في أي وضع طبيعي، ما كان هناك أصلاً حاجة في ديمقراطية عريقة كالديمقراطية الأميركية إلى أن يكون هناك مجال للمفاضلة بين مرشحي رئاسة كهيلاري كلينتون ودونالد ترامب.
في دولة متقدمة تقوم على المؤسسات كان يفترض في الحملة التمهيدية لمعركة الانتخابات أن تكون «تصفية» أو «غربلة» تميّز بين السياسي الجاد والمرشح الطارئ على البيئة السياسية. وبين البرامج الحقيقية وبين الاعتراض الصارخ. وبين المقاربة العقلانية المسؤولية التي تطرح أمام المواطن الخيارات الممكنة والحلول المرجوة من دون «رتوش» وبين «الشعبوية» الرخيصة التي لا تتحرّج من الهبوط بالخطاب السياسي إلى التجريح الشخصي والوعود المتناقضة والمزايدات الممجوجة.
ما كان لمرشح مثل ترامب أن يكون أصلاً مرشحًا لأحد حزبي السلطة في الولايات المتحدة، الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. إلا أننا حتمًا لسنا في وضع طبيعي.
ذلك أن منظومة المثل عند الأميركيين ما عادت تلك التي أسهمت في بناء أقوى دولة في العالم، وأرقى نظام تعليمي، وأحد أكثر الاقتصادات ديناميكية.
صحيح أن ظاهرة الاعتراض ليست جديدة، والساسة الطارئين والمثيرين للجدل ظهروا في ظروف معينة من تاريخ البلاد، لكن الحياة السياسية في الولايات ظلت تحت خيمة توافق سياسي واجتماعي عريض.
في مرحلة ما في منتصف القرن العشرين كان هناك تيار داخل الحزب الديمقراطي، وبالأخص في ولايات الجنوب، يقف إلى يمين جمهوريين ولايات الشمال. غير أن هذا الوضع أخذ يتلاشى تدريجيًا، وأخذ شمال شرقي البلاد يتحول شيئا فشيئًا إلى الحزب الديمقراطي، بينما غدت ولايات الجنوب التي أعطت أميركا آخر ثلاثة رؤساء ديمقراطيين قبل باراك أوباما معاقل حصينة للجمهوريين.
بول كروغمان، الاقتصادي والأكاديمي الحائز جائزة نوبل، قال مرة في محاضرة له بلندن، عبارة ذات دلالة مهمة، هي «لم يعد في أميركا جمهوري واحد على يسار الديمقراطيين، أو ديمقراطي على يمين الجمهوريين». والمعنى أن المجتمع بات مجتمعًا استقطابيًا بالكامل، وبات لكل من جمهوري الحزبين معاييره السياسية القاطعة. فالديمقراطيون هم الليبراليون اجتماعيًا ودينيًا، الذين يحترمون حرية الفرد في خياراته الشخصية مقابل الحرص على حقوق الجماعة، ويؤيدون بشكل من أشكال التدخل الحكومي والسلم الأهلي والمسؤولية الجماعية بما يعني شبكات أمان للطبقات الدنيا والأقليات، والتسامح مع التنوع العرقي والجنسي والديني والمذهبي.
في المقابل، الجمهوريون هم المحافظون دينيًا ومذهبيًا وقوميًا، والمتحمّسون لحرية الفرد المطلقة ولو حساب مصلحة الجماعة، ويعتبرون شبكات الأمان تكبيلاً لهذه الحرية، ويرون أن مفهوم الحكومة مقيّد لطموح الفرد، وكابح لروح المبادرة والتفوق والعظمة. كما يؤمن المتطرفون منهم، بأن أميركا يجب أن تكون، كما أسسها «الآباء المؤسسون»، وطنًا مسيحيًا أبيض لا مكان فيه للدخلاء والغرباء.
وحقًا، هذا هو الخيار المطروح أمام الناخبين الأميركيين اليوم، وبسبب الفرز الصريح والقاطع شهدنا ظاهرتين مهمتين:
– تعذّر تحقيق اختراق على صعيد البرامج لأن «الشارعين الحزبيين» للمرشحين باتا معبأين تمامًا ولا مجال عند أي منهما للمساومة والإصغاء والاقتناع. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه أمام التشفي والتجريح المتبادل.
– صار «الشارعان الحزبيان» يعبّران عن «منظومتي معايير» مختلفتين تمامًا تشكلان، اليوم، خطرًا حقيقيًا على الانسجام الاجتماعي، ومن ثم السلم الأهلي.
هيلاري وهنا أكرر عبارة «في أي وضع طبيعي»، يجب أن تفوز وهي الأجدر بالفوز؛ لأنها سياسية عاقلة ومعتدلة وذات خبرة. في حين أن ترامب رجل «شعبوي» لا يتورّع عن شيء، وهو مستعد للمقامرة بأي شيء وقول أي شيء، وللأسف، بلغ من نفور الأميركيين من «مؤسسة السلطة» في واشنطن أن نسبة كبيرة منهم مستعدة لإعطاء أصواتها لمرشح من هذه النوعية.
إياد أبو شقرا
صحيفة الشرق الأوسط