جميل أن يتحدث سياسيون عراقيون عن «تسوية تاريخية» لأزمة العراق، فهذا إدراك لعمق المشكلة وضرورة إيجاد حل جذري لها كي ينعم العراقيون بدولة تحترمهم جميعاً وتتعامل معهم من دون تمييز. لكن المحزن أن خطاب «التسوية» ما زال مقيَّداً بالأطر القديمة التي قادت العراق إلى مأزقه الحالي.
خطاب التسوية (الحديث) هو نفسه الخطاب القديم، وهو لن يوصِل إلى حل لأزمة كان الخطاب والسياسات التــي بُنيت عليه، قد ولّدتها. الدولة العصرية القوية لا تتحدث عن مكونات وأديان ومذاهب، خطابها ليس فئوياً بل وطني وإنساني، يُشعِر الناس بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الوقت نفسه لا يناقض العقائد أو المذاهب الدينية أو الفلسفية العقلانية السائدة في المجتمع.
الخطاب السياسي العراقي ما زال إقصائياً ومتشنجاً، وإن كان البعض يطلق أحياناً خطاباً عقلانياً، فإن السياسيين عجزوا عن مواجهة المشكلة الحقيقية التي زعزعت أركان النظام الجديد ألا وهي استبعاد حزب البعث من العملية السياسية. نعم، البعث لا يؤمن بالديموقراطية، وكان هذا سبب اتساع المعارضة له، إلا أنه سيضطر إلى القبول بالآخر شريطة أن يكون الآخر مستعداً لمبادلته القبول. ليس من العدالة بشيء أن تُجرَّم مجموعة سياسية إن لم تكن مشتركة فعلياً في جريمة، ولا يمكن تحميل البعثيين جميعاً، ولا حتى بعض القياديين منهم، الجرائم التي ارتكبها النظام السابق، وهذه القضايا ليست سياسية ويجب أن تترك للقضاء لبتّها. النظام الحالي يعترف رسمياً بأن ليس كل البعثيين مجرمين، والدليل أن كبار البعثيين السابقين يعيشون بين الناس ويتسلمون رواتبهم التقاعدية من الدولة كما إن المحاكم برأت قياديين منهم.
المشكلة الأخرى التي تواجه العراق هي المشكلة الكردية التي تحتاج إلى حوار جدي مع ممثلي الشعب الكردي حول ما يريدونه من العراق وما يريده منهم. من الواضح أن هناك غالبية كردية تريد الاستقلال، لذلك يجب الاعتراف بحق الأكراد بتقرير مصيرهم. قد لا تكون الظروف الدولية مواتية لإعلان الدولة الكردية، لكن هذه مسألة يقررها الكرد، ويجب أن يساعدهم العراق على إقامة دولة ديموقراطية حقيقية، ويكون أول من يعترف بها ويتعاون معها. كما يجب أن تشكل لجنة من الخبراء، وليس من السياسيين، لرسم الحدود بين إقليم كردستان والعراق وحسم أمر المناطق (المتنازع عليها) ليلتحِق بالإقليم ما تقرره اللجنة بأنه جزء ديمغرافي وتاريخي منه.
التسوية تعني حلاً جذرياً ونهائياً للمشكلة العراقية، وهي تتطلب حواراً واقعياً بعيداً من المثاليات والاستحواذ السياسي والطائفي والمناطقي والقومي، فلا حل يأتي من دون تقديم التنازلات والابتعاد عن التفرد والإستئثار بالسلطة.
عقيدة النظام السابق كانت تقوم على الإستحواذ على السلطة والموارد وإقصاء المعارضين وتخوينهم وتهجيرهم أو حبسهم أو قتلهم. وقد أدت تلك السياسة إلى تدمير العراق وتقسيمه جغرافياً وديموغرافياً وانتهت به إلى الاحتلال الأجنبي وما تبعه من كوارث. وبسبب تلك العقيدة، التي تنتمي إلى العصور المظلمة، اتسعت دائرة المعارضة للنظام الذي لجأ إلى مزيد من القمع والإقصاء والقتل والتهجير، وكلما ازداد قمعه وإقصاؤه وانفراده بالسلطة، ازداد عدد معارضيه حتى أصبحوا بالملايين في الداخل والخارج.
