يبدو أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا في حوادث تتشابه حد التطابق، ولعل ما يجري اليوم حول واحدة من أعرق حواضر الشرق (الموصل) يعيدنا إلى أحداث مرت بها هذه المدينة حينما كانت ثالثة ولايات بني عثمان في بلاد ما بين النهرين.
سقطت الموصل لاحقا حينما شاخت الإمبراطورية العثمانية على أيدي البريطانيين الذين حاولوا بعد ذلك ضمها إلى مملكتهم الجديدة التي أسسوها من ولايتي بغداد والبصرة ووضعوا تاجها على رأس ابن الشريف حسين، رغم أن وارثي تاج الإمبراطورية العثمانية أصروا على مطالبتهم بإبقائها ولاية تركية، ورفضوا نتائج استفتاء أولي قامت به الحكومة العراقية، التي رفضت هي الأخرى استفتاء أجرته السلطات التركية وحلفاؤها في الموصل.
وقد دفع ذلك البريطانيين إلى خيار عصبة الأمم التي أرسلت بدورها لجنة تحقيق دولية بتاريخ 27 يناير/كانون الثاني 1925، حيث بدأت بمشاوراتها واستقصائها للحقائق الديموغرافية وآراء الأهالي في تبعية ولايتهم، وقد تحدث خيرالدين العمري -وهو أحد أعلام الموصل وشاهد عيان عاصر وعاش تلك الأحداث بدقائقها وتفاصيلها- عن مشكلة الموصل، حيث قال: “كان المرحوم فيصل والإنجليز والحكومة العراقية قد مهدوا طريق النجاح لحل المشكلة لصالح العراق، وقد سطر الصفحة الذهبية في هذا الاستفتاء أبناء الشمال الأكراد، فقد انضم الأكراد وفاز العراق”. (ينظر نص التقرير في جريدة الموصل، العدد 944 في 7 فبراير/شباط 1925 علما بأن التقرير أكد على عروبة الموصل).
“مدينة الموصل مدينة صعبة المراس معقدة العادات والتقاليد، متكبرة في طباعها، لا ترضى بسهولة، حتى قال عنها صدام حسين وهو يسترضي نائبه عزة الدوري، حينما ذهب إليه شاكيا عدم استقباله من أهلها لا تزعل عليهم فالموصل ليست سهلة ولا تمنح ولاءها بسهولة”
وعن موقف عرب الموصل كتب العمري يقول: “كان بعض العرب يتهربون من مواجهة اللجنة، محافظين لخط الرجعة فيما لو عاد الأتراك إلى هذه البلاد” (للتفاصيل ينظر مؤلفه المخطوط: مقدمات ونتائج، جـ2 ص257-259).
ويضيف العمري قائلا: “وقد تهافت بعض عرب الموصل على تقبيل أيادي جواد باشا الممثل التركي، وهتف آخرون بحياة مصطفى كمال (أتاتورك)، ولولا الشغب الذي أحدثه بعض المخلصين تخويفا للباشا المومئ إليه ليمتنع عن الخروج والتجول في المدينة لتوالت المخازي”.
أردت بهذه المقدمة التاريخية المقتضبة أن أسلط قليلا من الضوء على تعقيدات مدينة تتنازع عليها أقوام ومذاهب ودول، تلك هي محافظة نينوى وعاصمتها الموصل ذات الثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة؛ إنها أرض شاسعة تمتد من أقصى شمال البلاد العراقية إلى أقصى شمالها الغربي في سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية الكردية، هذه المحافظة كانت فيما مضى ولاية الموصل كما ذكرنا أعلاه، وكانت تضم معظم إقليم كردستان الحالي مع كركوك وكل ديالى وحتى تخوم تكريت وأطراف الكوت شرقا، لكنها فقدت معظم أجزائها قضما إداريا أو تغييرا ديموغرافيا خلال أقل من مئة عام.
مدينة الموصل مدينة صعبة المراس معقدة العادات والتقاليد، متكبرة في طباعها، لا ترضى بسهولة، حتى قال عنها صدام حسين وهو يسترضي نائبه عزة الدوري، حينما ذهب إليه شاكيا أهل الموصل لإنهم لم يستقبلوه كما ينبغي ولم يصفقوا حينما يذكر اسمه؛ قال له صدام لا تزعل عليهم فالموصل ليست سهلة ولا تمنح ولاءها بسهولة، اصبر عليهم وسترى!
مدينة شهدت في تاريخها أقسى أنواع العنف من السحل بالحبال خلف السيارات إلى تعليق الجثث على أعمدة الكهرباء، والاغتيالات العشوائية بعد فشل محاولة عبد الوهاب الشواف القومية ضد الزعيم عبد الكريم قاسم، ولا ينسى الموصليون تاريخهم الأقدم حينما حاصرهم نادر شاه الإيراني قرابة سنة كاملة مطبقا على مدينتهم حتى خلت من أي مأكل، فاضطر السكان إلى أكل العشب ولحوم القطط والكلاب والحمير!
الموصل اليوم سلمت أمرها راضية مرضية لثلاث قوى رئيسية؛ إقليم كوردستان الذي سيطر منذ الساعات الأولى لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في أبريل/نيسان 2003 على كل المناطق ذات الأغلبية الكردية أو المسلوخة من أربيل ودهوك مثل سنجار وزمار ومعظم سهل نينوى ومخمور، وحكومة بغداد وجيشها الوطني حصريا، لرفض معظم أهالي المحافظة ومركز الموصل وممثليهم في اشتراك الحشد الشعبي ذي الأغلبية الشيعية المطلقة، إضافة إلى التحالف الدولي والأميركيين تحديدا.
ويبدو أن القوى الثلاث قد وضعت خارطة طريق ونفوذ لها في مركز المدينة وأطرافها قبيل بدء العمليات العسكرية لتحريرها، بحيث تكون مناطق سنجار وحوض زمار سنجار وسهل نينوى ومخمور وأطرافه تحت نفوذ إقليم كوردستان بصيغة يتفق عليها لاحقا، بينما يكون مركز المدينة وأطرافها الجنوبية تحت نفوذ الحكومة الاتحادية، وتؤكد تسريبات مهمة جدا أن تلعفر وأطرافها جنوبا ستكون تحت نفوذ الحشد الشعبي.
ويبقى المايسترو الأميركي ضامنا لهذا الشكل من التوافق الأولي لحين البت في مصير الشكل النهائي للبلاد العراقية وخيارات الطبقة السياسية وربما الأهالي أيضا في إنشاء فيدرالية لغرب العراق ذي الأغلبية السنية، أو تشكيل إقليم نينوى واستفتاء أهالي الأقضية ذات الأغلبية الكردية أو المسيحية في تبعية مدنهم. ويبقى الخيار الكونفدرالي يداعب أخيلة الكثير من الطبقة السياسية السنية والكردية بما يضمن استقلالية حقيقية في اتحاد عراقي مع الشيعة.
“إن حكم نوري المالكي لثماني سنوات وحكم تنظيم الدولة لنحو ثلاث سنوات غيّرا بنية التفكير لدى أهالي الموصل وبقية المناطق التي احتلتها داعش، خاصة فيما يتعلق بموضوعات التقسيم والفدرلة التي أصبحت واحدة من أهم مطالب النخب السياسية والاجتماعية في الموصل”
وفي هذا السياق سيكون شكل النظام الكونفدرالي العراقي ثلاثيا يضم مكوناته الأساسية وهي العراق الشيعي ويشمل كل محافظات الجنوب والفرات الأوسط (البصرة والعمارة والناصرية والكوت والسماوة والديوانية والحلة وكربلاء والنجف) والعراق السني ويشمل محافظة صلاح الدين (باستثناء ما ألحق بها من مدن وبلدات كانت تتبع كركوك إبان نظام صدام حسين) والأنبار ومعظم نينوى وأجزاء من كركوك وديالى، وكردستان التي تتمتع باستقلالها الذاتي منذ ربيع 1991، واستطاعت أن تؤسس خلال ربع قرن معظم مؤسسات الدولة الرئيسية بما فيها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومؤسسات الحكم الثلاث منذ أن انتخبت برلمانها في 1992 وشكلت حكومتها الإقليمية التي حازت على قبول واسع في أميركا وأوروبا ومعظم البلاد العربية وعلى مستوى الدولتين الأكثر اهتماما بملفها وهما إيران وتركيا.
ستشهد الأسابيع القادمة بالتأكيد أحداثا دراماتيكية في عملية التحرير، خاصة وأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عمل في بيئة أنتجها نوري المالكي دعت الأهالي في بداية الأمر لقبوله كبديل لحكم دولة القانون، لكنهم وخلال أشهر قليلة اكتشفوا حقائق أخرى أبعدتهم تدريجيا عن خيار التنظيم كحالة مستديمة للحياة، وبدأوا بفتح قنوات اتصال مع مفاصل مهمة من إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، وقد اكتشف تنظيم الدولة الكثير منهم وحكم عليهم بالقتل وبأساليب قاسية جدا لترويع الآخرين وتخويفهم من التورط في التخابر مع الإقليم أو بغداد.
ورغم ذلك نستطيع أن نستنتج بأن حكم نوري المالكي لثماني سنوات وحكم تنظيم الدولة لما يقرب من ثلاث سنوات غيّرا بنية التفكير لدى أهالي الموصل وبقية المناطق التي احتلتها داعش، خاصة فيما يتعلق بموضوعات التقسيم والفدرلة التي أصبحت واحدة من أهم مطالب النخب السياسية والاجتماعية في الموصل.
وحين ينجلي دخان الكبريت والآبار المحروقة وغبار عجلات الحرب، والمعارك من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع ويتم إسقاط هيكل تنظيم الدولة العسكري؛ ستكون الخارطة المستقبلية لمحافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل هي تلك التي سترسمها القوى وخيارات الأهالي في مركزها وأطرافها، بعد أن فشلت اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها من اتفاقيات قبل مائة عام في إذابة مكوناتها المختلفة عرقيا ودينيا ومذهبيا في بوتقة مفهوم للمواطنة يفرض فرضا لا اختيارا.
كفاح محمود كريم
الجزيرة