جرائم العصر الحاضر الكبيرة لا تختلف كثيرا عن جرائم الأعصار الماضية؛ قتلة ومجرمون يقودون جيوشهم أو قبائلهم أو عصاباتهم يهلكون بها الحرث والنسل، ويرتكبون مجازر في حق البشر والأبرياء من الأطفال والنساء والعجزة والشباب؛ من أجل مطامع سياسية أو اقتصادية، أو بحثا عن نفوذ لحاكم أو قبيلة أو شعب.
وإذا كانت الحروب تشهد كثيرا من القتل والتدمير، فإن الجرائم التي يرتكبها مجرمو كل عصر بلا حرب تشهد قتلا وتدميرا ليس أقل منها، فضحايا جوزيف ستالين من مواطني الاتحاد السوفيتي السابق أكثر ممن قتلتهم جيوشه في الحرب العالمية الثانية، وكذلك قتلت فرنسا في الجزائر ومجمل مستعمراتها في أفريقيا أكثر مما قتلت من الألمان وحلفائهم في الحرب المذكورة.
والمشهد الدامي الحالي في سوريا عامة وفي حلب خاصة هو فصل جديد من المآسي التي تصنعها بقايا عهود الهمجية، يصنعونها لا في حروب تواجه فيها آلة الحرب آلة حرب أخرى، بل في حرب من طرف واحد ضد السكان العزل، تدمر المدن، وتقتل البشر، ولو أرادوا الحرب بمعناها المعهود لاستهدفوا قوات الثورة السورية بتشكيلاتها القتالية المتنوعة وحدها، ولكنه التهجير القسري للبشر، وإحلال الغرباء والمرتزقة محل أهل البلاد.
المدانون
والمدان في هذه الجرائم هم القتلة المباشرون، والمتواطئون وإن شجبوا واستنكروا، والعاجزون والموت يزحف إلى ديارهم بعد أن قتل إخوانهم، ولكل قصته!!
أما القتلة من الروس وميليشيات النظام ذات الجنسيات المتعددة، فهم جزء من الموقف العالمي والإقليمي المناوئ للتغيير في العالم العربي، والساعي إلى العودة بالشعوب عودة قاسية إلى عهد الاستعباد الناعم.
بل تعدى الأمر مواجهة مساعي التغيير الوطني في العالم العربي إلى اعتبارها فرصة للتدخل الصريح فيه، وتبديد ما يمكن تبديده من عوامل قوته، وقد كانت تقف دون ذلك محاذير من قبل؛ خاصة في فترة الحرب الباردة التي كان أقطابها يتوجس بعضهم من بعض شرا، ثم زالت هذه الحساسية حين بدا أن الخطر المشترك لا يمكن الصمت عليه.
ومهما تكن اليد المباشرة التي تناهض التغيير وتئد المستقبل في العالم العربي، فلابد من الاعتراف بأن وأد مطالب شعوبنا -ومجمل شعوب “العالم الثالث”- بحريتها هو توجه عالمي لا تختلف فيه روسيا عن الولايات المتحدة الأميركية، ولا عن دول الاتحاد الأوربي، ولا عن الأنظمة التي كادت تجتاحها ثورات الربيع العربي الذي كسته في المرحلة الحالية الدماء القانية، وإن كانت علامات الحياة لا تزال تُرَى عليه ضعيفة واهنة.
المتواطئون
وأما المتواطئون وإن شجبوا، وتمثلهم واشنطن وحلفاؤها، فتعرفهم بأقوالهم وخطبهم، وتفتقدهم عند الحاجة إلى الفعل والعمل، لا أقول الفعل الحربي الذي لا ينبغي أن يقوم به في بلاد العرب إلا العرب، ولكن حتى الفعل الإغاثي بالطعام والأدوية مما تقدمه المنظمات الدولية.
وأقل مقارنة بين موقف المعسكر الغربي من سياسة الروس في أوكرانيا وموقفه من سياستهم في سوريا تكشف عن حقيقة الشجب والاستنكار الذي نسمعه من أفواه الساسة الغربيين اليوم، فمع أن ما تعرضت له أوكرانيا من عدوان روسي باحتلال إقليم القرم عام 2014 لم يحدث خلاله شيء يُذكَر مما يجري الآن في سوريا على يد الروس من حرب مدمرة، ورسم للخرائط بالغارات والصواريخ والدماء النازفة، وتهجير السوريين من وطنهم، فقد امتاز الموقف الغربي في الأزمة الأوكرانية بالفاعلية والسرعة والحسم.
لقد قدمت المجموعة الغربية مساعدات عسكرية واقتصادية سخية لأوكرانيا في أزمتها حتى تصمد في وجه التهديد الروسي، وعاقبت موسكو على إجراءاتها العسكرية في القرم بحزمة من العقوبات الاقتصادية، وخرج أوباما وكيري وغيرهما من السياسيين الغربيين بتهديدات غاضبة بالحد من التعاون العسكري والاقتصادي مع موسكو.
