تعيش إسرائيل وإيران ومعهما نحو 40 ألف جندي أميركي في منطقة الشرق الأوسط، حالة من الترقب والقلق انتظاراً لرد طهران وحلفائها على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بالعاصمة طهران، في 31 يوليو الماضي، ما يزيد من منسوب الضغط النفسي على كل الأطراف.
طهران – بعد ما يزيد على ثلاثة أسابيع من اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، تدّعي كل من إسرائيل وإيران أنهما حققتا نصراً دون حرب من خلال شن “حرب نفسية” على الطرف الآخر.
وتعتقد إسرائيل أن تهديداتها ورسائلها هي التي تجعل طهران وحلفاءها يترددون ويتخوفون حتى اليوم من الرد.
وفي نفس الوقت، ترى إيران أنها انتصرت في “المرحلة الأولى” من الرد عبر “الحرب النفسية” التي أدارتها ضد إسرائيل منذ أواخر يوليو الماضي. كما يروج مسؤولوها في الأيام الماضية إلى سردية مفادها أن إرجاء الرد على تل أبيب سببه إعطاء الفرصة للمفاوضات الجارية من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
ولُوحظ تبرير إيران ووكلائها تأخر ردهم على إسرائيل بالتأكيد أن ذلك يأتي في إطار “الحرب النفسية”، مع الحرص على الترويج لهذه السردية بشكل مكثف؛ إذ طغى الحديث عن “الحرب النفسية” على خُطب الجمعة في مدن إيرانية مختلفة، وبما يعكس مواقف المرشد علي خامنئي. كما ذكرت صحيفة “كيهان”، المُقربة من خامنئي، أن “إيران تدير حرباً نفسية موازية لحرب قاسية بهدف تغيير حسابات الخصم، وإحداث فجوة في الرأي العام وجعله غير مستقر”.
وفي نفس الاتجاه، اعتبر زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، يوم 6 أغسطس 2024، أن التأخير في الرد على سياسة الاغتيالات الإسرائيلية هو “جزء من العقاب”، مشدداً على أن “الرد قادم سواء لوحدنا أو مع الحلفاء”. كما صرح نائب رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله اللبناني، علي دعموش، يوم 12 أغسطس الجاري، بأن جزءاً من الرد على اغتيال شكر نُفذ من خلال “الحرب النفسية” التي جعلت إسرائيل “في حالة استنزاف وشلل وخوف وهلع ورعب”. وفي المقابل، ترى إسرائيل أن تهديداتها هي التي جعلت طهران لم ترد عليها حتى الآن.
ضغوط متبادلة
بعد مرور ما يزيد على ثلاثة أسابيع على اغتيال كل من هنية في طهران، وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، لم ترد إيران أو حزب الله أو الحوثيين على إسرائيل
ويرى خبير العلاقات الدولية أيمن سمير في تقرير نشره مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة أن التصريحات المتبادلة بين إيران وحلفائها من جانب، وإسرائيل والولايات المتحدة من جانب آخر، ترسم ملامح وأبعاد “حرب نفسية” يجري توظيفها لتحقيق الأهداف العسكرية والسياسية لكل فريق. فطهران، وعلى لسان خامنئي، ألزمت نفسها بالرد على اغتيال هنية. وتل أبيب، من جانبها، تعيش حالة من “القلق العميق”، ليس فقط على المستويات الأمنية والعسكرية، بل على مستوى المواطنين العاديين الذين ينتظرون في أي وقت إطلاق صفارات الإنذار للاختباء في الملاجئ.
ووفق تقرير كتبه يوسي يهوشع، محلل الشؤون العسكرية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، فإن “إيران حققت هدفها في الحرب النفسية عبر نشر أجواء الذعر في إسرائيل بعد أن أصبح الهاجس لدى المواطن الإسرائيلي هو شراء الغذاء والتزود بالوقود، وتزاحم المستوطنون على شراء المولدات خوفاً من انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة إذا ما ردت إيران وتوسعت الحرب”.
وعلى الرغم من كل الأقمار الاصطناعية والدعم المعلوماتي واللوجستي لإسرائيل؛ فإنها لا تعرف طبيعة الرد الإيراني أو حجمه أو مكانه حتى الآن، وهل سيكون على غرار هجوم 13 أبريل الماضي وبشكل مباشر على الأراضي الإسرائيلية؟ وهل تفكر طهران في استهداف أهداف إسرائيلية خارج البلاد مثل السفارات والمراكز الاستخباراتية الإسرائيلية القريبة من إيران؟ وإلى أي مدى يمكن أن تترك طهران الرد لحلفائها في لبنان واليمن؟ وتشكل تفاصيل كل هذا المشهد استنزافاً نفسياً هائلاً للمجتمع والجيش الإسرائيليين.
