في الوقت الذي تعمل فيه روسيا وتركيا وإيران على تقاسم سوريا، وتبدو فيه المعركة لاستعادة الموصل بقيادة الولايات المتحدة متأرجحة في حالة حياد، ويخوض فيه أبرز حليفين عربيين لأمريكا هما مصر والسعودية حرب استنزاف باردة خاصة بهما، كيف يمكن للمرء تفسير قرار إدارة أوباما بتمضية آخر أيام ولايتها مركّزة على ترسيخ إرث قائم على انتقاد إسرائيل تحت مظلة الإعلان عن حماية حلّ الدولتين للصراع مع الفلسطينيين؟ فيما يلي بعض الملاحظات:
• كانت وجهات نظر الرئيس أوباما متناسقة بشكل ملحوظ بأن توسيع المستوطنات الإسرائيلية يشكّل العائق الأساسي أمام أي تقدّم نحو تحقيق السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. وقد كانت وجهة النظر هذه وراء قرار الرئيس الأمريكي بتجاهل التفاهم الدقيق والبنّاء لسلفه مع إسرائيل بشأن الموضوع إلى جانب مطلبه غير المدروس بتجميد كامل لأنشطة البناء الإسرائيلية عند حدود عام 1967، بما في ذلك في القدس. وقد اضطلع هذان العاملان على السواء بدور أساسي في وصول دبلوماسية إحلال السلام إلى طريق مسدود. وبالفعل، وبالرغم من كافة احتجاجاته، يُعتبر الرئيس أوباما أول رئيس تنفيذي منذ عهد الرئيس جونسون لا يحقّق أي إنجاز أو حتى يُحرز تقدّماً باتجاه تحقيق السلام العربي-الإسرائيلي أثناء فترة رئاسته. ويشير واقع انتهاء إدارة أوباما من حيث بدؤها، مع تركيز شبه استحواذي على أنشطة بناء المستوطنات الإسرائيلية باعتبارها المفتاح لإطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط، إلى أنها لم تتعلم أي شيء تقريباً من خبرتها خلال السنوات الثماني الماضية.
• عبر وضع الخلاف حول المستوطنات ضمن منظور أوسع، يسلّط سجل إدارة أوباما تجاه إسرائيل الضوء على واقع مخالف لبعض الأفكار المسبقة: من المكن أن تجمع بين البلدين روابط عسكرية واستخباراتية وثيقة فضلاً عن علاقات استراتيجية وسياسية متوترة، وباردة ومتصدعة في الوقت نفسه. ومنذ أولى أيام أوباما في البيت الأبيض، تبدّدت الألفة والصداقة بين واشنطن والقدس التي ميزت إداراتي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش حين كانت تُعقد اجتماعات مغلقة بين الرئيسين الأمريكيين ورؤساء وزراء إسرائيل وتشكل بالفعل اتفاقات قائمة على تلاقي الرؤى، وحين كانت تتم مشاركة الخطابات قبل الإدلاء بها، ويتم تبادل الأفكار بشكل سري وغير رسمي، وما إلى ذلك. وفي حين استمرت القيادة الإسرائيلية على المنوال نفسه من دون شك – نتذكر خطاب رئيس الوزراء نتنياهو المثير للجدل في الكونغرس – كان فريق أوباما هو الذي جاء إلى السلطة عازماً على تغيير الديناميكيات البشرية للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية لجعلها علاقة أكثر “طبيعية” وأقل “تميّزاً”. وناهيك عن الدعوة العقيمة لتجميد بناء المستوطنات، امتدّ هذا “التطبيع” ليشمل قرارات إستراتيجية بالفعل بعدما رفضت واشنطن مشاركة إسرائيل أي معلومات حول المفاوضات السرية مع إيران بشأن برنامجها النووي. وتشير الإدارة الأمريكية بشكل صحيح إلى مذكرة التفاهم الجديدة الممتدة على عشرة أعوام بشأن المساعدات العسكرية باعتبارها المؤشر الأوضح على التزامها بأمن إسرائيل ورفاهها، لكن من المهم التنويه بأن اتفاقاً حول مساعدة أمنية، كان الكونغرس سيموّلها على الأرجح في أي حال، كان له ثمن بالنسبة لإسرائيل – وهو طلب غير مسبوق من جانب البيت الأبيض بأن ترفض إسرائيل وتعيد أي أموال إضافية قد يقرر الكونغرس الجديد تخصيصها لحاجات إسرائيل الدفاعية فضلاً عن الإلغاء التدريجي لامتياز المشتريات الخارجية الذي تمتعت به إسرائيل لفترة طويلة. وقد يكون لوجود رئيس تقدّمي يدعم عقداً من المساعدات الأمنية ميزات سياسية بالنسبة لإسرائيل، لكن إن تمّ جمعها، سيَظهر أن الصفقة السخية من المساعدات العسكرية الأمريكية، بغض النظر عن حجمها الكبير، أقل سخاءً مما تبدو عليه.
