نود أن نفتتح سلسة مقالاتنا للعام الذي تنبلج خيوط فجره هذه الأيام بتقديم بعض الأفكار حول كيفية النهوض والتعافي من الأزمة الوجودية التي تعيشها أمتنا العربية، والتي أسهبنا في وصفها في مقالاتنا الأخيرة حول المراجعة السنوية لعام 2016. فكم مرة سألنا القراء»ما العمل؟» عندما نكتب عن علل الوطن العربي العديدة. وسنحاول في هذا المقال أن نعيد إلى الأذهان بعض المُسلـّمات التي تجاوزها العالم إلا النظام العربي الواحد أو شبه الواحد.
نحن هنا لا نعيد اختراع العجلة بل نقرأ، كطلاب علوم سياسية وأصحاب تجربة أممية، ما توافقت عليه التجربة الإنسانية عبر العصور والثقافات والأديان والحضارات والمناطق الجغرافية، من مجموعة نظريات حول أنظمة الحكم لا ينكرها إلا من يخشاها، أو من تحد من سلطته أو تسحب منه امتيازاته أو تضعه أمام القانون أو تخضعه لمساءلة حول إهدار المال العام. فقد استقرت في أذهان الشعوب قاطبة أن مبادئ العدل والحرية والمساواة، أساس الحكم الرشيد، وفي غياب بعضها أو جميعها يغيب الولاء وينتشر التذمر، وتبدأ بوادر الرفض والتمرد والعصيان، وتتسع الهوة بين الحاكم والمحكومين، فلا يبقى من علاقة إلا تلك القائمة على القهر والاستبداد من الحاكم المتسلط والغضب والاحتقان بانتظار الانفجار من جهة المحكومين.
ومع انفراط عام آخر من الذل والهوان والضياع، لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن عقد الأمة ما زال مفروطا، ونحن نشاهد الاقتتال الداخلي وهدر الثروات وقمع الحريات، والتجاذب الطائفي والتمييز، واختلاط السلطات وغياب أي نوع من الحضور على الساحة الدولية. انظر ما يجري في فلسطين عامة وحصار غزة خاصة، وتأمل المشهد الدموي في سوريا، واسمع تفجيرات مصر ومأساة العراق والأعلام العديدة التي ترفع فوق أرضه، وتابع ما يجري من حرب الإخوة في اليمن وليبيا، وتفتت الصومال ومأساة دارفور، وحدود الجزائر والمغرب المغلقة منذ أكثر من 20 عاما، ثم انظر إلى التطبيع مع إسرائيل واستقبال وفودها والرقص معهم في أكثر من بلد، وانظر إلى مهزلة الانتخابات أو تعطيلها أو تغيير الدستور بناء على رغبة الحاكم ليبقى في كرسيه (حتى لو كان طبيا) إلى الأبد «أو يحرق البلد»، فهل يستطيع من بقي لديه شيء من ضمير ووعي وقلم أمام هذه الصورة القاتمة إلا العمل على تكوين رأي عام ضاغط باتجاه حلحلة الأمور وتحريك المياه الآسنة، وإطلاق صرخة في عتمة هذا الليل الدامس. إن هذه الصورة المأساوية، في رأينا، نابعة من غياب عدد من المسلمات تجاوزها العالم، إلا النظام العربي وسنختار منها ست مسلمات فقط تعتبر شروطا مسبقة في عملية النهوض الشامل الذي نريده لأمتنا كي تأخذ مكانها اللائق بين الأمم وتعود «ملعبا للعزّ ومغنى الشمم».
أولا: المواطنة المتساوية إذا لم يشعر المواطن الذي ينتمي لأقلية دينية أو عرقية أو ثقافية بأنه مواطن عادي له الحقوق نفسها وعليه الواجبات نفسها بنسبة 100% وليس بنسبة 99% مع الأغلبية، على الأقل أمام القانون، إذن سيظل يخفي شيئا في نفسه، وهذا الشيء القريب من الغبن قد يتطور إلى غضب فانفجار فهدم فتخريب. وما نهضت أمة شعر جزء من شعبها بأنه مغبون ومظلوم. وقارن بين سكان جنوب السودان وأكراد العراق وتيمور الشرقية وجنوب اليمن وكوسوفو مع سكان كيبيك وبورتوريكو وكورسيكا واسكتلندا وبافاريا لتعرف الجواب بنفسك. المواطنة المتساوية حقيقة لا شعارا، تصبح مظلة حماية للأقليات ومرجعية للتظلم أمام أي نوع من التمييز أو التهميش أو الاستعلاء أو الاضطهاد أو الإقصاء.
