دفع قرار جماعة كردية معارضة حمل السلاح في مواجهة السلطات الإيرانية المسؤولين في طهران إلى القلق من أن تكون السعودية تسعى لتقويض استقرار البلاد مما يعمق التناحر الإقليمي بين البلدين، رغم أن إشكالية إيران مع الأكراد أقدم بكثير من تاريخ علاقة طهران (التي لا يتجاوز عمر نظامها الحالي 37 عاما فقط).
وتنفي الرياض هذا الاتهام نفيا قاطعا، لكن التوترات تتصاعد بين البلدين فتدعم السعودية وإيران أطرافا مختلفة في الحروب الدائرة في سوريا واليمن وتؤيدان أيضا أحزابا سياسية مختلفة في العراق ولبنان. وكثيرا ما يتقاطع التنافس بينهما مع خطوط طائفية، إذ تتنافس إيران ذات الأغلبية الشيعية والسعودية التي يهيمن عليها السنة على النفوذ في المنطقة، بالرغم من أن الدبلوماسية السعودية تتخذ منحى متجانسا مع طبيعة انتماء المملكة إلى فضاء عربي يجب أن يبقى بعيدا عن أي تأثير طائفي أو محاولات لزرع الفتنة بين العرب بقطع النظر عن الانتماءات الطائفية سواء أكانت شيعية أم سنية.
ويشعر المسؤولون في إيران بالقلق من أن يكون هذا التنافس قد امتد الآن إلى داخل حدودهم نتيجة لما يخشون أن يكون استغلال السعودية للخلافات الطائفية داخل البلاد. فهم يشيرون إلى اشتباكات (هي الأولى من نوعها منذ نحو 20 عاما) بين مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والحرس الثوري الإيراني في شمال غرب البلاد في يونيو ويوليو والتي خلفت عددا من القتلى في صفوف الجانبين.
ومع تصاعد القتال، قصفت القوات الإيرانية ما يشتبه أنه قواعد عسكرية كردية في شمال العراق مما يثير احتمالات أن يمتد الصراع عبر الحدود. ونقل موقع تابناك الإخباري عن محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري بعد جولة من الاشتباكات قوله إن السعودية “تعطي المال لأي مناهض للثورة يقترب من الحدود وتقول له اذهب ونفذ عمليات”. وأضاف “وعندما يسألون: وأين ننفذ هذه العمليات؟ يقولون لهم ليس مهما، نريد أن يغيب الأمن عن إيران”.
هذه الاتهامات التي يوجهها المسؤول الإيراني السابق ليست منطقية في حالة وضعها أمام البعض من المعطيات التاريخية في الصراع الكردي الإيراني، حيث يتحرك الأكراد في إيران معتمدين على قاعدة شعبية تبلغ 6 ملايين نسمة وبالتالي ليس للسعودية أي دخل في تحديد قرار ومصير كل هؤلاء الذين يعرفون تاريخيا ببحثهم عن وطن قومي للأكراد. ومعظم العمليات يجريها أكراد إيران تحدث في مناطق جبلية على الحدود بين تركيا والعراق، بما يمكّن سلطات طهران من استخدام علاقاتها مع تركيا ومع حكومتي العراق وكردستان للحدّ من حرية تحرّك وتسلح المقاتلين الأكراد في إيران، وهذا محور من محاور السياسة الخارجية الإيرانية التي من خلالها تتدخل في شؤون دول عربية مثل العراق وسوريا.
ينفي أكراد إيران تلقي أي دعم من السعودية وينفي المسؤولون السعوديون التدخل في الشؤون الإيرانية
وتدرك طهران أن قرار الأكراد استئناف العمل العسكري في إيران قد لا يكون قرارا فصائليا فقط، بقدر ما هو قرار مركزي قد لا تكون قيادة حزب العمال الكردستاني المتمركزة في جبال قنديل في شمال كردستان العراق بعيدة عنه، وهذا شأن كردي تمرست عليه الفصائل المسلحة في دول متعددة في الشرق الأوسط منذ العشرات من السنين، ولا تملك إيران بذلك أي مشروعية بإقحام السعودية في المسلحين الأكراد في إيران أو غيرها.
لكن اللافت في أمر الحراك الكردي الجديد أن حزبا عريقا مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران قد انضم إلى خيار القتال العسكري معلقا بذلك قراره في عام 1996 بوقف العمل المسلح ووقف إطلاق النار. ولفت المراقبون إلى أن الحزب الذي تأسس قبل 70 عاما للدفاع عن استقلال الأكراد المستلهم من جمهورية مهاباد قصيرة العمر، اتخذ قرار الحرب بناء على معطيات جديدة يراها مناسبة لإعادة فتح الملف الكردي في إيران.
ومعروف أن الحزب كان على علاقة تحالف مع الحزب الديمقراطي الكردي في العراق، ما مكنه من الاستفادة من إقامة عناصره في إقليم كردستان بعد قيامه عام 1991. وأكراد إيران الذين يتراوح عددهم بين ثمانية وعشرة ملايين أغلبهم من السنة. وإضافة إلى المزاعم بشأن تمويل السعودية لجماعات كردية مسلحة، اتهم مسؤولون إيرانيون الرياض كذلك بإثارة المشكلات بين أقليات إيرانية سنية أخرى مثل البلوش في جنوب شرق البلاد والعرب في جنوب غرب إيران، في حين أن الأمر حسب مراقبين لا يتجاوز بحث إيران عن مشروعية و”عدو خارجي” كي تصور أي حراك قومي داخلها على أنه تواطؤ مع جهات خارجية وبالتالي خيانة وطنية وهو ما يبرر عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها إيران لغير الفرس.
