة قصفها على شمال سوريا من سفن حربية في المتوسط.
وعلى رغم احتجاجات بعض النواب في مجلس الشورى الإيراني رفضاً للسماح باستخدام روسيا القواعد الإيرانية، فقد أثبت البرلمان الإيراني للمرة الثانية خلال عام هامشية ومحدودية دوره وتأثيره، كما كان الحال مع الاتفاق النووي، دون أن يكون لتلك المعارضة أي تأثير. وعجز مؤسسات النظام الإيراني عن رفض موقف يدعمه المرشد الأعلى ينسحب على بقية مؤسسات وقيادات النظام الأخرى في طهران. فمجلس الأمن القومي بصم على السماح لروسيا باستخدام القواعد الإيرانية، كما لم يبدُ أي موقف عن الرئيس الإيراني حسن روحاني، ووزير الدفاع ووزير الخارجية. وهكذا بات واضحاً أن القرار الحاسم في إيران هو بيد المرشد. وواضح للجميع، أنه بمجرد أن يقرر المرشد موقفاً سواء حول النووي أو السياسة الخارجية أو التفاوض مع الولايات المتحدة تحت شعار «التنازلات البطولية»، فإن بقية أركان وقادة ومؤسسات النظام تصطف خلف قرار المرشد، ولا تجرؤ حتى على مناقشته، ناهيك عن تحديه.
وحتى لو تعارض موقف المرشد مع الدستور الإيراني، وسماح إيران لروسيا باستخدام قواعدها الجوية يخالف ويتعارض مع بنود الدستور الإيراني، وخاصة المادة 146 التي تمنع «إقامة أي قاعدة عسكرية أجنبية في إيران، حتى لأغراض سلمية»، ومع ذلك لم تكن القيادة الإيرانية لتجرؤ على السماح لروسيا باستخدام قواعدها الجوية، إلا بعد موافقة رأس هرم السلطة، المرشد الأعلى علي خامنئي.
ومن الناحية الجيو- استراتيجية قدمت إيران موطئ قدم مهماً لروسيا لتعزز وتمدد نفوذها من شواطئ المتوسط وقاعدتي حميميم الجوية في اللاذقية وطرطوس البحرية على المتوسط إلى طهران، إلى عاصمة إيران. ومع سماح الحكومة العراقية لروسيا باستخدام مجالها الجوي، يكون نفوذ موسكو قد تمدد من المتوسط إلى إيران! وهذا يعزز سياسة المحاور التي تصبغ المشهد الإقليمي ما يكرّس محور روسيا- إيران- العراق- سوريا- والمليشيات الموالية لنظامها مثل «حزب الله» اللبناني.
إن ما قدمته إيران لروسيا هو تنازل تاريخي لدولة ساهمت مع بريطانيا في احتلال الأراضي الإيرانية في الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من سبعين عاماً.. وهو تنازل لم يقدمه حتى شاه إيران محمد رضا بهلوي لموسكو الشيوعية! وهذا التنازل يكرس تبعية إيران لروسيا على المدى المنظور. ولذلك لا يحق لإيران بعد اليوم الحديث عن تبعية خصومها للقوى الكبرى. وللمفارقة، باتت إيران اليوم تابعاً للنفوذ والأجندة الروسية، حيث تراجعت مكانة إيران منذ تنسيقها مع روسيا لإنقاذها من مستنقع سوريا قبل عام. وبذلك تخلت إيران عن أحد أهم مبادئ الخميني، ومقولته الشهيرة: «لا شرقية ولا غربية»! فإذا بها تجمع الصيف والشتاء تحت سقف واحد وتتحالف مع روسيا، وتتماهى سياستها وتنسقيها وتعاونها مع واشنطن! تحت شعار محاربة الإرهاب، الذي توليه إدارة أوباما المودِّعة أولوية وأهمية قصوى، والذي تستخدمه موسكو أيضاً كغطاء لتبرير سياستها وتدخلها في الشرق الأوسط، بتنسيق ورضا واشنطن، في لعبة توازنات وتوزيع أدوار وتوكيل بالباطن وترقية لدور روسيا وإيران في المعادلة الإقليمية من الكومبارس إلى دور مساعد البطل!
إن التداعيات الرئيسية للوجود الروسي العسكري في إيران وقبله في سوريا تعني تراجع دور ومكانة ونفوذ طهران ودورها الإقليمي الذي بات تابعاً ورديفاً للنفوذ والأجندة الروسية. ولكن الخطورة المحتملة من ذلك التحول الجيو- استراتيجي تكمن في تداعيات هذه العلاقة في بعض ملفات المنطقة وخاصة في العراق عشية معركة الموصل، وفي اليمن، عشية انتخابات الرئاسة الأميركية، وخاصة من المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يرى بوتين قائداً قوياً وحليفاً وشريكاً في الحرب على الإرهاب. وذلك لاشك قد يشكل تهديداً مباشرا للأمن القومي الخليجي، وخاصة إذا كان لروسيا دور عسكري بالإضافة لدورها لسياسي في الأزمة اليمنية، في دعم الحوثيين!
وذلك كله، لاشك يعزز من دور وحضور روسيا في ملفات منطقة الشرق الأوسط بعد نحو عام من بداية عملياتها العسكرية في محاربة الإرهاب بطلب من النظام السوري في سبتمبر 2015، ويخلط الأوراق ويدخل لاعباً دولياً قوياً في عمق أزمات الشرق الأوسط، ويعزز سياسة المحاور لملء فراغ الغياب الأميركي، ما يحتم علينا- نحن الطرف المتضرر- تغيير قواعد اللعبة، لخلط الأوراق وحماية أمننا القومي الخليجي والعربي.
د.عبدالله خليفة الشايجي
صحيفة الاتحاد