إسرائيل لا تعاني وحدها من “الحرب النفسية”، بل تظل إيران وكل أجنحتها في المنطقة واقعة تحت هذه الحرب غير المسبوقة
ويزيد من حالة “الحرب النفسية” التي تشنها إيران على إسرائيل ما يتعلق بالتزامن في رد ما يُسمى بـ”محور المقاومة”؛ بمعنى هل سيهاجم كل طرف من أطراف هذا المحور الإيراني بمفرده، أم تتعرض إسرائيل لأول مرة في تاريخها لهجوم “ثلاثي الاتجاهات” من إيران من الحدود الشرقية أو الشمالية الشرقية، وحزب الله من الشمال، وعلى جنوب إسرائيل من الحوثيين.
ولا تعاني إسرائيل وحدها من “الحرب النفسية”، بل تظل إيران وكل أجنحتها في المنطقة واقعة تحت هذه الحرب غير المسبوقة، بعد تشكيك الكثيرين، في إيران وخارجها، في قدرة ونجاح أي رد إيراني حتى لو كان أكبر من هجوم 13 إبريل الماضي؛ إذ يؤكد هؤلاء المشككون أن تأخير الرد الإيراني أسهم في تعزيز الاستعداد النوعي من جانب إسرائيل والولايات المتحدة لأي رد قادم. كما توظف إسرائيل تأخير الرد الإيراني بتأكيد أنه تردد وخوف إيراني، وأن تل أبيب قادرة على مواجهة هذا الرد، وهي “حرب نفسية قاسية” بتوقيع إسرائيل وداعميها الغربيين خاصةً الولايات المتحدة.
لكن أكثر ما يشكل ضغطاً نفسياً على القيادة الإيرانية يأتي من حلفائها أنفسهم الذين يقولون إن هنية تم اغتياله على الأراضي الإيرانية، ومن واجب طهران أن تنتقم لمقتله، كما قال حسن نصر الله في 1 أغسطس الجاري، والذي وصف اغتيال هنية في طهران بأنه “مس بشرف إيران” وليس سيادتها فقط.
وهذا ما يضاعف من الضغوط النفسية على صانع القرار الإيراني لكي يقوم برد لا يعرف مدى تأثيره في طهران والمنطقة. فهل ترد طهران على تل أبيب؟ وهل يقود ذلك إلى حرب إقليمية واسعة؟ أم تتجنب طهران الرد وتخسر دعم الحلفاء في الخارج، وتشجع الأقليات في الداخل على مزيد من المعارضة للحكومة؟.
حسابات معقدة
هل تفكر طهران في استهداف أهداف إسرائيلية خارج البلاد مثل السفارات والمراكز الاستخباراتية الإسرائيلية القريبة من إيران؟
تنتشر داخل إيران وبين حلفائها مقولة إن “الإيرانيين يذبحون بالقطنة”؛ وهو تعبير عن قدرة الإيرانيين على ممارسة “الحرب النفسية” ضد الآخرين، وتأكيد استراتيجية طهران القائمة على طول الانتظار والصبر حتى تحقيق الهدف.
و بعد مرور ما يزيد على ثلاثة أسابيع على اغتيال كل من هنية في طهران، وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، لم ترد إيران أو حزب الله أو الحوثيين على إسرائيل؛ وهو ما تعتبره إيران وحلفاؤها في المنطقة “عذاباً نفسياً” و”ذبحاً بالقطنة” لإسرائيل.
ويُعد الغموض هو العنوان الرئيسي لموقف إيران وحزب الله اللبناني حول الرد على اغتيال هنية وشكر؛ إذ تركت طهران خصمها تل أبيب تحت نيران “الحرب النفسية” في ظل عدم اليقين حول ما إذا كانت سترد أم لا.
وعلى الرغم من تأكيد أطراف إيرانية مثل خامنئي، والحرس الثوري، ضرورة الرد القوي على اغتيال هنية؛ فإن التأخير من وجهة نظرها ربما زاد من قوة “الحرب النفسية” التي تعاني منها إسرائيل على المستويين المدني والعسكري.
وعلى المستوى العسكري، تعيش كل وحدات الجيش الإسرائيلي حالة من الاستعدادات القصوى على مدار الساعة؛ وهو أمر يصعب تحمله لفترات طويلة. كما أن القطاعات المدنية الإسرائيلية باتت تعاني من هذه الحالة، ومنها توقف الكثير من شركات الطيران عن تسيير خطوطها الجوية باتجاه تل أبيب، فضلاً عن الاستعداد الدائم من جانب الإسرائيليين للتوجه إلى حياة الملاجئ، وهو ما يفرض نمطاً قاسياً من الحياة، تترتب عليه تكاليف اقتصادية ونفسية باهظة.
أكثر ما يشكل ضغطاً نفسياً على القيادة الإيرانية يأتي من حلفائها أنفسهم الذين يقولون إن هنية تم اغتياله على الأراضي الإيرانية، ومن واجب طهران أن تنتقم لمقتله
وتحتاج إيران وحزب الله اللبناني لإثبات مصداقيتهما أمام جمهور ما يُسمى “محور المقاومة”، في الرد على اغتيال هنية وشكر؛ إذ إن عدم الرد سوف يفتح الباب لنشر مزيد من الرواية المعارضة لطهران، والتي تقول إنها تنظر إلى وكلائها باعتبارهم أدوات فقط يجري توظيفها من أجل المشروع الإيراني.