ثانيا: تداول السلطة لقد اختارت الغالبية الساحقة من دول العالم نظاما يتيح للمعارضة أن تصبح سلطة، وللسلطة أن تصبح معارضة لفترة زمنية يحددها الدستور لا يستطيع أحد أن يتجاوزها. تتنافس الأحزاب في جو من الحرية حول نيل رضى الغالبية، فينتخب الرئيس/الحزب الذي يقنع أغلبية الشعب بقدراته وإمكانات تحقيق وعوده، ويعاد انتخابه بناء على الإنجازات، أو يخسر الموقع إذا حصل العكس. النظام العربي، على عكس دول العالم (ما عدا الرفيق كيم جونغ أون) ما زال ملتزما بشعار «من القصر إلى القبر أو السجن»، فهل يعقل أن يكون مجموع سنوات الحكم لخمسة حكام عرب وصل إلى 150 سنة بمعدل 30 سنة للحاكم الواحد. وقد توفي بين عامي 1999 و2009 ستة حكام عرب حين أدركتهم المنية هرما وكان مجموع سنوات حكمهم 200 سنة بالضبط، بمعدل 33.3 سنة لكل منهم. ثم هل يعقل أن دولا غير ملكية قرر حكامها الأشاوس أن يورثوا أولادهم لتسلم الحكم، وهو ما ساهم في انفجار الأوضاع في تلك البلدان قبل غيرها.
ثالثا: سيادة القانون في معظم إن لم يكن في كل دول العالم تتبع الدولة دستورا وافقت عليه أغلبية السكان، عبر استفتاء عام أو عبر مراجعات وتعديلات يقوم بها البرلمان المنتخب، إلا المنطقة العربية تحت حجج واهية أو قــــوانين طوارئ. والدسـتور في الدول العربـية، إن وجد، مفصل على مقاس الحكام يغيرونه متى يشاؤون ويدوسون عليه في كل يوم وهم يستعدون للتوريث أو التمديد. في كل بلد منظومة من القوانين لا تتعارض مع الدستور تحكم علاقات الناس ببعضهم وبالسلطة، ويلتزم بها جميع أبناء البلاد، فكل كبير يصبح صغيرا إذا ما طاله القانون، حتى لو كان رئيس البلاد، والصغير يصبح كبيرا إذا ما كان القانون إلى جانبه. أما في الدول العربية كلها فهناك نوعان من الناس: نوع فوق القانون مهما عمل واغتصب ونهب وســـرق وخان أو فرط، ونوع يطالهم القانون المفصل أصلا لملاحقتهم وإسكاتهم وزجهم في السجون، فهم صغار الناس وفقراؤهم الذين لا يحميهم أحد من بطش أجهزة الدولة المتعددة بحجة تطبيق القانون.
رابعا: جماعية اتخاذ القرارفي معظم دول العالم هناك حلقات معقدة تساهم في اتخاذ القرار، بعدما ثبت أن القرارات الجماعية دائما أصوب من القرارات الفردية، إلا في المنطقة العربية. فالقرار متروك لرجل واحد تشاركه أحيانا زوجته المصون أو ولده «الذكي» أو أحد ندمائه المخلصين. تلك القرارات الفردية تؤدي أحيانا إلى كوارث وطنية يدفع الشعب بمجمله ثمنا باهظا لها على مدى السنين والأجيال. فمثلا لو كان في العراق مجلس وزراء حقيقي أو برلمان منتخب أو صحافة حرة أكان ممكنا أخذ قرار غريب مغامر متهور مثل قرار احتلال الكويت؟ ولو كانت هناك آلية جماعية لاتخاذ القرار في سوريا أو ليبيا أو اليمن، ألم يكن ممكنا تجنب الكوارث التي أصابت البلاد والعباد وأعطت فرصة للمتربصين بتك البلاد فرصا ذهبية للتسلل من خلال الشقوق وتدميرها وقيام حركات تكفيرية تساهم بهذا التدمير تحت راية الإسلام المفصل على مقاسها؟ في الولايات المتحدة مثلا هناك سبع دوائر تساهم أو تحاول أن تؤثر في اتخاذ القرار: الرئيس، الوزارة المعنية، مجلسا الشيوخ والنواب (الكونغرس) الصحافة والإعلام، الشركات الكبرى، جماعات الضغط والرأي العام.
