انتهت الجمهورية التركية الخامسة في تركيا نظرياً مع انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان بالاقتراع الحرّ المباشر في أغسطس/ آب 2014، ولأول مرة منذ إنشاء الجمهورية، وانتهت عملياً مع محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز الماضي، وطي صفحة الانقلابات العسكرية وإعادة الجيش إلى سيطرة السلطة، والوصاية المدنية. كما في أي نظام ديمقراطي حقيقي، وتعرف تركيا حالياً ما يشبه فترة انتقالية نحو الجمهورية السادسة، حيث يتم العمل على دستور جديد سيكرّس النظام الرئاسي العلماني الديمقراطي، وينقل البلاد، بالتالي، إلى مئويتها الثانية في العام 1923، التي ستكون أردوغانية بامتياز، تماماً كما كانت المئوية الأولى أتاتوركية بامتياز.
أعلن الرئيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية في 1923، بعد حرب استقلال مرهقة مضنية وطويلة، ثم ألغى الخلافة الإسلامية بعد ذلك بشهور، أي في مطلع العام 1924. وشهدت الجمهورية التركية الأولى نظاماً رئاسياً قائماً على الحزب الواحد، واقتصاداً أقرب إلى الاقتصاد الموجه أو الاشتراكي. وكما شهدت علمانية صارمة، قطعت مع الخلافة العثمانية والتاريخ والثقافة الإسلامية، وجرى قمع أي توجهات إسلامية في المجتمع، بما في ذلك حرية العبادة لكل فئات المجتمع وطوائفه، مع تغيير حروف اللغة من العربية إلى اللاتينية، واعتبار البلاد جزءاً من المنظومة الثقافية الفكرية والحضارية الغربية، وبالتالي، قطع كل الصلات مع المحيط الشرقي العربي والإسلامي. وكان المزاج السياسي السائد آنذاك أقرب إلى الحياد في الصراع بين المعسكرات العالمية المتبلورة بعد الحرب العالمية الأولى.
على عكس ما يعتقد كثيرون، طويت صفحة الجمهورية الأولى، مباشرةً، مع وفاة أتاتورك في 1939، وطويت معها معالم مهمة وأساسية منها، حيث تم تخفيف القبضة على التوجهات والمعالم الإسلامية، وعادت، بشكل خجول، مدارس إمام وخطيب مثلاً، وبعض المظاهر
الإسلامية الأخرى، ولو على نطاقٍ ضيق، وفي الأرياف والمناطق النائية خلف أتاتورك رفيق دربه، عصمت ايمنونو، الذي انحاز إلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبات أكثر قرباً من المنظومة الغربية في الخارج. وفي هذه المرحلة، جرى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتبني نظام تعددى ديمقراطي برلماني في الداخل، بدلاً من نظام الحزب الواحد، وتم إجراء أول انتخابات تعدّدية في العام 1950، فاز فيها عدنان مندريس وحزبه الديمقراطي الخارج من عباءة حزب أتاتورك، مشكلاً حكومة أشاعت مزيداً من الحريات، وخصوصاً فيما يتعلق بحرية التعبد والثقافة والقيم الإسلامية، هو أعاد مثلاً الأذان باللغة العربية، علماً أنه كان يمينياً محافظاً. وقد أشاع مندريس كذلك أجواء من الانفتاح الاقتصادي الاجتماعي الفكري في الداخل، وكان كذلك أكثر انفتاحاً على الخارج، وطبعاً ضمن التوجهات الغربية في حلف الناتو، أو في العلاقات الخارجية بشكل عام.
تدخل العسكر بعد عشر سنوات من وصول مندريس إلى السلطة بتنفيذ ضباط متوسطي ومنخفضي الرتبة في الجيش انقلاباً عسكرياً، بحجة الحفاظ على قيم الجمهورية العلمانية، كما بلورها ووضعها أتاتورك، وتم إعدام مندريس وثلة من رفاقه. وبذلك طويت صفحة الجمهورية الثانية، جمهورية إيمنونو – مندريس، وبدأت مرحلة انتقالية أو ضبابية، تقوقعت تركيا فيها على نفسها أكثر، إلى أن وصل العسكر، كالعادة، إلى القناعة بضرورة الانفتاح والعودة إلى الحياة الديمقراطية، وهو ما حدث فعلاً في بداية السبعينيات، إيذاناً بقيام الجمهورية الثالثة التي استمرت هي الأخرى عشر سنوات تقريباً.
