من الخطير جداً على الصحفيين العمل في المناطق التي يسيطر عليها الثوار في حلب والموصل. لكن هناك جوعاً هائلاً للأخبار القادمة من الشرق الأوسط، لذلك ثمة إغواء لوسائل الإعلام بإعطاء الصدقية للمعلومات التي تحصل عليها من جهات غير موثوقة.
* * *
بيروت- يحاول عمال الإنقاذ والسكان سحب رجل من تحت ركام بناية في أعقاب ما قيل أنها غارة جوية على ضاحية الصالحين الخاضعة لسيطرة الثوار في شمالي مدينة حلب السورية.
ويحاول الجيش العراقي المدعوم بالضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة استعادة شرق الموصل في الوقت نفسه بينما يقاتل الجيش السوري وحلفاؤه من الميليشيات الشيعية شبه العسكرية لشق طريقهم إلى داخل شرق حلب. ويقدر أن حوالي 300 مدني قد قتلوا في حلب بسبب القصف المدفعي والغارات الجوية من قوات الحكومة في الأسبوعين الأخيرين، فيما ذُكر أن 600 قتيل سقطوا في الموصل على مدار أكثر من شهر.
على الرغم من هذه التشابهات، فإن تغطية وسائل الإعلام الدولية لهذين الحصارين تختلف بشكل جذري.
في الموصل، ينحى باللائمة في مقتل المدنيين على “داعش” بسبب استخدامه العشوائي لقذائف المورتر والمفجرين الانتحاريين، في حين يُعطى الجيش العراقي والدعم الجوي المقدم له مروراً حراً في الجزء الأكبر. ويُتهم “داعش” بمنع المدنيين من مغادرة المدينة لكي يتم استخدامهم كدروع بشرية.
قارن بين هذا وبين أوصاف الإعلام الغربي للوحشية غير الإنسانية لقوات الرئيس الأسد التي تذبح المدنيين بطريقة عشوائية، بغض النظر عما إذا كانوا يمكثون أو يحاولون الهرب. وكان رئيس الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، ستيفان أوبريان، قد أشار الأسبوع الماضي إلى أن الثوار في شرق حلب يمنعون مغادرة المدنيين -لكن هذا الخبر، على النقيض من الحال في الموصل، حظي بالقليل من التغطية.
أحد العوامل التي تجعل من حصاري شرق حلب وشرق الموصل مشابهين كثيراً، ومختلفين أيضاً، عن حالات حصار سابقة في الشرق الاوسط مثل حصار إسرائيل لبيروت في العام 1982 أو غزة في العام 2014، هو أنه ليس هناك تواجد للصحفيين الأجانب المستقلين. وهم غير موجودين هناك لسبب وجيه جداً، هو أن “داعش” يأسر ويقطع رؤوس الأجانب، في حين أن جبهة النصرة، التي كانت حتى وقت قريب تابعة لتنظيم القاعدة في سورية، أقل تعطشاً للدم قليلاً فقط، والتي تعتقل الأجانب بشكل عام من أجل الحصول على فدية.
هاتان هما المجموعتان اللتان تهيمنان على المعارضة المسلحة في سورية ككل. وفي حلب، وعلى الرغم من أن حوالي 20 في المائة فقط من أصل 10.000 مقاتل ينتمون إلى جبهة النصرة، فإنهم هم الذين يقودون المقاومة هناك -سوية مع حلفائهم من “أحرار الشام”.
لذلك، لا غرابة في أن الصحفيين الأجانب الذين يغطون التطورات في شرق حلب وفي المناطق التي يسيطر عليها الثوار في سورية يقومون بالتغطية على الأغلب من لبنان أو تركيا. أما العدد القليل من المراسلين الجريئين الذين حاولوا التغطية كشهود عيان من المناطق التي يسيطر عليها الثوار، فسرعان ما وجدوا أنفسهم وقد ألقي بهم في صناديق السيارات أو قيد الاعتقال.
تظهر التجربة أن المراسلين الأجانب كانوا محقين تماماً عندما لم يثقوا بتسليم أرواحهم حتى للجهات الأكثر اعتدالاً من المعارضة المسلحة في سورية. لكن من الغريب أن تستمر المنظمات الإعلامية نفسها في وضع ثقتها في صحة ودقة المعلومات التي تأتي من مناطق تقع تحت سيطرة نفس هؤلاء الخاطفين المحتملين وآخذي الرهائن. ربما تدافع هذه المنظمات عن نفسها بقول أنها تعول على ناشطين غير منحازين، لكن كل الأدلة تشير إلى أن هؤلاء يستطيعون العمل في شرق حلب فقط بموجب ترخيص من المجموعات التي من نوع تنظيم القاعدة.
من الحتمي أن حركة معارضة تقاتل دفاعاً عن حياتها في زمن الحرب ستنتج فقط، أو تسمح للآخرين بإنتاج معلومات تكون في الأساس دعاية لجانبها الخاص. وليس الخطأ من هذه الحركات، وإنما من الإعلام الذي يسمح لنفسه بأن يتم إطعامه بالملعقة بقصص مشكوك فيها أو أحادية الجانب.
على سبيل المثال، تركز الأفلام التي تجيء من شرق حلب في الأسابيع الأخيرة بشكل حصري تقريباً على مشاهد تمزق القلب من المآسي الإنسانية، مثل مقتل المدنيين أو تشويههم. ونادراً ما يشاهد المرء صوراً للعشرة آلاف مقاتل، سواء كانوا جرحى أم أحياءً وفي حالة جيدة.
