كان الانتصار التركي في مواجهة الانقلاب انتصاراً لروح التاريخ، وذلك لأنه تواصل مع انقلاب ١٩٦٠ الذي أدى الى اعتقال رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطياً عدنان مندريس. مندريس كان أول رئيس وزراء نجح في بناء حالة تصالح نسبية بين تجربة أتاتورك العلمانية السلطوية والإسلام (تعامل بمرونة مع القاعدة الشعبية الأناضولية المحافظة إسلامياً، وسمح بفتح مئات المساجد المغلقة وطوّر الاقتصاد). انقلاب عام ١٩٦٠ العسكري سمح للجيش، حارس العلمانية التركية، بإيقاف تصاعد دور القاعدة الشعبية الأناضولية الفقيرة المكوّنة من غالبية الشعب. في ذلك الانقلاب، عذّب الجيش رئيس الوزراء مندريس ثم أعدمه مع وزراء آخرين.
وتمثّل تجربة مندريس لتركيا وللقطاع الأكبر من الشعب التركي الأساس لمدرسة «العدالة والتنمية» الرافضة مهادنة السلطة العسكرية والدولة الكمالية. إعدام مندريس كان بداية نهاية دور الجيش في السياسة كما عرفت عبر تاريخها، تماماً كما كان مقتل محمد مصدق في إيران في ١٩٥٣ وعودة الشاه عبر انقلاب عسكري نظمته الاستخبارات الأميركية بداية نهاية دولة الشاه التي ستسقط عام ١٩٧٩.
طبعاً، يوجد فارق بين تركيا وإيران. في إيران، أنهت الثورة النظام القديم، وفي تركيا أنهى أردوغان جانباً من النظام القديم، لكنه حافظ في الجوهر على الجانب العلماني للدولة، بينما طوّر الجانب الديموقراطي والاقتصادي وخلق توازناً مع الإسلام والدولة.
النهايات كما البدايات، تكشف عن نفسها عبر الأحداث الكبرى، لكنها لا تفهم في حينها وفي وقتها على أنها نهايات أو حتى بدايات. أردوغان صمّم منذ البداية، بحنكة، على تصفية الحساب مع الجيش وعدم السماح بتكرار حادثة إعدام أو إنهاء رئيس للوزراء. لقد اقتنع أردوغان بأن مستقبل تركيا يتطلب حكماً مدنياً لا لبس فيه. لهذا ومنذ انتخابه للمرة الأولى في العام ٢٠٠٢، حصّن نفسه ضد الانقلابات، كما أقام سلسلة كبيرة من العلاقات ضمن الشارع المناصر قادرة على تحريك الجماهير الغفيرة في حال وقوع انقلاب.
يمثل النموذج التركي بعد هزيمة الانقلاب، حالة ديموقراطية مدنية فيها للشعب وللمعارضة مكانة كبرى، وذلك بالمقارنة مع منطقة عربية لا تعرف سوى حكم الفرد. تركيا نموذج يقوم على مؤسسات واستحقاقات انتخابية ونظام دستوري وقاعدة انتاجية كبيرة في منطقة لا تعترف كثيراً بالدساتير والقوانين والمؤسسات، بل وحتى بالاقتصاد المنتج. في المقابل، تقترب تركيا من الغرب في أسلوب الحياة، لكنها في الوقت نفسه مرتبطة بالإسلام قيمة وتاريخاً وجغرافيا وهوية. وضمن هذا كله، تمر تركيا بعد الانقلاب بتحديات كبرى تمثل خطراً على نموذجها.
فهناك تخوف كبير من ردة الفعل على التغييرات التي يقوم بها الرئيس أردوغان منذ الانقلاب، كما أن الاعتقالات والفصل من العمل والإجراءات الراهنة في ظل الطوارئ، ستفرض وضعاً صعباً وتخلق ردة فعل على النظام. الواضح من جهة أخرى، أن اندفاعة أردوغان تجاه حركة غولن والجيش تشبه في بعض أبعادها اندفاعة ثورة بعد انتصارها، والتي عادة ما يتخللها صراع على السلطة في ظل الاحتماء بقاعدة شعبية عريضة. هذا نموذج يضعف الحريات ويخلق أرضية لتعاظم المخاوف الأمنية، وبالتالي يؤدي الى الوقوع في شرك يصعب الخروج منه. لا يزال الأمل قائماً بأن توضع للاعتقالات والملاحقات والفصل الوظيفي حدود وضوابط، وذلك لكي يبقى النموذج التركي بصفته الديموقراطية.