شهدت العودة إلى الحياة الديمقراطية والتعددية الحزبية تطوراً تاريخياً سيطبع بعد ذلك مستقبل تركيا ومصيرها، وسيؤسس لنقلها بعد ذلك نحو المئوية الثانية، حيث أسّس المهندس نجم الدين أربكان حزب السلامة الوطني حزباً قومياً يمينياً محافظاً بخلفية ثقافية فكرية إسلامية واضحة. وأربكان هو أحد تلاميذ العالم الصوفي، بديع الزمان النورسي، الذي نفاه العسكر، ثم دفنوه بعد وفاته في مكان غير معلن، حتى لا يتحول قبره إلى مزار، علماً أنه مثّل المرجعية الفكرية الثقافية لأربكان، وتلاميذه قادة حزب الحرية والعدالة فيما بعد. وفاز حزب السلامة بالمرتبة الثانية في ثاني انتخابات تعدّدية، وانضم زعيمه أربكان لحكومة بولنت أجاويد نائباً لرئيس الوزراء. وخلال هذه الفترة، عاشت تركيا مزيداً من الانفتاح الداخلي والخارجي، وجرى مثلاً التدخل العسكري في قبرص، وزادت المظاهر الإسلامية في المجتمع، ما تبدى في التظاهرة المليونية، احتجاجاً على ضم إسرائيل للقدس في سبتمبر/ أيلول 1980. وكالعادة، طويت صفحة الجمهورية الثالثة (جمهورية أجاويد أربكان) والحقبة الديمقراطية بانقلاب عسكري آخر في الشهر نفسه، جاء هذه المرّة متناغماً أكثر مع التطورات الخارجية، حيث احتدام الحرب الباردة، وقيام الثورة الإيرانية، وتحول تركيا إلى لاعبٍ وعنصرٍ مهم وقوي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسياساته ضد الاتحاد السوفيتي.
كان الانقلاب هذه المرّة مختلفاً، فقد جرى رفده بمعوناتٍ مالية واقتصادية هائلة من الخارج، ومن الدول الأوروبية وأميركا، للحفاظ على الاستقرار، وضمان دور أنقرة فى سياسات
“الناتو” الإقليمية ضد الاتحاد السوفيتي وإيران على حد سواء، بينما فهم قادة الانقلاب في الداخل، أنه لا بد من الانفتاح على الثقافة والقيم الإسلامية، مع ضمان ألا تتدخل في السياسة، أو تؤثر سلباً على قيم الدولة العلمانية بشكل عام، وتمّت صياغة دستور 1982 الذي حاول فيه العسكر قوننة تدخلهم، ووصايتهم على السياسة ومبادئ الجمهورية الأتاتوركية العلمانية بشكل عام. وأتاح الدستور الفرصة لتأسيس أحزاب جديدة، غير الأحزاب السابقة، بعد نفي معظم قادتها إلى اسطنبول، وأجريت أول انتخابات تعددية بعد الانقلاب، والتي فاز بها تورغوت أوزال وحزبه الوطن الأم. قاد أوزال، رئيس وزراء، ثم رئيساً، النهضة الاقتصادية الاجتماعية في الأناضول خصوصاً، والتي أفرزت بيئة حزبي الرفاه والعدالة والتنمية وجمهوريهما فيما بعد، كما قاد البلاد إلى مزيد من الحرية والتعدّدية السياسية والحزبية، مدشّناً، بشكل فعلي، الجمهورية التركية الرابعة التي شهدت صعود حزب السلامة والزعيم أربكان، ولكن بشكل محدّث مع حزب الرفاه الذي فاز في العام 1996 في أوّل انتخابات حرة ونزيهة، أجريت بعد تأسيسه، مشكلاً حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم اليساري، بزعامة تانسو تشيلر، ومواصلاً النهوض الاقتصادي الاجتماعي والانفتاح الداخلي والخارجي الذي بدأه تورغوت أوزال، غير أن أربكان تبنى سياسةً خارجيةً أكثر استقلاليةً عن الغرب، ومنفتحةً أكثر على العالم العربي الإسلامي، حيث زار عواصم عربية وإسلامية مهمة، مثل القاهرة طهران وإسلام أباد، وفكر في تأسيس جماعة الثماني الإسلامية الكبرى، ما أثار حفيظة العسكر الذين تدخلوا، مرة أخرى، لفرض رؤاهم مدعومين بدستور 1980، الذي صنعوه وأعطاهم الحق في الوصاية السياسة على البلد، وحماية نظامها العلماني، ووجهوا مذكّرةً إلى رئيس الوزراء المنتخب، تضمنت ضرورة القيام بخطوات وإصلاحات سياسية اجتماعية أمنية، وجدها مناقضةً لقناعاته، كما لبرنامجه الانتخابي الذي نال ثقة الناس على أساسه أربكان كان شجاعاً حكيماً، حيث فدى بنفسه ومستقبله السياسي البلد من انقلاب عسكري خشن وفظ، وكان ليعيدها سنواتٍ، بل عقوداً إلى الوراء. وبادر، بالتالي، إلى تقديم استقالته، تحت ضغط الانقلاب الناعم هذه المرة، تماشى مع الأجواء الدولية المستجدّة، كما لحكمة أربكان وبُعد نظره، وحسّه الوطني العالي.
