يدور الاحتمال الآخر حول تكوين تنظيمات جديدة (معدّة سلفا)، بأسماء وأجندات، أساسها معاداة فكرة الإسلام الوسطي، وظاهرها التلويح مجدّدا بفرضية (الجهاد)، بما تعنيه هذه المفردة من تأثير معنوي كبير على الشباب المسلم الذي يجد نفسه في حالات ضيق نفسي واجتماعي وسياسي، تمتد من بلدانهم الأصلية، وصولاً إلى الدول التي يعيشون فيها، هذه الحالات هي التي تسمح بتجنيد الشباب المتحمس للانتقام ممن يدمرون بلدانهم، ويسقطون نسيجهم الوطني والاجتماعي، من جهة، وتبقي حالة الخوف والترقب وازدواج الرؤية لدى شعوب هذه الدول، حتى يصير الإسلام كأنه مدرسة لا تنفكّ عن إنجاب التنظيمات الفكرية والسياسية “الإرهابية”.
وبالعودة إلى الظهور المدوّي لتنظيم داعش في صيف 2014، بعد احتلاله السريع محافظة نينوى وحاضرتها الموصل، يتبيّن حجم التواطؤ الكبير من دول كبرى متحكّمة بشؤون العراق والمنطقة، بتسهيل إتمام هذه العملية وإظهار (داعش) كأنه قوةٌ لا يمكن هزيمتها أو حتى
إيقافها، فمضى مقاتلو التنظيم على قلة عددهم بكل يسرٍ صوب أهم المحافظات العربية الشمالية (صلاح الدين، الأنبار) ليحتلها، ولتنهزم من أمامه، من دون قتال ألوية وفرق عراقية كبيرة.
هو تواطؤ، لأن الولايات المتحدة، وهي تراقب كل حركةٍ في العراق الحليف، لم تحرّك ساكناً وهي ترى (ولا نقول تعلم)، سيطرة بضعة مئات من مقاتلي “داعش”، على أكبر مخازن السلاح والعتاد في العراق، بعد مخازن بغداد، وهي أميركية في أغلبها، في حين كان في وسع الولايات المتحدة أن تدمر هذه المخازن بضرباتٍ جويةٍ، لا تبقي من بعدها هذه الأسلحة بيد التنظيم، وتترك قوته التسليحية في حدود الأسلحة الخفيفة، وربما المتوسطة، في نطاقها المحدود جداً.
مع الهالة الإعلامية الغربية المبالغ بها، والهزائم (غير المفسرة) لقوى الجيش والأمن العراقية، كان هناك مشروع آخر ينتظر هذه الظروف، ليعلن عن نفسه، ولينمو بشكل سريع ومريب، مشكلاً قوة عسكرية كبيرة وخطيرة، لا تتبع الدولة العراقية بأي شكل (إلا ظاهرها)، ذاك هو “الحشد الشعبي العراقي”، لتكتمل مع هذا التنظيم الطائفي المرتبط بولاية الفقيه الإيرانية، أضلاع المشروع المكمّل لصورة الإسلام المطلوب تعميمها للمتلقيين، الغربي والشرقي؛ والتي تختصر بصورتين رئيسيتين، إحداهما، تنظيم الدولة الإسلامية، بما بث أو بث باسمه من عشرات المواد الفيلمية والإعلامية المرتبطة بالحدود المنفذة بطرق بشعة، والآخر هو “الحشد الشعبي” الذي شهد العالم كله جرائمه (وليس تجاوزاته) بحق المدنيين، وأساليب تنفيذ الممارسات أو القتل الممنهج طائفياً بحق الآخرين، تكريسا للصورة الإرهابية والمتخلفة عن المسلمين والإسلام.
قال الباحث السويدي، ماتياس غارديل، إن “فوبيا” الإسلام “الإنتاج الاجتماعي للخوف والتحامل على الإسلام والمسلمين، بما في ذلك الأفعال الرامية إلى مهاجمة التمييز ضد أو عزل أشخاص بناءً على افتراضات ارتباطهم بالإسلام أو المسلمين”. ووصفه باحثون آخرون بأنه “من أشكال العنصرية”، تتزايد وطأته بسبب تزايد عدد المهاجرين المسلمين إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشكل واضح.
إذن، ومع توقعات المراقبين بزوال دولة “الخلافة” الخاصة بتنظيم داعش، هل ستنخفض
مستويات “فوبيا” الإسلام في أوروبا و الولايات المتحدة؟ الظاهر يقول نعم، لكن المخفي ربما يكون أمر وأدهى؛ فحالة القهر المتعمد للشعوب وإهانة أنظمتها الوطنية أو الرسمية، مهما كانت الخلافات بشأنها، وتقرير المصير عن بعد بشكل سافر، وصناعة الحوافز الإرهابية ورعايتها بأشكال متعددة، وغير ذلك من مقوّمات ولادة موجات جديدة من أجيال من أبناء المسلمين تشعر بالقهر والظلم، ثم تجد من يمسك بيدها، ويأخذها إلى حيث القيم الإسلامية الرافضة للظلم، ولكن بطرقٍ غير منضبطة، يختلط فيها الأبيض والأسود، فيصير فيها كل من يمثل هذه الدولة الغربية أو تلك هدفاً مشروعا للتنفيس عن حالة الغضب “المشرعن”، فتعاد صياغة “فوبيا” الإسلام بشكل أعنف.
لن يختفي تنظيم الدولة الإسلامية من ساحات الصراع، فدوائر كبرى للسياسات الأمنية والاستراتيجية تعمل على ترويج فكرة أنه سيغير مكانه فقط، وأن أيديولوجيا التنظيم سترتدي أثواباً جديدة تحشّد الطاقات للشباب المتحمسين للثأر، بما يؤثّر على استقرار منظومة الأمن العالمي، فتتحوّل “الفوبيا”، في توقيتٍ ما، إلى حربٍ مكشوفة، تلفظ المسلمين خارج دوائر القدرة على البناء والفعل، بعد تجريدهم من كل مقومات الاقتصاد والسياسة.