وفي الوجه المقابل، ينفي الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني تلقي أي دعم من السعودية، وينفي المسؤولون السعوديون التدخل في الشؤون الإيرانية، وهو ما عبرت عنه الأجهزة السعودية في أكثر من مناسبة على لسان مسؤولين رسميين. وتخشى الرياض أن يمنح الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع قوى عالمية العام الماضي طهران فرصة أكبر لتعزيز مصالحها على الساحة الدولية بعد رفع العقوبات التي كانت تكبل اقتصادها. ولم تعد المملكة القلقة مما تعتبره انتشارا خطرا للأنشطة الإيرانية في الخارج تعتمد بدرجة كبيرة على حلفائها الغربيين في احتواء النفوذ الإيراني بل تكثف من جهودها هي للسيطرة عليه.
مغالطات السياسة العدائية
حضر رئيس المخابرات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل تجمعا في باريس في يوليو لمنظمة مجاهدي خلق الجماعة المعارضة الإيرانية الرئيسية في المنفى والتي تسعى للإطاحة بالحكم الديني في البلاد. ورغم أن الأمير تركي لا يتولى أي منصب رسمي يشير حضوره للتجمع إلى تجاوز لخط في ما يتعلق بالاستعداد لدعم الجماعات المعارضة الإيرانية علانية.
ويقول عباس ميلاني مدير برنامج الدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد “الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران أصبحت أكثر علانية وأكثر تصميما”. ويقول مراقبون إن العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والأقلية الكردية تتسم بالتوتر منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 مما يحتمل أن يجعلها حليفا لخصوم إيران، لكن يبقى هذا الكلام حبيسا لوجهة النظر الإيرانية التي لا يجب التسليم بأن العلاقات معها هي علاقات سلمية (نظرا لسياستها العدائية)، لكن المملكة العربية السعودية لا تتبع عموما سياسات إثارة الفتنة بل دعت إيران في أكثر من مناسبة إلى الكف عن طائفيتها وإلى التعاون الوثيق وحسن الجوار بينها وبين العرب.
وحارب الحرس الثوري الانفصاليين الأكراد بعد الثورة مباشرة وشن حملات بين الحين والآخر على المعارضين منذ ذلك الوقت. ودفع التوتر المسؤولين الإيرانيين لاتهام أفراد من جماعات الأقلية السنية خاصة الأكراد بالتعاطف مع المتشددين ومنهم تنظيم الدولة الإسلامية. وأعلن وزير المخابرات الإيراني محمود علوي الأسبوع الماضي أن 1500 شاب إيراني تم منعهم من الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وقال هادي غائمي مدير الحملة الدولية لحقوق الإنسان في إيران “الوقت مناسب جدا للربط بين أي عمل يتعلق باضطهاد السنة وبين تنظيم الدولة الإسلامية”.
ترهيب داخلي
في أوائل أغسطس الماضي، أعدمت إيران 20 سجينا كرديا يُزعم أنهم إسلاميون في سجن رجائي شهر مما صعد التوترات بين الحكومة المركزية والمنطقة التي تقطنها أغلبية كردية في البلاد. وقال غائمي “توقيت الإعدامات يبدو بالتأكيد وكأنه يوجه رسالة للجماعات الكردية وللسكان الأكراد المحليين، إنه بالتأكيد عقاب لطائفة لبث الخوف والترهيب”.
وينفي الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني من جانبه تلقي أي دعم من السعودية ويقول إن الأكراد أجبروا على حمل السلاح لأنه لم يعد أمامهم بديل لضمان حقوقهم السياسية. وقال كريم برويزي عضو المكتب السياسي للحزب والمقيم في أربيل في شمال العراق “هدفنا الرئيسي ليس انتهاج الاشتباكات المسلحة، نريد أن تكون لنا أنشطة تنظيمية وسياسية ومدنية”.
وتأتي عمليات الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في وقت يبدو فيه أن الأكراد في مختلف أرجاء المنطقة أصبحوا أكثر جرأة وتمكينا؛ فالجماعات الكردية المسلحة في سوريا حققت مكاسب على الأرض وحكومة إقليم كردستان في شمال العراق تنأى بنفسها بشكل متزايد عن الحكومة المركزية في بغداد. ويقول أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران إنهم لا تربطهم صلات رسمية ولا يشاركون في عمليات مع أي أحزاب كردية في العراق أو تركيا أو سوريا.
وذكرت وكالة مهر الإيرانية للأنباء أن علي شمخاني أمين مجلس الأمن القومي الإيراني أبلغ وفدا أمنيا رفيع المستوى من حكومة كردستان العراق في منتصف أغسطس أن أمن الحدود “خط أحمر”. وقالت حكومة كردستان العراق إنها لن تسمح لأي جماعة بأن تهدد أمن الحدود الإيرانية لكن برويزي من الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني قال إن حزبه لم يضطر حتى الآن إلى وقف الأنشطة المسلحة على الحدود مما يزيد احتمالات وقوع المزيد من الاشتباكات.
صحيفة العرب اللندنية