وسوف يزيد اغتيال هنية وشكر دون رد من “الحرب النفسية” على طهران وحزب الله، وتسعى طهران مع حزب الله للعودة إلى محددات الردع السابقة؛ لأن قتل شكر في الضاحية الجنوبية، وقتل هنية داخل ثكنات الحرس الثوري الإيراني شمال طهران، يُعد بمثابة انتهك لحدود الردع السابقة. ولهذا يقع على طهران وحزب الله عبء استعادة الحدود التي كانت قائمة من جديد، ولن يتحقق هذا من دون رد كبير ومباشر على إسرائيل.
وعلى الرغم من أن هجوم إيران على إسرائيل في 13 أبريل الماضي تم بأكثر من 300 صاروخ بالستي وصواريخ كروز وطائرات مُسيَّرة، وكان أول هجوم إيراني مباشر على الأراضي الإسرائيلية؛ فإن عدم وقوع ضحايا دفع البعض إلى وصف الرد الإيراني وقتها بأنه نوع من “المسرحية” المتفق عليها مع تل أبيب.
وهذا يضع عبئا أكبر على إيران وحلفائها في المنطقة للقيام برد موجع يكون له صدى كبير في المنطقة وخارجها، من وجهة نظرهم.
وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن بلاده سوف ترد على أي ضربة إيرانية بضربتين، وأن ذراع إسرائيل طويلة؛ وهو ما يشكل أحد أضلاع “الحرب النفسية” التي تشنها تل أبيب، بدعم من واشنطن، ضد طهران.
تحتاج إيران وحزب الله اللبناني لإثبات مصداقيتهما أمام جمهور ما يُسمى “محور المقاومة”، في الرد على اغتيال هنية وشكر
ولعل إرسال الولايات المتحدة حاملة طائرات ثانية وهي “يو إس إس أبراهام لينكولن” والمدمرات المرافقة لها إلى الشرق الأوسط مساء يوم 21 أغسطس الجاري، فضلاً عن تأكيد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن إيران هي من ستعاني حال ردها على إسرائيل؛ يمثل “حرباً نفسية” يصعب تحملها منذ 31 يوليو الماضي.
وكل المؤشرات تقول إن إيران تعمل ليل نهار ليس فقط للرد على مقتل هنية، بل للاستعداد للرد الإسرائيلي على نظيره الإيراني، وهذا يشكل ضغوطاً غير مسبوقة لتجهيز الدفاع الجوي، وحماية المنشآت النووية، وإجراءات التدريبات استعداداً للرد الإسرائيلي المتوقع. وخير مؤشر على مثل هذه الضغوط و”الحروب النفسية”، هو إجراء الحرس الثوري، يوم 11 أغسطس الجاري، تدريبات عسكرية غرب إيران قرب الحدود العراقية، على اعتبار أن أي هجوم إسرائيلي محتمل سواء بالصواريخ أم الطائرات قد يأتي من الحدود الغربية لإيران.
ووقعت غالبية الحروب الكبيرة في تاريخ البشرية نتيجة حسابات خاطئة، ولم يخطط أطرافها للدخول في حرب طويلة وعنيفة. وتفرض البيئة السياسية والعسكرية في المنطقة ضغوطاً غير مسبوقة على إيران حتى لا يتحول تصعيدها المتبادل مع إسرائيل إلى حرب إقليمية واسعة.
ولهذا أعلنت طهران وحلفاؤها أكثر من مرة عدم رغبتهم في تمدد وتوسع الحرب، وأنهم لا يرغبون في حرب إقليمية شاملة وواسعة. فالرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في أيامه الأولى بمنصبه، والتهديدات بالانزلاق لحرب إقليمية واسعة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تشكل نوعاً من “الحرب النفسية” التي تتحسب لها طهران وأذرعها في المنطقة.
وينتشر نحو 40 ألف جندي أميركي في الشرق الأوسط، وربما يعيش هؤلاء في ظل “حرب نفسية” حقيقية منذ إعلان القيادة الإيرانية نيتها الرد على اغتيال هنية، وهم معرضون للهجوم من حلفاء إيران خاصةً في سوريا والعراق.
ولعل الهجوم على قاعدة عين الأسد في 8 يناير 2020 عقب اغتيال واشنطن آنذاك للجنرال قاسم سليماني، وتكرار الهجوم على القوات الأميركية في قاعدة التنف على الحدود العراقية الأردنية السورية؛ قد يكون خير شاهد على ما ينتظر القوات الأميركية حال دخول المنطقة حرباً إقليمية تعهدت واشنطن أن تدافع فيها عن إسرائيل؛ مما يجعل كل هذه القوات والقواعد الأميركية في مرمى الاستهداف من جانب إيران ووكلائها.
العرب