لا شيء من هذا جديد. فقد بدأت الحروب الحالية في الشرق مع غزو العراق تحت القيادة الأميركية في العام 2003، والذي كان مبرراً بالتهديد المفترض من امتلاك صدام حسين أسلحة للدمار الشامل. وقد ذهب الجزء الأكبر من الصحفيين الاجانب مع هذه الفرضية، واستشهدوا بسعادة بالأدلة من المعارضة العراقية التي أكدت -على نحو متوقع- وجود أسلحة دمار شامل في ترسانة صدام.
بعد ذلك، وجد بعض أولئك الذين نسجوا تلك القصص لاحقاً الشجاعة لانتقاد المعارضة العراقية على تضليلهم، كما لو أنه كان لديهم أي حق في توقع الحصول على معلومات غير منحازة من أناس كانوا قد كرسوا كل حياتهم للإطاحة بصدام حسين، أو، في هذه الحالة الخاصة، جعل الأميركيين يفعلون ذلك نيابة عنهم.
وكان الكثير من نفس السذاجة الإعلامية الخادمة للذات حاضراً في ليبيا خلال انتفاضة العام 2011، التي دعمها الناتو وأطاحت بالعقيد معمر القذافي.
قصص الفظاعات التي خرجت عن المعارضة الليبية، والتي ثبت لاحقاً أنها لا أساس لها، وفق منظمات معنية بحقوق الإنسان، سرعان ما تم ترويجها لتتصدر عناوين الأخبار مهما كان مصدرها منحازاً.
الحرب السورية صعبة التغطية بشكل خاص لأن “داعش” والتنظيمات المختلفة التابعة للقاعدة جعلوا عملية التغطية من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة خطيرة جداً. وثمة جوع كبير للأخبار القادمة من مثل هذه الأماكن، ولذلك هناك إغواء لوسائل الإعلام بمنح المصداقية للمعلومات التي تحصل عليها من أناس يستطيعون العمل في الممارسة إذا كانوا ينتمون إلى مجموعات معارضة جهادية مهيمنة، أو يتعاطفون معها.
عادة ما تكون نقطة ضعف عند الصحفيين أن يتظاهروا بأنهم يستخلصون الحقيقة، بينما يكونون في الحقيقة موصلاً أكثر منهم مولداً لمعلومات أنتجها آخرون بطريقة تخدم مصالحهم الخاصة. ويعلم الصحفيون في وقت مبكر أن الناس يقولون لهم أشياء لأنهم يروجون قضية ما، والتي ربما تكون في صلب مهنتهم أو تتصل بصراع داخلي بيروقراطي أو -مجرد احتمال- كراهية الكذب أو الظلم.
ثمة كلمة هنا دفاعاً عن المراسل الصحفي المتواضع في الميدان: عادة ما لا يكون هو/ أو هي، وإنما غريزة القطيع في المكتب في الوطن، هي التي تقرر قصة اليوم. وربما يكون أولئك الأقرب إلى موقع العمل متشككين في قصة مثيرة تتصدر الأخبار، لكنه ليس لديهم الكثيرون مما يستطيعون عمله إزاء ذلك.
وهكذا، في العامين 2002 و2003، كتب صحفيون عدة من صحيفة نيويورك تايمز قصصاً تشكك في وجود أسلحة الدمار الشامل لدى العراق، ليجدوا موضوعاتهم تُدفن في داخل الجريدة التي كانت تتصدرها عناوين تثبت أن صدام حسين يتوافر على أسلحة دمار شامل، وأنه يشكل تهديداً للعالم.
على الصحفيين والجمهور على حد سواء التعامل مع المعلومات كافة عن سورية والعراق بتحفظ وشك مبررين. ويجب عليهم أن يضعوا في الحسبان كلمات لخضر لبراهيمي، مبعوث الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الخاص سابقاً لسورية. ففي حديث بعد أن قدم استقالته حنقاً في العام 2014، قال: “إن لكل جهة أجندتها، ثم تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة مصالح الشعب السوري أو لا تأتي أبداً”.
يأتي هذا الاقتباس من “المعركة من أجل سورية: المنافسة الدولية في الشرق الأوسط الجديد” للكاتب كريستوفر فيليبس، وهو من أفضل التقارير المطلعة وغير المنحازة ينشر عن المأساة السورية. ويزن الكتاب بحكمة التفسيرات المتنافسة لما حدث ولماذا حدث. وهو يفهم الدرجة التي تم من خلالها تحديد أجندة ووتيرة التطورات في سورية من الخارج، من خلال تدخل قوى خارجية تسعى إلى خدمة مصالحها الخاصة.
بشكل عام، كان أداء خبراء الحكومة أفضل من أداء الصحفيين الذين اشتروا تفسيرات ساذجة للتطورات، واقتنعوا بأن الأسد كان دائماً على وشك الإطاحة به.
ويسجل فيليبس أنه عند نقطة مرتفعة من الانتفاضة الشعبية في تموز (يوليو) من العام 2011، عندما كان الإعلام يفترض أن الأسد قد انتهى، كتب السفير البريطاني في دمشق، سايمون كوليس، الذي خدم طويلاً في سورية: “ما يزال الأسد يعول ربما على دعم ما بين 30-40 في المائة من السكان”.
وكان السفير الفرنسي، إريك شيفاليير، حذراً على نحو مشابه، فقط ليتلقى توبيخاً كلاسيكياً من سادته في باريس، والذين قالوا: “معلوماتك لا تهمنا. بشار الأسد يجب أن يسقط، وسوف يسقط”.
باتريك كوبيرن
صحيفة الغد