خامسا: حرية الدين والمعتقد لقد تجاوزت الدول جميعها مسألة فرض فكر أو عقيدة أو أيديولوجية على أحد كما نص على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في كل الدنيا، عدا المنظومة العربية وبعض الدول الإسلامية، يحق للفرد أن يمارس حريته في اتباع الدين الذي يشاء أو المعتقد الذي يقتنع به ويغير أفكاره متى يشاء، وينتقل من معتقد إلى آخر دون محاسبة أو ملاحقة قانونية. أما في الوطن العربي فقد تأخذ مجموعة من المتعصبين وتحت سمع وبصر الحكومة، أو بتشجيع منها القانون بأيديهم فيلاحقون كل من يخالفهم الرأي ويصنفون الناس تصنيفا يفتت أبناء الوطن الواحد، ويحاولون تطليق الزوجة من زوجها ولا يتورعون عن إطلاق النار على من يجاهرهم في الخلاف، حتى لو حاول أن يرد عليهم «بالحكمة والموعظة الحسنة» مستبدلين آية «لا إكراه في الدين» بآيات من عندهم تـبرر الإكراه والعنف. نحن لا نعيش في زمن محاكم التفتيش ولا ديوان الزندقة، ولا يوجد أحد يملك وكالة إلهية تفوضه أن يحاسب الناس قبل يوم الحساب أو يفتش قلوبهم ليقيس مدى إيمانهم. ولنتذكرضحايا التعصب من المفكرين والمبدعين من فرج فودة إلى حسين مروة، ومن مهدي عامل إلى ناهض حتر ومن نصر حامد أبو زيد إلى نجيب محفوظ.
سادسا: المساواة التامة بين الرجال والنساء إن كل ما يقال عن مساواة المرأة بالرجل في البلاد العربية مجرد إنشاء. فبدون أن تثبت هذه المساواة في الدستور، وتغير القوانين لتعكس هذه المساواة بالفعل لا بالقول، فكل حديث عن المساواة يصبح مجرد ذر للرماد في العيون. فأي مساواة والمرأة ما زالت محرومة من إعطاء جنسيتها لأبنائها؟ وأي مساواة والمرأة لا تستطيع أن تقود سيارة في بعض الدول أو تسافر دون محرم؟ وأي مساواة وما زال الرجال يضحون بالمرأة حفاظا على شرفهم بينما يمارسون موبقاتهم بفخر واعتزاز؟ تعامل المرأة على أنها إنسانة ناقصة العقل، صوتها عورة ومشيتها فتنة ووجها يثير القلاقل ثم يتحدثون عن المساواة. إن الفرق بين المرأة والرجل في عصرنا هو العلم والعلم فقط. فالمرأة المثقفة المهنية الماهرة المدربة المتفتحة المستقلة اقتصاديا وفكريا تساوي قطيعا من رجال أميين متخلفين معتدين بشنباتهم فقط. وانظروا إلى أعداد النساء اللواتي يقدن بلادهن إلى العزة والكرامة والتقدم كتشيلي وألمانيا وكوريا الجنوبية والبرازيل والأرجنتين وبريطانيا وبنغلاديش والدنمارك وكوسوفو وليبيريا ولتوانيا والنرويج.
هذا غيض من فيض شروط التقدم. ويمكننا الإسهاب أكثر للحديث عن نظام المساءلة وحرية الصحافة وحرية التعبير وحرية التجمع. لكن كل هذه الشروط تصبح تحصيل حاصل إذا ما أقيمت دولة العدل والقانون والمؤسسات التي لا تخضع لرغبات الملك أو الرئيس أو الأمير أو السلطان، بل يحكمها الدستور وتكون السيادة فيها للقانون.
ما زلنا نراهن على تونس أن تكون الدولة النموذج التي تسير في هذا الاتجاه وتتنتصر رغم «الداء والأعداء كالنسر فوق الصخرة الشماء»، كما بشرنا شاعرها العظيم قبل نيّف وثمانين سنة.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د.عبدالحميد الصيام
صحيفة القدس العربي