من المؤكد أننا لابد أن نضع في الحسبان موقع أوكرانيا -قياسا إلى سوريا- وخطورته الجوسياسية المباشرة على أمن أوربا في هذا السياق، إلا أن المشكلة أكثر حساسية بالنسبة للروس، فقد استمر الزحف الغربي على النفوذ الروسي في شرق أوربا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، حتى مس الحدود الروسية مباشرة مع مشكلة أوكرانيا من خلال دعم غربي سخي للسياسيين والجماهير المؤيدة لتوجه “كييف” غربا، حتى سقط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المدعوم روسيا، وصاحب التوجه السياسي الممالئ للجار الروسي العتيد.
إن الغرب هو الذي بدأ تحريك المشكلة الروسية الأوكرانية للحد من نفوذ موسكو، وكان من الطبيعي -بقطع النظر عن حقوق البلدين في إقليم القرم- أن يتحرك الروس ضد التصرفات الغربية في بلد كان يُحكم قبل قليل من الكرملين حكما مباشرا، فبادروا باحتلال القرم بزعم حماية الأقلية الروسية، وهذا يعني أن الموقف الغربي من المشكلة الأوكرانية جاء حاسما على الرغم من تفهم أي متابع منصف للمخاوف الروسية من تغيير الأوضاع في أوكرانيا.
وإذا جئنا إلى الحالة السورية، فإن المصالح الروسية في المنطقة لا تخفى، إلا أنها أقل حساسية على أي حال من وضع أوكرانيا، ومع هذا ما وجدنا الغرب يبدي ردة فعل تجاه الدموية الروسية الفظيعة في حلب وغيرها إلا تصريحات لا تغير شيئا، وهذه هي طبيعة الموقف المناوئ للتغيير في بلادنا كما سبق الإشارة إليه.
العاجزون
لا يرى الرائي من بلاد العرب إلا فقدان التوازن، والعجز عن إدارة الأزمة التاريخية الحادة التي تعيشها، وأخطر علامات ذلك في الوضع السوري هو أن ذراع الثورة المتمثل في المجموعات والجيوش المقاتلة صارت جزءا من معادلات إقليمية ودولية قابلة للتعديل في أي لحظة، وهذا يحد من قدرة هذه الذراع على التأثير في الصراع تأثيرا نوعيا؛ لذا فإن المكاسب كثيرا ما تكون مكاسب آنية.
ومن جهة أخرى فإن المفاوضين باسم سوريا لا يتجاوز دورهم الديكور السياسي المفيد في استهلاك الوقت، وهم عاجزون في الوقت نفسه عن أداء دور متناغم مع الجهد الحربي بحيث يستمد كل منهما قوة من الآخر، ويدفع به في اتجاه النجاح على الأرض، مع أن هذه هي الوظيفة الأساسية -وربما الوحيدة- التي يقوم بها التفاوض.
وفي إمكان المفاوض السوري أن يتعامل مع كل الأطراف المؤثرة في الوضع السوري فرادى وجماعات بحيث يقرب وجهات النظر بين داعمي حق الشعب السوري في تقرير مصيره، ويسعى إلى أن يكون لذلك تأثيره في الواقع وعلى أرض الصراع.
ولكن -من جهة أخرى- ماذا يفعل المفاوض والمقاتل السوري بدون ظهير عربي قوي يستطيع -على أقل تقدير- دعمه دبلوماسيا بفاعلية، ويعمل على حماية الشعب السوري وبلاده من القتل والدمار، ويوصل إليه المساعدات الإنسانية الضرورية.
وكأن العرب لا يدرون أن رحى الحرب التي تدور في اليمن وسوريا وليبيا والعراق ستدور على الباقين منهم إن فُرِغ من هذه الأقطار؛ لذا ترى قوانا الرسمية والشعبية والثقافية سُكارى وسط أمواج عاتية لا ترحم، بل تحول بعضهم إلى تروس تشارك في رسم مستقبل مظلم للمنطقة.
لنطمئن تماما، فلن يغضب الغرب على روسيا غضبا حقيقيا، إلا حين يغضب العرب لأنفسهم هذا النوع من الغضب.
وإذا كنا نرى ضوءا في نهاية النفق، ونعتبر أن تصعيد الطيران الروسي مهما بلغ لن يحسم المعارك على الأرض، وأن تدمير حلب بهذه القسوة لنشر الرعب بين الناس وفتحِ الطريق أمام جيش النظام لتهجير الأهالي لن يحقق هدفه بسهولة، فإن هذا الضوء في حاجة إلى تعظيم بفعل عربي وإقليمي جماعي واعٍ يدعم المفاوض والمقاتل السوري والسكان المنكوبين.
نبيل الفولي
الجزيرة