كان على السياسيين الحاليين أن يأخذوا العبر من تجربة النظام السابق وأن يطرحوا حلولاً واقعية وليست طوباوية للمشكلة العراقية. لم يعد في الإمكان في عصر المعلومات والاتصالات والحريات والعولمة، الاستحواذ على السلطة والنفوذ والموارد في أي مجتمع حتى لو كان في المراحل الأولى لتكوينه. المجتمع الحديث يتسم بالتعددية والحوار ونبذ الظلم والعنف والتعسف، وهو أيضاً يمتلك أدوات التغيير، وإن كان خطاب التمييز الطائفي والقومي قد انطلى على بعض أجزاء المجتمع العراقي، فإنه لم يعد مقبولاً داخلياً ولا خارجياً ويجب مغادرته كلياً.
العراق، كباقي الدول الحديثة، جزء لا يتجزأ من المجتمع الدولي، وهو في حاجة إليه أكثر من أي بلد آخر لأسباب كثيرة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وقد برهنت الأزمات المتتالية، خصوصاً تمكُّن جماعة داعش من السيطرة على ثلث العراق وتهجير 4 ملايين وقتل الآلاف، على حاجة العراق إلى المجتمع الدولي الذي لولاه لما تمكن من صدها. لكن المجتمع الدولي الجديد لن يساعد أو ينسجم مع نظام يضطهد مواطنيه، حتى لو كان فرداً واحداً، أو ينتقص من الحريات العامة تحت أي ذريعة، أو يعجز عن استيعاب التميز الثقافي لشرائح المجتمع المختلفة أو التوجهات الثقافية والخيارات الحياتية لأفراده، وهنا تكمن ضرورة حيادية الدولة وتبنيها قوانين منصفة لكل مواطنيها وصيانتها الحريات العامة والخاصة. يجب على العراق أن يتمسك بسلاح الديموقراطية والدولة المدنية كي يحظى بالدعم الدولي.
ستبرز بعد تحرير الموصل فرصة حقيقية للتسوية المبنية على المصالحة، وعلى الطبقة السياسية أن تغتنم هذه الفرصة وتغادر الخطاب المثير للفرقة وتستوعب كل القوى السياسية، بما فيها البعثيون السابقون، وتتبنى خطاباً وطنياً جامعاً يُشعِر العراقيين جميعاً بأنهم ينتمون إلى دولة عادلة. السياسيون الأسبان، بقيادة أدولفو سواريز، تمكنوا من بناء دولة ديموقراطية قوية وتخلصوا من القوى الانفصالية والمتطرفة عبر تبني خطاب وطني جامع واستيعاب الجميع في العملية السياسية التي قادت إلى ديموقراطية راسخة. أسبانيا، مثل العراق، دولة متعددة الأعراق والثقافات، وقد عانت لفترة طويلة من حرب أهلية مدمرة وديكتاتورية عسكرية، لكنها وضعت كل ذلك وراءها، بفضل قيادة سواريز الفذة، عندما جعلت من التسامح مبدأً مقدساً. لقد سمحت حتى لقائد الإنقلاب العسكري على الديموقراطية عام 1981، الجنرال أنتونيو تاجيرو، بأن يشترك في انتخابات 1982 من السجن! بينما سمحت لحزب «هيري باتاسونا»، الذي يدعو لإنفصال إقليم الباسك ويؤيد إرهاب حركة «إيتا»، في المشاركة في الانتخابات. بل سمحت حتى لحزب «فيروزا نيوفا» الفاشي المعادي للديموقراطية، بالمشاركة في انتخابات 1979. لم تتمكن الأحزاب المتطرفة أن تستمر طويلاً إذ لفظها الشعب الأسباني عندما رأى بديلاً وطنياً يتعامل بعدالة وتسامح مع الأسبان جميعا من دون تمييز. بناء الدولة يحتاج إلى قادة مستعدين للتضحية من أجل المصلحة الوطنية. ما زال العراق ينتظر بروز مثل هؤلاء القادة كي يؤسسوا دولة منصفة لجميع العراقيين.
حميد الكفائي
صحيفة الحياة اللندنية