أنهى الانقلاب، كالعادة، الجمهورية الرابعة، جمهورية أوزال- أربكان، مطلقاً مرحلة انتقالية مضطربة غير مستقرة، استمرت خمس سنوات تقريباً، وصل فيها الاقتصاد إلى حافة الانهيار، ما اضطر العسكر، ضمن أسباب أخرى داخلية وخارجية، للانزواء، وإتاحة الفرصة أمام عودة جدّية للحياة الديمقراطية، وإجراء انتخابات نزيهة، أوصلت الحزب الوليد آنذاك “العدالة والتنمية” الذي خرج من رحم حزب الرفاه إلى السلطة بانتصار ساحق، وبالتالي، الحكم منفرداً مطلقاً ومدشناً الجمهورية الخامسة، ودائماً طبعاً ضمن مئوية أتاتورك الأولى.
امتدت الجمهورية الخامسة إلى أكثر من عشر سنوات تقريباً، وشهدت نهوضاً، بل طفرة
اقتصادية اجتماعية، ضاعفت الدخل القومي ثلاث مرات تقريباً، ووضعت تركيا ضمن الدول العشرين الأكثر تطوراً ونهوضاً. وكما شهدت إصلاحات ديمقراطية ودستورية، بسطت مزيداً من الحريات، في أبعادها الدينية الاجتماعية الثقافية والفكرية، وأنهت سطوة العسكر على الحياة السياسية عبر استفتاء 2010 الذي تضمن انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر، ولكن من دون الوصول إلى حد وضع دستور جديد عصري ديمقراطي، وحلّ للمشكل أو الأزمة الكردية، كما أراد الرئيس أردوغان مع إطلاقه عملية التسوية.
انتهت الجمهورية الخامسة نظرياً مع انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر قبل عامين، وعملياً مع انقلاب يوليو/ تموز 2016 الفاشل الذي طوى نهائياً صفحة الانقلابات العسكرية، كما أنهى استقلالية المؤسسة العسكرية عن السلطة السياسية والمنتخبة، وفتح النقاش مجدداً حول وضع دستور جديد بنظام رئاسي، أو حتى رئاسي برلماني مختلط.
نعيش الآن مرحلة انتقالية أخرى، مستقرة نسبياً على وقع تطورات داخلية وخارجية عاصفة. ولكن، مع نقاش ديمقراطي ودستوري سلمي والبقاء على السكة الديمقراطية الدستورية الصحيحة، وعند إجراء الاستفتاء على الدستور الجديد ربيع العام المقبل (2017)، سيتم الدخول عملياً في الجمهورية السادسة التي ستنتقل الجمهورية التركية عبرها إلى مئويتها الثانية في العام 2023.
ستكون المئوية الثانية بالتأكيد مئوية أردوغان، كما كانت المئوية الأولى مئوية أتاتورك بامتياز، وهي المئوية التي شهدت، بجمهورياتها الخمس، التمسّك بالنظام السياسي العلماني، سطوة العسكر ووصايتهم على الحياة السياسية، واعتبار البلد جزءاً من المنظومة الحضارية الثقافية والفكرية الغربية التي تبدت في عضوية “الناتو”، كما المحاولات المستمرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وقطيعة شبه تامة تجاه التاريخ السلجوقى العثماني، والمشرق العربي والإسلامي بشكل عام.
ستكون المئوية الثانية، مئوية أردوغان، علمانية كذلك. ولكن، ضمن فهمٍ وتفسيرٍ مختلفين، يضعانها، أي العلمانية، كما الدولة ككل على مسافةٍ واحدة من جميع الأديان والمعتقدات في المجتمع، وستكون بالتأكيد ديمقراطيةً تعدديةً بنظام رئاسي اقتصادي ليبرالي حرّ، وستكون منفتحةً على الغرب، وستظل سنواتٍ، وربما عقوداً، ضمن حلف الناتو، وعلى علاقةٍ وتماسٍّ ما مع الاتحاد الأوروبي، لكنها ستكون منفتحةً كذلك على محيطها المشرقى العربي الإسلامي، ولا تقطع مع تاريخها العثماني، أو تتنكر لهويتها القومية وقيمها الإسلامية. ولكن، ضمن مجتمع عصري وحديث تماماً، كما قال الرئيس أردوغان، مقتبساً عن أتاتورك، عند تأسيس حزب العدالة والتنمية. الحزب الذي سيهيمن، بنخبته الاقتصادية الاجتماعية الثقافية والفكرية، على الجمهورية السادسة، وربما المئوية الثانية أيضاً، تماماً كما فعل حزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك، مدعوماً من النخبة العسكرية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية الفكرية في المئوية الأولى.
ماجد عزام
صحيفة العربي الجديد