يسعى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي بصفة دائمة إلى تكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار داخل النظام الإيراني، ورغم أن ذلك لا يمثل سياسة جديدة، إلا أنه بات يكتسب أهمية وزخمًا خاصًا في الفترة الحالية، وذلك لاعتبارات عديدة بعضها داخلي يرتبط باتساع نطاق الجدل حول نفوذ الحكومة، أو بمعنى أدق رئيس الجمهورية، في عملية صنع القرار، وبعضها الآخر خارجي ينصرف إلى تصاعد حدة الضغوط الإقليمية التي تتعرض لها إيران، سواء بسبب تراجع دورها تدريجيًا في الصراع السوري لصالح روسيا، أو بسبب اتساع نطاق رفض كثير من دول المنطقة للتدخلات الإيرانية المستمرة في شئونها الداخلية، فضلا عن استمرار الاتهامات الموجهة لها بدعم الإرهاب وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وتورط بعض مؤسساتها في عمليات غسيل أموال.
ومن هنا، ربما يمكن تفسير حرص خامنئي، في 19 سبتمبر 2016، على التجديد لأنصاره من تيار المحافظين الأصوليين المناهض للرئيس روحاني وتيار المعتدلين في المجلس الأعلى للأمن القومي، وهما الدكتور سعيد جليلي ممثل المرشد في المجلس وعلي شمخاني أمينه العام، وهو اتجاه يبدو أنه سوف يستمر خلال الفترة القادمة، خاصة مع تصاعد الحديث داخل إيران عن قضية خلافة المرشد، الذي يبدو أنه بدأ في تمهيد المجال أمام من سيخلفه، سواء من خلال دعوته لمجلس خبراء القيادة، وهو المؤسسة المسئولة عن تعيين وعزل المرشد، إلى ضرورة اختيار “خليفة ثوري” له، أو عبر قرارات عديدة اتخذها على غرار تعيين ابراهيم رئيسي في منصب مدير مؤسسة “آستان قدس رضوي”، وهو أحد الشخصيات المحافظة التي تواجه اتهامات في الفترة الحالية بالمشاركة في الإعدامات الجماعية التي نفذت بحق بعض كوادر وعناصر قوى المعارضة في عام 1988، كما أنه أحد المرشحين لخلافة المرشد خامنئي في منصبه.
توازنات داخلية
يبدو من هذه الخطوة الأخيرة التي اتخذها خامنئي أنه يسعى إلى توجيه رسائل للداخل بأن الجهود التي تبذلها حكومة الرئيس روحاني من أجل توسيع نطاق نفوذها في عملية صنع القرار سوف تبوء بالفشل، نتيجة اتساع نفوذ الموالين للمرشد في معظم مؤسسات صنع القرار إن لم يكن مجملها، بشكل يجعل توازنات القوى داخل تلك المؤسسات تميل باستمرار لصالح الأخير.
ومن هنا، فقد استغل المرشد وجود شخصيات متشددة داخل مجلس الأمن القومي، على غرار سعيد جليلي، الذي ترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2013 وخسر أمام الرئيس الحالي حسن روحاني، من أجل منع الأخير من فتح ملف رفع الإقامة الجبرية عن قادة ما يسمى بـ”الحركة الخضراء” وهى الحركة التي قادت الاحتجاجات التي شهدتها إيران في عام 2009 بسبب الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، حيث ما زال المحافظون الأصوليون مصرين على ضرورة تقديم كل من مير حسين موسوي ومهدي كروبي اعتذارًا قبل البت في قرار رفع الإقامة الجبرية عنهما.
كما أن التجديد لجليلي كممثل لخامنئي في مجلس الأمن القومي يساعد الأول على البقاء في المشهد السياسي، ربما تمهيدًا للترشح مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تجرى في مايو 2017، خاصة مع عدم توصل تيار المحافظين الأصوليين إلى توافق حتى الآن على شخصية واحدة لمنافسة الرئيس حسن روحاني الذي يسعى بدوره إلى الاحتفاظ بمنصبه لفترة رئاسية ثانية.
لكن ذلك بالطبع لا يشير إلى أن خامنئي حسم قراره بدعم ترشيح جليلي، خاصة أن الأول يحرص دائمًا على عدم التدخل لحسم خريطة المرشحين إلا قبل فترة وجيزة من الانتخابات، في حالة ما إذا لم تكن متوافقة مع مساعيه المستمرة لتكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار في النظام، حيث يستند في هذا السياق إلى آليات عديدة على غرار مجلس صيانة الدستور، الذي يتولى سلطة البت في ملفات المرشحين للانتخابات ويقوم بصفة دائمة باستبعاد كل المرشحين الذين لا يحظون بقبول من جانب المرشد أو المؤسسات النافذة في النظام، على غرار ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي استبعد فيها كل من هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام بحجة تقدمه في العمر، واسفنديار رحيم مشائي مدير مكتب الرئيس السابق أحمدي نجاد، بسبب توجهاته السياسية التي أثارت جدلا واسعًا داخل إيران وكانت أحد أسباب التوتر الذي اتسمت به العلاقة بين المرشد خامنئي والرئيس السابق أحمدي نجاد.