• على الرغم من أن الأمر ليس جلياً تماماً، لا يمكن للمرء أن يفصل انتقاد إدارة أوباما لإسرائيل في نهاية ولايتها عن جوانب إستراتيجيتها الإقليمية الأوسع نطاقاً: أي التحرر من “مستنقع” مشاكل الشرق الأوسط، وإعادة التوازن بين إيران وأعدائها السنّة اللدودين (وفي هذه الحالة، الدولة اليهودية عدوة إيران)، والترحيب على أرض الواقع بروسيا كلاعب رئيسي في “اللعبة الإقليمية العظمى”. وفي حين هناك أسباب إيديولوجية قوية لإقدام إدارة أوباما على إعاقة حركة حكومة نتنياهو على الصعيد السياسي، يؤدّي الابتعاد عن إسرائيل أيضاً إلى إضعاف “فريق” الدول الموالية للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة، مما يعزّز بالتالي الرواية الإستراتيجية الثلاثية الأبعاد المذكورة أعلاه. لكن ما تمّ تجاهله عموماً هو أن هذه الإستراتيجية أسفرت عن واقع أن الولايات المتحدة وحلفاءها هم اليوم في أضعف موقف إقليمي، على الأقل منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وربما منذ أزمة السويس عام 1956، مما يجعل الأمر إما عبارة عن فشل ذريع أو نجاح باهر، ويتوقف ذلك على هدف كل طرف، لكنه من دون شك أمر كبير في كلا الحالتين.
ولحسن الحظ، يمكن إصلاح ذلك بالصلابة والحكمة والقيادة. فيمكن تصحيح العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية من خلال إدارة جديدة عازمة على إعادة العلاقة الحميمة والهدف المشترك إلى هذه الشراكة. حتى أنه بإمكان واشنطن تعزيز عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية إذا كان البيت الأبيض على استعداد للتفكير خارج حدود المبادئ الفاشلة القائمة على العمل من القمة إلى القاعدة التي أعرب عنها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بشغف كبير، إن لم نقل بإيجاز شديد. وبدلاً من ذلك، ثمة إمكانية فعلية لإحراز تقدّم إذا سعت الإدارة الجديدة وراء أفكار إبداعية لدبلوماسية تصاعدية، وجهود مستمرة لبناء الدولة، وإصلاح مؤسسي فلسطيني وتفاهمات واقعية مع إسرائيل حول بناء المستوطنات التي تُميز بين المناطق التي يُفهم على نطاق عالمي تقريباً أنها ستبقى داخل إسرائيل في ظل أي اتفاق مستقبلي وبين القيود المتفق عليها حول البناء في أماكن أخرى.
إلا أن أياً من هذه الأمور لا يمكن أن ينجح حقاً ما لم تقرّر إدارة ترامب التعهّد بالتزام متجدّد أوسع نطاقاً للقيادة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، داعمةً حلفاء أزعجهم اختفاء أمريكا؛ منهيةً العداء بين الأصدقاء وفي أوساطهم (على سبيل المثال مصر في وجه السعودية) الذي تفاقم بسبب عدم وجود قيادة أمريكية ثابتة لاتجاه العلاقات وأسفر عن إضعاف الأمن المشترك للولايات المتحدة وهذه الدول؛ متصدّيةً للمكاسب الأمنية والسياسية غير المرتقبة التي تمتعت بها إيران وعملائها المحليين ويبدو أن واشنطن قدّمتها كمكافأة لقاء الاتفاق النووي؛ ومساعدةً على رسم الخريطة الإستراتيجية لشمال الشرق الأوسط ما بعد حلب/و(إن شاء الله) ما بعد الموصل.
وفي حين أن إدارة ترامب قد تتسلّم السلطة وهي تتوق إلى عكس الدوامة السلبية للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، ينبع الضرر الفعلي لهذه العلاقة من أمر أعمق من قرار مؤسف أصدره مجلس الأمن الدولي، ومن هوس في غير محلّه بالمستوطنات أو ضغينة شخصية ضدّ أي سياسي إسرائيلي. بل إن الضرر الفعلي لأمن إسرائيل يأتي من شيء أعمق وهو تردّد وإحجام راعي إسرائيل النافذ عن الاضطلاع بهذا الدور. وما لم يكن الرئيس الجديد راغباً في الاستثمار في إستراتيجية جديدة تماماً للقيادة الأمريكية، لا يمكن لأي قدر من الشعور بالإرتياح والربت على الظهر بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إصلاح الضرر اللاحق بالمصالح الأمنية الأساسية الذي عانته إسرائيل في السنوات الأخيرة نتيجة تراجع دور ونفوذ حليف الدولة اليهودية الذي يتمتع بقوة عظمى.
روبرت ساتلوف
معهد واشنطن