الانقلاب قدم لأردوغان وحزبه فرصة تاريخية لتمتين الصعود، فهو حسم وضعاً داخلياً حول مدنية الحكم، كما يحسم وضعاً آخر حول ازدواجية السياسة المحلية والخارجية، وهذا سيؤهل تركيا لعقد تحالفات مختلفة. اليوم، تتحالف تركيا مع روسيا في صيغ موقتة، فروسيا في الجوهر في حاجة الى تركيا بحكم تخوفها من الولايات المتحدة في أوكرانيا وغيرها، لكن تركيا في حاجة الى التحالف الروسي. الملاحظ، أن تحالفات الأتراك لا تتم بأسلوب الاستسلام للطرف الآخر، بل بالعكس، تقع في ظل حساب موازين القوة، بما يسمح للأتراك بوضع شروط محددة. هناك في الأسلوب التركي مرونة وصلابة، وهذا واضح من خلال التفاوض مع إسرائيل، حيث رفضت تركيا إبعاد «حماس» والتوقف عن دعم غزة. التحالفات التركية ستتأرجح، لكنها لن تخرج في المرحلة المقبلة عن السعي التركي لاستكمال عناصر الاستقلال عن مراكز القوة العالمية، كما حصل عندما منع الأتراك الولايات المتحدة من استخدام الأراضي التركية لغزو العراق عام ٢٠٠٣.
تركيا ستعود الى الصدام مع إسرائيل في أول حرب تشنّها في الإقليم أو على غزة أو لبنان. وهذا يعني أن استمرار الاستيطان والتهويد والسيطرة في القدس وقمع الشعب الفلسطيني سيضع تركيا كما يضع العرب من الخليج الى المحيط في مواجهات متجددة مع إسرائيل. الفارق بين الحالة العربية والتركية هو في قوة المؤسسات والبنية وميزان القوى والقدرات والتأثير، والأهم تحرر الأتراك من الاعتماد على الولايات المتحدة أو الحاجة الى دور اللوبي اليهودي في تأمين دعم أميركي، فتركيا قلما تحتاج الى الدعم الأميركي في مجال الأمن والمال وغيرهما.
لكن تركيا أردوغان و»العدالة والتنمية» ستجد أيضاً أن بقاء النموذج ضمن حدوده سيدفع الآخرين، بمن فيهم جزء من الغرب وحتماً إسرائيل، وكل من يخشى النموذج، الى محاولة التصدي له. فتركيا لن تستطيع الاستمرار في مشروعها البنيوي بلا أحد خيارين، الأول أوروبا، وهو خيار تم غلقه نسبياً من أوروبا من خلال رفض انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، أما الخيار الثاني فيكمن في العمق العربي الذي يحيط بتركيا ويمثل امتدادها التاريخي والحضاري.
مستقبل تركيا مرتبط بالقدرة على إعادة الاعتبار الى التفاعل البنيوي مع الإقليم العربي المحيط بها، فبينما تهتم تركيا بمحيطها الأوروبي شرقاً وغرباً، لأنه مجال حيوي لاقتصاد تركي هو الـ17 في العالم، إلا أن قيمة تركيا التاريخية ومكانتها واستقرارها لن تكتمل بلا تعميق دورها العربي.
لهذا فالواضح أن تركيا هي الأقدر، بين دول الشرق الأوسط، وبسبب قاعدتها الاقتصادية والسكانية ونموذجها الديموقراطي النسبي وحزب «العدالة والتنمية» بنهجه الحداثي والإسلامي العلماني والتراثي، هي الأقدر على ترك أثر في الإقليم العربي في المرحلة المقبلة. قد لا يتضح هذا البعد في السنوات القليلة المقبلة، فاستكمال الصعود التركي سيتضح خلال سنوات عدة، كما أن تركيا ستتحول مع الوقت الى أحد أهم الأماكن التي تستضيف مؤسسات عربية وإعلاماً عربياً بل ومعارضات عربية من شتى الصنوف والتوجهات. هذا اتجاه تاريخي، بدأ منذ ٢٠١١ ولن يتوقف في المدى المنظور، بل سيزداد زخمه في السنوات الخمس المقبلة. تركيا دولة فتية في صعود، هي لم تكمل نموذجها ومشروعها، وهي في الأساس نتاج إصلاح وهي لم تجنِ بعد فوائد الإصلاح، لكنها تمر الآن بطور جديد. إنها بالفعل تواجه تحديات، لكنها تتفاعل مع سياق تاريخي نام.
في السنوات المقبلة، ستجد تركيا أنها تدخل في تحالفات وستصبح عنصراً أساسياً بما يوازي الاندفاعة الإيرانية والإسرائيلية. الاندفاعة التركية ستقع في ظل أوضاع معقدة، وستنطلق في البداية من التردد. وهذا سيدفع التنافس الإيراني – التركي الى أعلى مراحله من دون أن يعني أن تركيا لن تتعامل بذكاء وتوازن مع إيران، وهذا سيدفعها الى بناء تحالفات في الإقليم العربي وصولاً الى التأثير في مناطق شمال أفريقيا، خصوصاً مصر حيث يعاني النظام من مأزق يشبه ما عانت منه تركيا في ستينات القرن العشرين. ففي السنوات العشر المقبلة الكثير من الأبعاد، وما وقع في تركيا سيترك أثره في المستقبل الإقليمي.
شفيق ناظم الغبرا
صحيفة الاتحاد