أما بالنسبة لعلي شمخاني، ورغم أن بعض الاتجاهات تشير إلى أنه ينتمي إلى التيار الإصلاحي خاصة أنه تولى منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، إلا أن ذلك لا يتوافق مع الأدوار التي قام بها من قبل، إذ أنه كان حريصًا خلال الفترة الماضية على التماهي مع الخطاب المتشدد الذي يتبناه النظام، لا سيما تجاه الصراع في سوريا، حيث تم تعيينه في يونيو 2016 منسقًا أعلى للشئون الأمنية والعسكرية مع سوريا وروسيا، كما أنه تعمد عدم فتح ملف الإقامة الجبرية المفروضة على موسوي وكروبي، وهو الملف الذي يحظى باهتمام خاص من جانب حكومة روحاني، فضلا عن أنه شارك من قبل في حملات شنها النظام ضد بعض الشخصيات التي تنتمي للمعارضة.
ضغوط إقليمية
فضلاً عن ذلك، فإن حرص خامنئي على التجديد لأنصاره داخل بعض مؤسسات النظام أو دعم فرصهم في تولي رئاستها يمثل انعكاسًا للضغوط الإقليمية التي تتعرض لها إيران خلال الفترة الحالية، والتي تساهم في تعزيز موقع تيار المحافظين الأصوليين. إذ تبدي إيران مخاوف واضحة تجاه التوافقات التي يمكن أن تتوصل إليها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، والتي يمكن أن تؤدي إلى إبرام صفقة قد لا تستوعب مصالح إيران في سوريا، خاصة فيما يتعلق بالموقف من مستقبل بشار الأسد في الحكم.
ورغم أن الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار في سوريا والذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة الأمريكية كشف عن حجم التباينات في مواقف الطرفين، خاصة بعد الانتقادات التي وجهتها الأولى للأخيرة بعد الهجمات التي شنها التحالف الدولي بقيادة واشنطن على مواقع تابعة للجيش السوري في دير الزور، إلا أن ذلك لم يقلص من حدة المخاوف التي ما زالت تنتاب إيران تجاه الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها في سوريا.
وقد بدت هذه المخاوف جلية عقب الإعلان عن نشر مقاتلات وقاذفات روسية في قاعدة “نوجه” الجوية بمدينة همدان، حيث بدا أن ثمة استياءًا إيرانيًا واضحًا تجاه تعمد روسيا الكشف عن الوصول لتفاهمات مع إيران في هذا الشأن، إذ اعتبرت طهران أن ذلك يمثل محاولة من جانب موسكو لاستعراض قدراتها وتأكيد تحولها إلى الطرف الرئيسي في الصراع السوري الذي يستطيع تحديد اتجاه المسارات المحتملة لهذا الصراع.
فضلا عن ذلك، فإن إيران تواجه تصاعدًا في حدة الرفض الإقليمي لتدخلاتها المستمرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة، لا سيما في ظل أدوارها السلبية في الأزمات الإقليمية المختلفة، كما أنها تواجه اتهامات متعددة بدعم الإرهاب والالتفاف على الاتفاق النووي والتورط في عمليات غسيل أموال.
واللافت في هذا السياق، هو أن تيار المحافظين الأصوليين بات حريصًا على استغلال تلك الضغوط لتوجيه انتقادات قوية للسياسة التي يتبناها الرئيس حسن روحاني، والتي تقوم على ضرورة الوصول إلى “تفاهمات” مع الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط حول أزمة الملف النووي التي تمت تسويتها بموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في يوليو 2015، وإنما أيضًا حول العديد من الملفات الإقليمية الأخرى، على غرار الملف السوري.
وبعبارة أخرى، فإن هذا التيار يسعى إلى تحميل حكومة روحاني مسئولية الأزمات الإقليمية والدولية التي فرضت، في رؤيته، تداعيات سلبية على مصالح إيران، بشكل يهدف في النهاية إلى تقييد حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمام الحكومة، خلال الفترة القادمة، من خلال تكريس سيطرة أنصاره على مؤسسات صنع القرار، استعدادًا للاستحقاق السياسي الأهم الذي تنتظره إيران ويتعلق بمن سيخلف المرشد الحالي علي خامنئي في منصبه.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة