في جامعة دمشق؛ أقدم وأكبر معهد للتعليم العالي في سورية، يسير الطلبة باسترخاء في الحرم الجامعي الفسيح. وتظهر الطالبات الإناث بتسريحات جديدة أو في أغطية رؤوس بيضاء جميلة. وما تزال بناطيل الجينز الضيقة شائعة.
الأصوات هي أصوات نوافير المياه والطيور التي تصدح، وليس أصوات القنابل. ويمكن الغفران لسائح ساذج إذا نسي أن ثمة حرباً ضارية تقوم بتمزيق حلب إرباً، المدينة التي تبعد 200 ميل إلى الشمال، أو أن جماعات مسلحة من المعارضة تستمر في الاحتفاظ بموطئ قدم لها في العاصمة نفسها.
ولكن، لا يوجد سياح هنا. وقد كنت أنا وزميلي في “ان بي أر” بيتر كينيون في الجامعة لحضور مؤتمر أقرته الحكومة هذا الأسبوع، وهو ما وفر فرصة نادرة للصحفيين الأجانب لزيارة دمشق.
كصحفي متمركز في بيروت وأغطي سورية على مدى السنوات الأربع والنصف الماضية، أقضي ساعات كل يوم وأنا أجري الاتصالات بواسطة “سكايب” و”واتساب” و”فيسبوك” مع سوريين يعانون مما لا يمكن تصوره: الجوع، والقصف، والحصار. بعضهم يعيشون في مناطق محاصرة وتحت رحمة نيران مجموعات المعارضة المتشددة، وبعضهم تحت رحمة “داعش”، وهناك المزيد من الذين ما يزالون تحت هجوم تشنه عليهم حكومة بلدهم نفسها.
بينما أغادر الحرم الجامعي وأسير عبر الشوارع في دمشق، التي تعج بالسيارات والرجال والنساء الذين يسيرون في أزواج، والأولاد، أتساءل كم من سكان العاصمة أصبحوا معتادين على تناقض الحياة الغريب هذا خلال زمن الحرب.
هل فقدوا أخاً يخدم في الجيش، أو ربما في كتيبة ثائرة؟ كم منهم له أقارب اختطفتهم العصابات التي نبعت في غمرة الفوضى العارمة؟ ربما لديهم ابن أو ابنة زج بهما في السجن بسبب انضمامهما إلى الاحتجاجات في تلك الأيام الأولى من الانتفاضة في العام 2011.
أتساءل عما إذا كانوا قد غيروا آراءهم من الانتفاضة عندما شاهدوا الجهاديين المتشددين وهم يصعدون إلى الهيمنة ويتعهدون بالاستيلاء على مدينتهم الحضرية. هل يعتقدون بأنها حملة الحكومة ضدهم هي التي دفعت المحتجين للجوء إلى الأسلحة ودفعت مجموعات الشباب الحالمين إلى الهرب من البلد؟
يبدو العديدون هنا وأنهم يواصلون المضي بنعمة وكرامة، بل ويتمتعون بالمتع الدنيوية البسيطة -مثل الفتيات المراهقات والرجل في سن الأربعين الذين يلتقطون صور سيلفي أمام نحت ضخم لعبارة “أنا (قلب) دمشق” في ساحة رئيسية في المدينة.
في شركة الهاتف “سيريا تل”، طلب من رجل المبيعات الذي كان يساعدني في تشغيل رقم خلوي محلي بالصبر قليلاً بينما يساعد اثنين من المتدربين، رجلا وامرأة، في تعلم التفاصيل. كانت فرصة جيدة تسجيل هاتف نقال لشخص يحمل جواز سفر أجنبيا، في هذه الحالة جواز سفر أميركي. وقد سار معنا في كل خطوة، وهو يذكرهما بلطف بتسجيل رقم جواز السفر بشكل صحيح، وبأن يسألا بعناية إذا ما كنتُ أريد “رقماً جيداً” -واحداً سهلاً على التذكر.
عندما حان وقت الدفع، أدركت أنني خالي الوفاض من الليرات السورية اللازمة. ولم يكن هناك دفع ببطاقة الائتمان أو تسديد بالدولار مثلما أفعل في لبنان المجاور. في سورية، النقد هو الملك: فقد ألحقت العقوبات الشلل بأي انخراط مالي عالمي كان البلد يتبناه قبل الحرب.
ربما لام رجل المبيعات في “سيريا تل” الحكومة الأميركية على فرض العقوبات، لكنه إذا فعل ذلك، فإنه لم يبح به. وبخجل تقريباً، طلب مني الرجل أن لا أقلق، وقال إن باستطاعتي العودة إليه في أي وقت قبل الإغلاق لجلب النقود.
من هنا بدأت رحلتى الأوديسية للعثور على مكان أستطيع فيه صرف دولاراتي الأميركية. وبعد تنقلي من بنك إلى آخر على طول الشارع فاقداً الأمل في فروع البنوك اللبنانية، أدركت أنه يجب علي أن أتوجه إلى منطقة البنك المركزي حيث سأجد مكاتب صرافة.
ركبت سيارة تاكسي بعد الموافقة على أن أدفع له في نهاية مهمتنا. وتنقلنا خلال حركة السير في دمشق ووصلنا أخيراً إلى وجهتنا؛ مكتب صرافة خاص في شارع فيه صف من الأشجار يطل على البنك المركزي. وبعد أن صرفت مبلغ 500 دولار حتى أشعر بالأمان، تلقيت كميات من أوراق النقد السورية من فئة 500 ليرة مربوطة بأربطة مطاطية.
سلمني موظف الصندوق كيساً بلاستيكياً أسود لإخفاء المبلغ الذي صرفته عن الأعين ووصلاً موقعاً وممهوراً بختم يحمل معدل الصرف الرسمي البالغ 514 ليرة سورية لكل دولار. وتحتفظ الحكومة بهذا السعر على الرغم من وجود السوق السوداء التي تدفع قدراً أفضل قليلاً.
عودة إلى سيارة الأجرة حيث عدت ثانية إلى حركة السير و”سيريا تل” لدفع مبل الـ4000 ليرة التي أدين بها. تبسم رجل المبيعات والمتدربون عنده بحبور وخرجت من الباب واعياً أكثر كم كنا مقطوعين عن باقي العالم.
أخيراً، حان وقت العودة إلى مؤتمر الجمعية السورية البريطانية الذي كنت أحضره أنا وزميلي. ووجدت أنني فوّت الجلسة العامة بسبب أثر العقوبات.
أليسون ميوز
صحيفة الغد